خطف الدكتور بالعيد محمد أنور، المختص في التغذية والانتاج الحيواني بإسبانيا، الأضواء خلال الأسابيع الماضية بعدما انتشرت قصة نجاحه التي تحدى فيها ضعفه في اللغة الفرنسية ليكون من الطلبة الأوائل بجامعة الطارف ثم يحصل على شهادة دكتوراه معترف بها عالميا. النصر حاورت البيطري ابن ولاية الوادي ونقلت زوايا جديدة وملهمة من رحلته في طلب العلم بثلاث قارات، وكذلك وجهة نظره في مسألة تعلم اللغات و مشاريعه المستقبلية التي يُفرد للجزائر الجزء الأهم منها.

حاورته: ياسمين بوالجدري
تحولت إلى نجم على مواقع التواصل بعد أن رويت قصة نجاحك في حسابك على «فيسبوك» والتي بدأتها من حادثة نعتك وزملائك القادمين من الوادي بأنكم لا تتقنون الفرنسية من طرف أستاذة بجامعة الطارف، ما حفزك على التفوق في مقياسها وفي مسارك الدراسي. هل توقعت هذا التفاعل الكبير؟
الحقيقة لا، لم أتوقع ذلك. كنت قد كتبت المنشور دقائق فقط قبل خلودي لفراش النوم. تفاجأت في اليوم الموالي صباحا بكمية رهيبة من الرسائل التي وصلتني والتي تشكرني على مشاركة هذه القصة التي اعتبرت قصة تحفيزية!
من عادتي أن أنشر على صفحة فايسبوك قصصا مشابهة ربما كنت قد عشتها أو أمورا علمية أو عن وقائع موجودة لأدلي برأيي بخصوصها، لكن حقيقة هذه المرة كان الأمر مختلفا تماما لأن هذه القصة كانت فقط مختلفة.
تحدثت في قصتك عن “حرب” شنت على طلبة الصحراء داخل الجامعة لأنهم لا يتقنون الفرنسية ما أدى إلى توقف عدد منهم عن الدراسة. كيف حدث ذلك؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال أريد أن أوضح شيئا مهما جدا، وهو أن ما سردته عن الحادثه كان حقيقة، لكن قناعتي تقول بأن الأستاذة التي فعلت هذا لم تكن لديها أي نية للتقليل منا. ربما الحركة كان فيها فعلا نوع من الاستصغار لكن أؤكد أن الأستاذة لم تفعل هذا عن قصد.
للإجابة عن السؤال دعيني أذكرك أن الاحتلال الفرنسي وصل إلى الجنوب عامة، بعد ما يقارب 100 سنة من دخوله واحتلاله للشمال الجزائري. تأثير الثقافة الفرنسيه في الجنوب قليل جدا مقارنه بالشمال لهذا فإن الكلام باللغة الفرنسية في الشارع يكاد يكون منعدما بهذه المناطق. ربما هذا ما نتج عنه ضعف في إجادة اللغة الفرنسية من قبل الطلبة القادمين من الجنوب مقارنه بالشمال.
الحرب التي شنت كانت جراء عدم استيعاب بعض الأساتذة لهذا النقص، بالرغم من أنه واضح جدا لما ذكرته آنفا وبالنظر لشيء آخر وهو عدم توافق أو عدم تناسق البرنامج التعليمي بين الجامعة وما قبلها، فالتلميذ الذي يدرس 12 سنة باللغة العربية يجد نفسه بمجرد صعوده للجامعة مرغما على التعلم بالفرنسية لأن كل ما يدرس هناك يكون بهذه اللغة. أظن أنه يجب على المنظومة التعليمية في الجزائر أن تتدارك هذا الخطأ.
الأستاذة المعنية تواصلت معك بعد أن نشرت قصتك و هنأتك على تفوقك، كما أن العلاقة بينكما طيبة على عكس ما يعتقد البعض. أخبرنا ماذا قالت لك وكيف كان انطباعك؟
نعم اتصلت بي وقالت إنها تعتذر لما صدر منها لأن نيتها كانت المساعدة لا غير. قالت لي أيضا إنها فخورة بنفسها لأنها كانت الحافز لأصل إلى ما أنا عليه اليوم، و وعدتني بأن تزورني في بيتي هنا في مدريد. لقد سعدت كثيرا بهذا الاتصال.
بعد مرور قرابة 15 سنة على هذه الحادثة، ألا ترى أن الوضع تغير اليوم في ولايات الجنوب من حيث تعلم اللغة الفرنسية، خاصة مع تكوين أعداد أكبر من الأساتذة و توفر وسائل التعلم عبر الأنترنت؟
كما قلت سابقا، ضعف الطلبة في اللغة الفرنسية ناتج ربما بشكل كبير عن عدم تناسق البرنامج التعليمي بين مرحلة ما قبل الجامعة ومرحلة الجامعة. أعرف الكثيرين من الشمال أيضا ممن يعانون من نفس المشكلة التي يحب أن تُحل بالتركيز على تحضير الطلبة قبل الجامعة. هو مشكل برنامج لا أشخاص .
