يستقطب ريف قسنطينة، و بالضبط منطقة عين عبيد، أعدادا كبيرة من البدو الرحل، بحثا عن الكلأ لماشيتهم، في رحلة سنوية يقومون بها في نفس المسار، من الجنوب إلى الشمال، و في نفس الفترة، أي في بداية الصيف، تماما كالطيور المهاجرة، متمسكين بنمط حياة بسيط و غريب أحيانا، و بحرفة أزلية لا يعرفون غيرها منذ الأزل، و قد رصدت النصر خلال جولتها الاستطلاعية، زيادة غير مسبوقة هذا الموسم في أعداد ضيوف منطقة عين عبيد الموسميين، و السبب، كما قالوا لنا،  النقص الكبير في الأمطار بمعظم ولايات الوطن هذا العام.     
في إطار ممارستهم لحرفة تربية و رعي المواشي التي ورثوها عن أسلافهم و كلهم تصميم على توريثها لأبنائهم و أحفادهم، لأنهم لا يعرفون نشاطا غيرها، فاتخذوا منها منذ القدم، نمط حياة و مصدر رزق، لن يتخلوا عنه، شهدت منطقة عين عبيد توافدا مكثفا للبدو الرحل، مرفقين بأسرهم و قطعان مواشيهم و خيمهم، في رحلتهم الصيفية السنوية .
هؤلاء البدو أكدوا للنصر، تمسكهم بحياتهم المبنية على الرحيل و الترحال و البحث عن ضروريات العيش، متحدين بذلك توقعات الكثير من الباحثين باختفاء نمطهم المعيشي الذي يتميز بالبساطة و الغرائبية، في مطلع الألفية الثالثة، كما قال الدكتور فوزي مجمج، الباحث في سلوك و حياة الرحل، فقد أثبت الواقع أن هذه الطريقة في العيش، لا تزال مستمرة إلى غاية يومنا هذا.
و كما في الماضي البعيد، يمتلك ضيوف الصيف ثروة حيوانية لا يمكن تجاهل أثرها الاقتصادي على التنمية في الكثير من المناطق داخل الوطن، كما أكد الدكتور مجمج.
و في الوقت الذي عرفت أنماط الحياة في العالم ثورة جذرية، متأثرة بما وفرته الحضارة المادية الحديثة من وسائل، لم يصل صداها سكان بيت الشعر و رعاة الغنم الذين يتجاهلون الحداثة و يحافظون على البساطة و شظف العيش، بعيدا عن أضواء المدن، في رحلة أزلية تعود إلى آلاف السنين من الجنوب إلى الشمال، ثم العودة على نفس المسار في نفس الفترة من كل سنة، تماما كالطيور المهاجرة التي تقودها غريزة الترحال.
مرافقنا من دوار البشبشية إلى عين عبيد
في جولة استطلاعية على طريق ابن باديس ـ  بني يعقوب، لاحظنا على  يمين  المسار تواجد معسكرات البدو الرحل في شكل خيام مختلفة الأحجام، تتوسطها خيمة كبيرة تدل ألوانها على جماعات الرحل من أولاد نايل و أولاد دراج، الذين يقبلون كل سنة على منطقة عين عبيد التي شملت كل أرجائها نفس المشاهد.
حاولت النصر الاقتراب من بعض أفراد هذا المجتمع  ، فلمسنا نوعا من الصد و رفض الحديث إلينا، مبررين ذلك بانشغالهم بمراقبة قطعان أغنامهم و مبررات كثيرة، رغم أننا سألناهم فقط عن نمط حياتهم و أسباب تمسكهم بحياة الحل و الترحال، فهم جد حذرين في التعامل مع الغرباء، فطلبنا المساعدة من الباحث في سلوك و حياة الرحل فوزي مجمج .


