يرجع مختصون الانهيارات المتكررة التي تشهدها العمارات القديمة بمختلف ولايات الوطن وما ينتج عن ذلك من ضحايا إلى اعتماد عمليات صيانة سطحية وغير مدروسة يغلب عليها الطابع الاستعجالي وإلى تعديلات يلجأ إليها السكان بشكل عشوائي وعمليات توسعة تضر بالهيكل العام للبنايات، إضافة إلى غياب عنصر الصيانة ما يجعل الإنهيارات جزءا من يوميات قاطني البناء القديم سواء الكلونيالي أو العثماني بمدن كبرى مثل العاصمة قسنطينة وهران و سكيكدة، أين وقعت حوادث مميتة ناتجة يرى المختصون أن مسؤوليتها مشتركة.
بن ودان خيرة
الدكتور إبراهيم بن يوسف المختص في علم اجتماع العمران
الترميمات يجب أن تخضع لرهانات ثقافية لا إدارية
قال الدكتور، إبراهيم بن يوسف، المختص في علم اجتماع العمران، بأن تصنيف و فرض ترميم العمارات القديمة، يجب أن يخضع لرهانات مجتمعية ثقافية، تؤخذ بعين الاعتبار، فلا يمكن تصنيف أي شيء وفق أولويات و رهانات إدارية فقط، عادة ما تأخذ  سنوات للتعامل مع الملف، نظرا لإخضاعه أيضا لرهانات مالية بسبب التكاليف الباهظة، كما يجب إخضاعه كذلك لرهانات قانونية، فالتصنيف و الترميم يتطلبان إعادة إسكان القاطنين بالعمارة و إعداد خطة لتنفيذ المشروع الذي يستلزم بعد إنهائه، تغير ملكية البناية لتعود للأملاك العمومية و اعتبر الدكتور بن يوسف أن العامل الإنساني في الجزائر يساهم بشكل كبير في عوامل تدهور المباني القديمة، نظرا لارتفاع نسمة قاطنيها و ضغط الاستعمال.
و هذا راجع، حسبه، إلى نقص المساكن مقارنة بالنمو السكاني المتزايد و كثرة الإنجاب، حيث أن قلة عرض السكن أمام الطلب المرتفع، شكلا ضغطا داخل الشقق التي أصبحت تضم أكثر من أسرة، كما أرجع السبب أيضا لغياب الصيانة، التي هي عامل إنساني و ثقافي بالدرجة الأولى ينعكس على صحة المباني، ففي ثقافة الجزائريين لا وجود لمفهوم الصيانة لديهم، خاصة إذا تعلق الأمر بالمباني العمومية و الأجزاء المشتركة.
كما أوضح المتحدث، بأن العمارة لا تخضع للصيانة الدورية و إنما تستغل حتى فنائها «فكل ما هو مشترك و عمومي و خارج عن دائرة الخاص، يخرج عن دائرة مسؤولية الفرد في ثقافة الجزائريين و لازال يطلق عليه تسمية البايلك».
و أبرز الدكتور بن يوسف، بأن العمارة المشتركة و العمومية، هيكل عمراني حديث في تاريخ الجزائر، جاء مع الاستعمار الفرنسي خاصة، عند بدء مشاريع تخطيط المساكن الكبرى و الجماعية لضبط الرقابة و لامتصاص غضب ما يطلق عليه اسم «الآهالي» مثل «مشروع ديغول في قسنطينة» و عمارات «ديار المحصول» و «ديار الجماعة» و «ديار الشمس» في العاصمة إلخ، إلى جانب استغلال الجزائريين لهروب المعمرين غداة الاستقلال و سارعوا لشغل العمارات التي كانوا يقطنونها في كبريات المدن و منها وهران و قسنطينة و الجزائر.
لكن، حسب محدثنا، فقد ظلت تلك البنايات تابعة للدولة لا يمتلكها الخواص و تتولى تسييرها و صيانتها مؤسسة عمومية تعين مشرف عنها في كل عمارة، يطلق عليه تسمية «السانديك»، الذي يعين حاجبا لها و هو «الكونسيارج»  و القائم عليها، لغاية الثمانينات، حين تمت خوصصة الشقق التي أصبح يمتلكها أفراد و لكن لا أحد يتكفل بإدارة و صيانة الأجزاء المشتركة، فحدث فراغ رهيب في التأطير القانوني في التسيير و الصيانة للمشترك في العمارة و لهذا العامل أثر بالغ في تدهور صحة العمارة التي بدأت تتآكل هياكلها على مر السنين، دون إيلاء السكان أية أهمية لهذه الوضعية، بل ساهموا في»تسريع وتيرة التآكل» بفعل التغييرات التي أحدثوها داخل منازلهم دون مراعاة المقاييس و خصوصية هيكل العمارة و لا قدرتها، فمنهم من ألغى حائطا ساندا « mur porteur دون أن يدري أنه بهذا الفعل أصبح يهدد العمارة كلها و رغم كل هذا، فلا أثر لإطار قانوني ينظم و يضبط هذه السلوكات.