أعادت قصتك إثارة الجدل حول ما يسميه البعض “عقدة” اللغة الفرنسية في الجزائر، وتفاوتت الآراء بين مؤيد ومعارض لهذا الطرح. ألا ترى أن تعلم أي لغة جديدة يعد مكسبا في حد ذاته، أم أنه يجب أن يرتبط بالأهمية التي تفرضها المعطيات الاقتصادية والعلمية خاصة لو تحدثنا عن اللغة الإنجليزية؟
صحيح أن تعلم اللغات يعد مكسبا حقيقيا من شأنه أن يفتح أبواب العمل والفرص، لكن أظن وهذا رأي شخصي، أنه إن تم اعتماد تعلم اللغة الإنجليزية بدل الفرنسية في الجزائر كان الأمر ليكون أحسن بكثير. كيف لا ونحن نجد أن فرنسا نفسها تقوم بالتركيز في برنامجها التعليمي الحالي على اعتماد الإنجليزية لأهميتها في التحصيل العلمي فهي لغة العلم حاليا. أرى أنه قد حان الوقت للنظر جديا في تحسين لغة أخذ العلوم في الجزائر. لا وقت نضيعه مع لغات أصبحت ميتة علميا.
أصبحت تتقن اليوم اللغات الفرنسية والإسبانية والإنجليزية، ما أثر ذلك عليك كباحث؟
تعلم اللغات يفتح الأبواب. كل ما أجدت لغات أكثر كلما كانت فرصتك في العمل والحصول على فرص أكبر. الفرنسية تسمح لك بالتنقل في أفريقيا والإسبانية في جنوب أمريكا وإسبانيا و الإنجليزية تتيح لك هذا الأمر في كامل أرجاء العالم.
تتلقى الكثير من الأسئلة حول الطرق التي اعتمدتها لتعلم هذه اللغات في ظرف سنوات قليلة، هلا أطلعت  القراء عليها؟
عندما يكون تعلم اللغة أمرا ضروريا بالنسبة لأي شخص، فسيجد أن عليه أن يدرسها. بالنسبة لي يوم جئت لإسبانيا لم أكن أعرف اللغة الإسبانية و وجدت نفسي مجبرا على تعلمها للتواصل مع الآخرين.
من الأشياء المهمة التي يجب على الراغبين في إجادة لغة جديدة أن يعرفوها، هي أن التعلم لا يحدث في شهر أو اثنين بل يتطلب نفسا طويلا وتدرجا. أعرف أصدقاء استطاعوا تعلم الصينية رغم أنها من اللغات الأكثر صعوبة في العالم كونها تعتمد على الرموز، فما بالك لو تعلق الأمر بلغة تعتمد على 27 حرفا فقط. سيكون الأمر سهلا، لكنه يتطلب المثابرة والاستماع وكذلك التحدث بتلك اللغة وألا نخجل من الأخطاء.
بعد تخرجك من معهد البيطرة بالطارف سنة 2011، عملت كمسؤول المراقبة البيطرية بمذبح الوادي، لكن أثناء ذلك قمت بتأسيس مدرسة للغات. لماذا هذه المدرسة؟
كان الهدف من هذه المدرسة هو تحسين المستوى في اللغات بصفه عامة والفرنسية بصفة خاصة لذلك كانت أول مدرسة بالوادي تركز على اللغة الفرنسية. أردت من خلالها ألاّ يتكرر مع سكان منطقتي ما حصل لي في الجامعة. أردت ان أساعدهم لتكون بدايتهم في الجامعة بداية قوية لمسار ناجح وحتى لا يتفاجأوا مما تفاجأ به الكثيرون فيكون تحصيلهم العلمي ضعيفا في الأعوام الأولى التي من شأنها أن تحدد مصيرهم في كامل مستقبلهم الدراسي.
لديك قصة أخرى مع مسابقة الماجستير في الطب البيطري بجامعة الطارف، حيث كان لها دور حاسم في ما وصلت إليه اليوم. حدثنا عنها؟
في العام الذي كنت سأتخرج فيه من الجامعة، فُتحت مسابقة للدخول للماجستير. هذه المسابقة ومثلما كان معمولا به سابقا، يفوز فيها الأول في الدفعة خلال السنوات الخمس دون اجتياز أي اختبار، ولأنني كنت الأول على الدفعة في السنوات الثلاث الأخيرة فقط، نقصتني نقطة ضئيلة لأكون في المرتبة الأولى. لهذا أقول دائما أن التحصل على معدلات قوية في الجامعة يجب أن يكون من العام الأول.
