تعتبر التسممات الغذائية من بين مشاكل الصحة العمومية في الجزائر، بسبب ميزانية العلاج الباهظة التي تناهز 54 مليون دج سنويا،  ناهيك عن ارتفاع إجمالي الإصابات إلى ما يقارب 4 آلاف حالة، تسجل بشكل كبير خلال فصل الصيف، نظرا لارتفاع درجات الحرارة و ضعف الوقاية الناجم عن محدودية الثقافة الاستهلاكية.
 و يأتي عدم احترام شروط  النظافة و الحفظ و التخزين و التبريد و فك التجميد و تحضير وعرض الأطعمة في المحلات و المطاعم و الولائم، كخلفية رئيسية لمعظم حوادث التسمم،  خصوصا الجماعية منها، فرغم التحذيرات المتكررة للأطباء و المراقبين و تقييد التجمعات بسبب انتشار فيروس كورونا، إلا أن هاجس التسممات بدأ يخيم على أولى أيام فصل الصيف و البداية بتسمم 120 شخصا بقالمة، خلال وليمة عرس قبل أيام، حيث بينت التحقيقات الوبائية، بأن الأسباب تعود إلى تناول المصابين لوجبات غذائية تحتوي على مواد غير صالحة للاستهلاك.
الولائم و الإطعام السريع أهم مسببات التسمم الجماعي
في سنة 2018، سجلت وزارة الصحة والسكان وإصلاح المستشفيات 10 آلاف حالة تسمم غذائي، أدت إلى وفاة 7 أشخاص، وفي الأشهر الأولى فقط من سنة 2019 ، كشفت إدارة الوقاية وترقية الصحة بذات الوزارة، عن تسجيل حوالي 1200 حالة تسمم غذائي، منها حالة  وفاة  واحدة بولاية غليزان، مع الإشارة إلى أن معدل الإصابات ارتفع في  غضون سنتين ، بمعدل 10 آلاف إصابة سنوية.
 ومنذ بداية السنة الجارية، سجلت مستشفيات الوطن عددا معتبرا من حالات التسمم، أبرزها، تسمم غذائي جماعي تعرض له 270 شخصا بولاية ميلة بسبب تناولهم حلويات «ميلفاي» اقتنوها من محل واحد، كما أصيب80 شخصا آخرين بتسمم جماعي بتبسة، بسبب تناولهم ساندويتشات أعدت في محل للأكل السريع، وتعرض  ما لا يقل عن 114 شخصا كذلك، لتسمم غذائي مؤخرا ببلدية الشريعة بولاية تبسة، بعد تناولهم « بيتزا» بأحد محلات الوجبات الجاهزة، كما أحصت المصالح الصحية بولاية جيجل خلال الأيام الأخيرة، العشرات من حالات التسمم الغذائي، سببها بعض الفواكه الموسمية التي تباع على حواف الطرقات وفي مقدمتها البطيخ.
الثقافة الغذائية الحلقة الضائعة
من منا لم يسمع يوما بالعبارة العامية الشائعة " خامج و بنين"، والتي توظف لوصف الوجبات التي تباع في الأسواق الشعبية، و على حواف الطرقات وحتى داخل بعض محلات الإطعام القديمة و غير المهيأة، و التي يقبل عليها الكثيرون غير آبهين بشروط عرضها، فقليلا جدا ما تغطى و غالبا ما يحوم حولها الذباب و تتشبع بالغبار وأشعة الشمس، مع ذلك تحظى هذه المأكولات بشعبية واسعة في أوساط الكثير من الجزائريين، الذين يضع بعضهم قضية إشباع بطونهم كأولوية على حساب الصحة، ما يؤكد افتقارهم لثقافة استهلاكية سليمة، تمنعهم من اقتناء المشروبات الغازية التي تعرض على الأرصفة المحاذية للمحلات، و التهافت على الشوكلاطة و الحلويات المستوردة التي تباع بأثمان زهيدة لا تساوي قيمتها الحقيقية، بسبب قرب انتهاء مدة صلاحيتها.  
ورغم الأرقام المخيفة المتداولة سنويا، بخصوص التسممات الغذائية، وكثرة الحملات التحسيسية التي تتزامن مع بداية كل صائفة، إلا أن هذه الظواهر الاستهلاكية تتكرر في كل مرة، ولا تشمل فقط أطعمة الشوارع، بل تتعلق كذلك بعدم احترام شروط النظافة والتحضير في عدد كبير من محلات الأكل السريع و الجاهز، ناهيك عن تغاضي الكثيرين عن مراقبة تواريخ صلاحية بعض المنتجات كمشتقات الألبان و المعلبات و شراء بعض المنتجات سريعة التلف، كالبيض و الشاربات من باعة الأرصفة.