الدكتورة بولفضاوي فاطمة الزهراء مختصة في الديموغرافيا
 بناء غرف فوق الأسطح أبرز عوامل الانهيارات
و أوضحت الدكتورة، بولفضاوي فاطمة الزهراء، المختصة في الديموغرافيا، بأنه لا يمكن حاليا التطرق لموضوع أثر النمو الديموغرافي على تدهور حالة البنايات القديمة، لأن آخر إحصاء لسكان هذه المناطق، يعود لحوالي 12 سنة مضت أي منذ 2008، و هذا لا يسمح للباحث الجزم بأية معطيات، مع تعذر القيام بدراسة في هذا الشأن في الوقت الحالي.
و استندت الدكتورة في حديثها مع النصر، على معارفها الشخصية كباحثة، حيث أرجعت أهم أسباب الانهيارات التي تشهدها بعض العمارات بوهران مثلا، إلى البناءات الجديدة فوق الأسطح و التي غالبا ما ينجزها شباب العمارة عندما يتزوج أحدهم و يتعذر عليه الإقامة في الشقة العائلية و في هذا الشأن، فإنه يكفي أن يقوم أي أحد بمعاينة خارجية للعمارات القديمة، ليلاحظ الطابق الإضافي في أعلى العمارة التي يضم أيضا ما كان يسمى «ببيت الغسيل»، أين من المفروض يتم غسل الألبسة و تجفيفها في السطح، لكن تحولت إلى غرف «للكناين» وفق المنطوق المحلي، علما بأن وهران شهدت السنة الماضية،  ظاهرة حركها  شباب عمارات «سيتي بيري» بوسط المدينة، الذين شرعوا في إنجاز غرف لهم فوق أسطح عماراتهم و اضطرت السلطات المحلية و الأمنية لتطويق المكان لعدة أيام و التفاوض مع هؤلاء الشباب الذي تمرد على قرارات الإدارة، للعدول عن هذا الفعل الخطير على العمارات و قاطنيها.
و تضيف الدكتورة بولفضاوي، فإن مثل هذه الإنجازات تؤثر سلبيا على أساسات العمارات التي يوجد منها التي هي مبنية دون أساس مطابق للمعايير و بالتالي قد تسقط في أية لحظة و دون سابق إنذار، مشيرة كذلك إلى أن التغييرات داخل الشقق تندرج في قائمة العوامل الخطيرة التي ساهمت في تدهور حالة العمارات القديمة، مثل تهيئة بعض الأجزاء مثل المطبخ أو الحمام أو نزع جدار فاصل بين غرفتين و غيرها و هي أشغال تتم من طرف بنائين «ماصو» دون خبرة في مجال السكنات القديمة و لا دراسة و لا رأي مهندس مختص و لا يتم تدارك الأمر إلا عندما تسقط الجدران على رأس قاطني الشقة، يضاف إليها عامل تهيئة شبكة صرف المياه التي تربط كل سكان العمارة، حيث تتم الأشغال من طرف أشخاص غير مختصين في التعامل مع هذه الشبكات التي تعود للقرنين الماضيين على الأقل «، بالنظر لأن بعض البنايات بوهران تعود للتواجد الإسباني في القرن 18» و بالتالي فإن المساس بجزء من الشبكة قد يشكل كارثة بيئية و عمرانية على كل سكان العمارة و هذه العوامل لا ينتبه لها السكان، إلا بعد وقوع الكارثة.

حسب دراسة للدكتورة طهراوي فاطمة باحثة في الجغرافيا
تغييرات مورفولوجية غيرت وظيفة السكنات
  قامت  الدكتورة، طهراوي فاطمة، المختصة في علم الجغرافيا و التهيئة القطرية،  بدراسة في سنوات التسعينات  نشرت في  مجلة «إنسانيات» التي يصدرها مركز البحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية و الثقافية «كراسك» وهران و كان البحث بعنوان « التحولات المورفولوجية و الوظيفية للسكن و آثارها على المحيط العمراني في الجزائر: دراسة حالة وهران»، استقينا من ملخصها بأنه و منذ الاستقلال، أجرى قاطنو السكنات بالمدن، تدخلات شتى على الإطار المبني و خاصة منذ الثمانينات، بعد فترة تخلي السكان عن صيانة المساكن التي أصبحوا يملكونها، حتى أصبحت تلك التدخلات توحي بأن ما يهمّ من المبنى و حتى من المدينة نفسها، هو الجانب الوظيفي، أمّا الجوانب الأخرى كالناحية الجمالية و الحضرية، فتبدو ثانوية و هذا السلوك ممتد منذ الاستقلال و إلى غاية اليوم.