ضعفي في اللغة الفرنسية خلال عامي الأول وحتى الثاني جعلني أخسر المقعد الذي كان سيكون من نصيبي لو تفوقت في بداية مسيرتي الدراسية الجامعية.
المفارقة أن التخصص الذي حصلت منه على الدكتوراه بإسبانيا هو التغذية والانتاج الحيواني، وهو نفس التخصص الذي فتح في مسابقة الماجستير آنذاك.
بالحديث عن تخصصك، درست الماستر بجامعتي سرقسطة وبرشلونة بإسبانيا، ثم تابعت الدكتوراه في أمريكا وبارما في إيطاليا وببرشلونة، لتنال في جويلية الماضي شهادة دكتوراه عالمية بنتيجة ممتاز. كيف بدأت هذه الرحلة؟
بعد تخرجي من جامعة الطارف قمت بتقديم طلبات لجامعات كثيرة من بلجيكا وكندا مع طلب وحيد لجامعة من إسبانيا. ولقد كانت هذه الجامعة الأولى التي قبلت طلبي مع إعطائي منحة كاملة للدراسة. اختياري كان ربما على أساس تفوقي في الجامعة. لا يخفى عليك أن الكثيرين يطلبون المنح لكن القليلين فقط من يحصلون عليها.
تعمل اليوم في شركة أمريكية وتواصل أبحاثك بالموازاة مع ذلك، هلا أطلعتنا أكثـر على تفاصيل العمل الذي تقوم به؟
كعضو في الفريق التقني الذي أعمل فيه حاليا، نقوم بالموازاة مع عملنا اليومي الذي يتمحور حول مساعدة زبائننا في حل مشاكلهم اليوميه لمضاعفة إنتاجهم، بالعمل أيضا في البحث العلمي لتحسين منتجاتنا. لا يخفى عليك أن البحث العلمي و الإنتاج خطان متلازمان، فلا يمكن أن تكون لك فرصة في أي سوق للمنافسة إن لم يكن لك فريق يعمل على التطوير من خلال البحث العلمي.
ما هي المشاريع التي تخطط لإقامتها مستقبلا؟
أحلم بأن أساعد بلادي إن أتيحت لي الفرصة. أريد أن أكون شخصا كريما كما تكرمت علي هي من قبل،  فبلادي أعطتني من خيرها الكثير ومن واجبي أن أرده إليها. أريد أن أقوم بنقل كل الخبرات التي تعلمتها في الخارج لتكون على أرضنا الحبيبة الجزائر. كفانا من التبعية للخارج فالجزائر تملك من المؤهلات ما يسمح لها أن تكون قطبا في العديد من المجالات لاسيما الفلاحية.
نحن نستهلك ما لا ننتج وحلمي أن أضع أعمدة لبناء مشروع ناجح، من شأنه أن يكون حافزا للشباب من بعدي، ليقوموا بأشياء مماثلة وفي ميادين مختلفة لنبني وطننا بسواعدنا.
الكثير من المشاريع تدور في رأسي، منها مشروع مزرعة لإنتاج الحليب، فنحن نعاني لحد الآن في الجزائر من نقص هذه المادة. أثناء تواجدي بأمريكا ودراستي هناك كنت أعمل في مزرعة يعمل بها حوالي 30 شخصا فقط، وتحتوي على ما يقارب 3 آلاف بقره تدر منتوجا يوميا سعته مليون لتر من الحليب. ماذا لو قمت بمشروع مماثل لعشر آلاف بقرة؟ بهذا سأضمن كأسا من الحليب لكل طفل جزائري عند مطلع كل شمس. كوب يضمن له كمية كافية من الكاليسوم لينمو ويكون الأطفال  سواعد يعتمد عليها في المستقبل. لو تحقق حلمي هذا سأكون فخورا طول حياتي بهذا الإنجاز.
يشتكي العديد من الشباب من عراقيل وعوامل محبطة في رحلة البحث عن تحقيق النجاح. ما هي رسالتك لهم؟
رسالتي لهم هي ألا يبحثوا عن النجاح في أرض رسموها في مخيلاتهم، أو سمعوا عنها. نجاحك تصنعه أنت حيثما كنت. النجاح يرتبط بالعزيمة وتسطير الأهداف والعمل عليها. الكثير من الشباب لا يعملون في الجزائر وإن أتيحت لهم الفرصة للعمل في الخارج سيشتغلون في مجالات لا تربطهم بها صلة لامن قريب ولا من بعيد. رسالتي لهم أن يغيروا من أفكارهم، فعندما نغير طريقة تفكيرنا سيتغير كل شيء من حولنا وسنرى الأشياء بأبعادها الحقيقية. وقل اعملوا فسيرى الله عملكم .
    ي.ب

الرجوع إلى الأعلى