من جهة أخرى كثيرا ما تكون ممارسة بعض التجار سببا في حوادث التسمم الصيفية، خصوصا وأن هناك من يتعمدون إطفاء المبردات خلال الليل، لتقليص فاتورة استهلاك الكهرباء، وهو ما يحول أطعمة كالمرطبات و مشتقات الحليب و حتى المشروبات الغازية، إلى سموم بسبب اختلال نظام تبريدها.
* جمعية حماية المستهلك
دعوة لتقييد منح التراخيص لمحلات الإطعام السريع
بهذا الخصوص أوضح رئيس جمعية حماية المستهلك مصطفى زبدي، بأن التسممات الغذائية الحادة تتعلق عموما بالمواد سريعة التلف، و تزيد في فصل الحر و تزامن ذلك مع تكاثر الجراثيم وهو ما تسجله هيئته سنويا، مؤكدا بأن ما يتم الإعلان عنه من حالات يتراوح في الإجمال 10 آلاف حالة، وهو رقم لا يعكس الواقع، كما عبر، مشيرا إلى أن أكثر من نصف الحالات المصرح بها تتعلق بالولائم الجماعية، والتي يتضح في غالب الأحيان، بأن سببها عدم احترام سلسلة التبريد و التحضير غير الجيد للطعام ، مع الإخلال بشروط النظافة.
و قال زبدي، بأن الجزائر من بين البلدان التي تتكبد سنويا فاتورة علاج كبيرة بسبب التسممات، رغم أن هناك نسبة معتبرة من المصابين يفضلون التطبيب التقليدي عن طريق الأعشاب،كما طرح  المتحدث، مشكل نقص الرقابة الصحية على مستوى بعض وحدات التصنيع الغذائي، مع ذلك، فإن أكبر تهديد لسلامة المستهلكين، يطرح بصفة أكبر في مطاعم الأكل السريع، أين يغيب احترام شروط النظافة و التحضير وتستخدم أحيانا منتجات فاسدة، دون مراعاة خطورة ذلك على حياة الأفراد، مطالبا بتقنين هذا النشاط و ضبط شروط ممارسته، عن طريق تشديد آلية منح التراخيص و تكثيف الرقابة.
من جهة ثانية، حمل محدثنا، المواطن جزء من المسؤولية، موضحا بأن اقتناء الأطعمة منتهية الصلاحية أو المعروضة بشكل عشوائي، و تناول الوجبات المحضرة في ظروف غير مناسبة، في ظل غياب النظافة، يعتبر انتحارا وتهاونا صريحا بالصحة، مؤكدا بأن جمعيته تنشط على مدار السنة وتكثف حملاتها التحسيسية خلال كل صائفة، من أجل توعية المواطنين و التجار بخطورة الوضع و للتقليل من تبعات التسممات و فاتورتها.
* أخصائي الجهاز الهضمي البروفيسور مصطفى بومنجل
بعض التسممات الحادة قد تؤدي  للوفاة
أكد أخصائي الجهاز الهضمي والكبد بمستشفى قسنطينة الجامعي، البروفيسور مصطفى بومنجل، بأن التسممات الغذائية تعد من بين تحديات الصحة العمومية في بلادنا، بالنظر إلى أنه مشكل شائع جدا ، بالأخص في فصل الصيف، ورغم أنها حالات مرضية سهلة العلاج، إلا أنها مكلفة و قد تؤدي في بعض الأحيان إلى الوفاة، و ذلك لأن التدخل الطبي في هذه الحالة لا يتعلق فقط بالعلاج ، بل يستوجب التصريح كذلك.
 الطبيب قال، بأن عدد الحالات المصرح بها سنويا ، يتراوح بين 5 إلى 10 آلاف حالة، و تكون في غالب الأحيان ناتجة عن استهلاك أطعمة و مشروبات غير صالحة تحتوي على بكتيريا أو فيروسات أو مواد سامة،  وأرجع علاقة هذا المشكل بالصيف، إلى ارتفاع درجات الحرارة و الإخلال بشروط النظافة و التحضير عموما.