حيث جاء في الدراسة، أن وهران مثلا عرفت ما بين 1962 و1964، فترة شغور الحظيرة السّكنيّة التي غادرها الأوروبيّون، مما ساهم في وفرة المساكن إلى غاية سنة 1964، حين اتخذت  الدّولة قرار تسيير هذه الأملاك و كانت 20 % من الحظيرة السّكنيّة بالمدينة فارغة، مما ساهم في تنشيط التحركات السكانيّة إلى وهران و اختلطت الفئات الاجتماعية في نفس العمارات و تصرّف السّكان بلامبالاة تجاه المباني و بعدم مراعاة قوانين تسييرها، ما أدّى إلى تدهورها.
و في سنة 1964، اتخذت الدّولة قرار تسيير «الأملاك الشّاغرة» لترميمها،  ما أجبر قاطني تلك المساكن على ضرورة تسديد ديون الإيجار منذ فترة إقامتهم فيها، لكن الكثير منهم غادر المكان لعدم قدرتهم على دفع ما تأخّر من مبالغ الإيجار، فالبعض رجع إلى منزله المتواضع في الأحياء الشعبيّة و البعض الآخر شيّد مسكنا متواضعا على أطراف المدينة و قد كلف ديوان التّرقية و التّسيير العقاري «أوبيجيي»، بمهمّة تّرميم 80 % من مباني وهران، التي كانت آنذاك في حاجة ملحّة لترميم استعجالي و لكن لم تكن مهمة الديوان سهلة، لتخبّطه في مشاكل ماليّة و تسييريّة، زاد في تعقيدها عدم عناية السّكّان بشققهم و تأخير دفع ثمن الإيجار أو أحيانا عدم دفعها تماما، فحال ذلك دون تحقيق أهداف سياسّة التّسيير العقاري المعتمدة من 1964 إلى 1981، مما دفع الدولة لإصدار قرار بيع جزء كبير من أملاكها لصالح القاطنين بأسعار زهيدة و بتسهيلات كبرى في دفع ثمن الشّراء.
و كان الهدف، أن يقوم الساكن بالترميم و الحفاظ على مسكنه و احتفظ ديوان الترقية و التسيير العقاري بـ 30 % من الحظيرة العقاريّة التي كانت في حالة يرثى لها و ترميمها يتطلب أموالا ضخمة تعذر توفيرها، بعد أن بلغت ديونه لدى المستأجرين، بما فيهم الشركات الوطنية، 20 مليار دينار سنة 1990.
و وفق الدراسة التي أنجزتها الدكتورة طهراوي دائما، فإنه و رغم هذه الوضعية المتدهورة للمساكن آنذاك، فقد أجرت الأسر الجزائرية التي خلفت الأوروبيين الذين غادروا البلاد، عدة أشغال، منها تحويل المطابخ إلى غرف إضافية لاحتواء أعضاء الأسرة الكثيرين و كذلك للسّماح بزيجات جديدة و قليلة، هي المساكن التي حسّنت أو زيّنت من طرف أصحابها، لكن تكرار الأشغال غير وظيفة الشقة جزئيّا أو كليّا، خاصة التي تقع أسفل العمارة التي أصبحت تؤدي وظيفة ممارسة الأنشطة التّجاريّة و الخدماتيّة. و عقب هذه الظواهر المجتمعية، قامت الدّولة منذ الثمانينات، بتشييد مناطق حضريّة جديدة في كلّ المدن التي تعاني من أزمة السّكن، و لكن لم يسلم النموذج الحضري الجديد الذي اتسم بالرّتابة و عدم الأخذ بعين الاعتبار ما يناسب الأسرة الجزائريّة من حيث نمط المسكن و سعته، بتكرار ما حدث من قبل، حيث سرعان ما قام السكان بإجراء تغييرات داخليّة أثرت على تلك العمارات الجديدة حينها و يبدو من خلال النماذج العمرانية الحديثة، أن فكر وثقافة « التغييرات الداخلية» للمساكن الجديدة، متواصلة إلى غاية اليوم، بسبب عدم القيام بدراسات أنثروبولوجية اجتماعية و ثقافية للسكان و المحيط و الخصوصية العمرانية، مما سينتج عمارات مهددة بالانهيار و تقليص مدة صلاحيتها رغم حداثة سنها، وفق بعض العارفين في المجال.  

 

الرجوع إلى الأعلى