كما أن عدم احترام ظروف التبريد والحفظ من المسببات الرئيسية للتسممات، سواء خلال نقل بعض المنتجات من المصانع إلى المحلات، أو عند اقتناء مواد سريعة التلف، كاللحوم ومشتقات الحليب و تأخير حفظها في المبرد، ناهيك عن تعمد بعض التجار قطع التيار الكهربائي ليلا، لتقليص استهلاك الطاقة، فيما تبقى الولائم والأعراس، حسبه، أكثر المناسبات التي تحدث خلالها التسممات الجماعية الناجمة عن ذات الأسباب سالفة الذكر.
و أوضح الأخصائي، بأن أعراض التسمم تظهر عموما خلال 24 ساعة الأولى من تناول الطعام الفاسد، و قد يحدث أن تظهر  خلال الثلاث ساعات الأولى أو بعد أيام، حيث يتحدد ذلك باختلاف نوع البكتيريا المسببة للمشكل، وهي في العموم إما   « السالمونيلا» أو «إيشيرشيا كولي»،  كما تلعب طبيعة الشخص المصاب دورا في تحديد درجة و سرعة التأثر و الخطورة، إذ يكون الشيوخ و الصغار و الحوامل و المرضى أكثر عرضة للخطر، مقارنة بالإنسان البالغ السليم، علما أن كل تسمم يستوجب التنقل مباشرة إلى المستشفى، خصوصا إذا رافقته أعراض حادة ، كالإسهال و القيء و آلام البطن، إضافة إلى بعض الأعراض الجانبية الأخرى، كالتعب و الغثيان و ارتفاع درجة الحرارة.
وحسب المتحدث، فإن القيء المستمر المصاحب للتسمم، يسبب جفاف الجسم و خللا في عمل الأيونات، وهو ما يرفع درجة الخطورة و يضاعف احتمال حدوث الوفاة، علما أن الإسهال الذي يتضمن نزول الدم مع الفضلات، لا يكون بالضرورة دليلا على الخطورة العالية، بقدر ما ينبئ  عن طبيعة البكتيريا المسببة للتسمم، حيث  تستوجب الحالات الخطيرة المرتبطة بجفاف الجسم، ضبط درجة الترطيب من جديد و تعويض السوائل المفقودة بكميات مناسبة من المياه و أملاح إعادة التمييه، إضافة إلى تقديم مضادات حيوية للمريض، تتحدد حسب طبيعة البكتيريا المسببة للمشكل، ناهيك عن وصف أدوية لوقف الآلام و القيء و خفض الحرارة، إن وجدت.
وبخصوص الوقاية يركز الطبيب على أهمية احترام شروط النظافة في أماكن تحضير و تناول الأطعمة، والغسل الجيد للخضر والفواكه واحترام سلسلة التبريد و عدم فك تجميد الأكل خارج الثلاجة، كما هو شائع، فحرارة الغرفة أو  المطبخ ليست الأنسب ، كما أوضح، لفك التجميد الذي يفضل أن يتم داخل المبرد.
كما  يشدد المتحدث من جهة أخرى على التحلي بثقافة استهلاكية أكثر جدية، مع مراقبة تواريخ انتهاء الصلاحية و التسوق بطريقة منظمة، تضمن عدم ترك الأطعمة لمدة طويلة خارج الثلاجة ، خصوصا اللحوم ومشتقات الحليب.
تكلفة العلاج توجب إلزامية التصريح بالتسممات
لأن الجزائر تولي أهمية كبيرة لقضية التسممات الغذائية، فإن القانون يجبر ممارسي الصحة، على التصريح بالحالات التي تستقبلها المستشفيات في كل مرة، حيث ترافق العملية عادة تحقيقات وبائية للتأكد من مسببات التسمم، على اعتبار أن قضاء ليلة واحدة في المستشفى، لعلاج حالة واحدة يكلف الدولة بين 800 إلى 1000دج، كما سبق و أن صرحت به الهيئة الوطنية لترقية الصحة، مبينة في تقرير لها ، بأن فصل الصيف يحصي ذروة الحوادث، و أن  50 بالمئة منها، تسجل عموما خلال الولائم الجماعية، مع الإشارة إلى أن الجزائر تعرف نقصا في المخابر التحليلية للمواد المستوردة من مختلف الدول.
وبالرغم من تصنيف وزارة الصحة للتسممات الغذائية، ضمن الإصابات ذات التصريح الإجباري، إلا أن مواطنين يتجنبون ذلك ، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالإصابات الفردية، إذ يلجأون عموما إلى العلاج الذاتي، عن طريق الأساليب التقليدية كالأعشاب، ما جعل الوزارة تحذر مرارا من العزوف عن التصريح بهذا النوع من الإصابات.
هدى طابي

الرجوع إلى الأعلى