كان علينا أن نسلك بعض الطرق التي تعرف حركة جد محدودة، للاحتكاك بأحدهم ، فقد كان بحاجة  إلى مساعدة للوصول إلى مدينة عين عبيد، انطلاقا من دوار البشبشية، فباغتنا الرجل بمجرد ركوب السيارة، بسؤالنا حول أسباب تواجد الرحل بأعداد كبيرة تثير الانتباه بالمنطقة، فقال لنا أنه تعود على الانتقال صيفا بمعية غنمه إلى ولاية أم البواقي من ناحية سيقوس العامرية، لكن قلة تساقط المطر هذا العام، أرغمته هو و العديد من مرافقيه على تغيير الوجهة إلى عين عبيد التي يتوفر فيها الكلأ، بما يكفي لقطعان أغنامهم، إلى غاية حلول موسم الخريف، وحينها يتخذون قرار العودة إلى الجنوب، أو التوجه إلى سفوح الجبال، إذا كان الخريف ممطرا في الشمال.
عن أسباب تمسكهم بعادات و تقاليد و طريقة حياة أجدادهم ، قال المتحدث إنه و أهله لا يجيدون أي عمل غير رعي الغنم، و الماشية هي أهم شيء في حياتهم، مؤكدا « الشاه هي راس مالنا «، على حد تعبيره،  مشيرا إلى  أنهم  على  هذا الأساس، يورثون هذا النمط من الحياة لأبنائهم، الذين سيربون بدورهم أبناءهم على ذات النمط المتوارث منذ أجيال.
و أضاف محدثنا أن مجتمعه غير معني  بالتحديات والتغيرات الحاصلة اليوم في العالم، في زمن الحضارة المادية و توفر شروط رغد العيش و الرفاهية، فحياة البداوة حالة قصوى تسكنهم للتأقلم مع الطبيعة القاسية وتقلب فصولها.
و شعرنا أن مرافقنا ضاق ذرعا بأسئلتنا و كان يتمنى الوصول بسرعة إلى وجهته، فقد لاحظ أننا خفضنا سرعة السيارة و نحن نتحدث إليه، عندما وصلنا دعوناه إلى شرب كأس شاي معنا في المساء، لكنه تحجج بانشغالاته الكثيرة، و انصرف.
شعارهم «ماتامن مادير لامان»
الباحث في سلوك و حياة البدو  الرحل الدكتور فوزي مجمج الذي كان يقود السيارة خلال رحلتنا مع مرافقنا من دوار البشبشية إلى عين عبيد، أكد لنا أنه من الصعب الحصول على ثقة هذه الشريحة من المجتمع، لأنهم شديدي النفور و الحذر من الغرباء و لا يختلطون بهم،  و يرددون دائما هذه المقولة
 «ما تامن ما دير لامان، معرفة عام ماشي معريفة، كاين ناس عرفناهم حياتنا كاملة و تخدعنا فيهم» ، و من هذا المنطلق يحتاطون في تعاملهم مع كل الأشخاص الذين لا ينتمون إلى مجتمعهم المغلق، و يعتبرونهم غرباء و لا يأتمنونهم على أسرارهم و لا مواشيهم و هي أغلى ما يملكون، و لا أي شيء آخر، خشية غدرهم.
و أضاف المتحدث أن حياة الرحل تمتاز بالدقة في كل شيء يتعلق بطريقة عيشهم، ابتداء من مضرب الخيام، الذي يتم اختياره بعناية فائقة بين الحصائد ليكون في منأى عن الأنظار و بعيد عن الطرقات و أماكن المرور،  قدر المستطاع، في مكان مرتفع نسبيا، لكي لا يكون في مهب الريح مباشرة ، فهم يعرفون جيدا متى تهب الرياح من الجهة القبلية « أو « الظهرية.»
كما أنهم يتجنبون المناطق التي توجد بها الأودية و التي لا يوجد بها فأر الحقول، و يرون أنها غير صالحة لحط الرحال، كما قال المتحدث.
و يبدأ نهار الرحل باكرا في الجهة الغربية من الحقل قبل الجهة الشرقية، لكي لا تقابل أغنامهم الشمس، و أشعتها القوية الذي يمكن أن تؤثر سلبا على نسبة تكاثرها، حسب اعتقادهم ، و العكس في المساء.
و أثبت العلم الحديث تأثير الضوء على ذلك فعلا ، كما قال الباحث، كما أنهم يعاملون قطعانهم بحرص شديد، و يدللونها،  لكي يكون مردودها كبيرا، و استشهد بمقولة الرحل
 « الشاه خليها تقيل ما تقلقهاش، وكلها مليح وشربها مليح، كون تخلعها ما تاومش»،  أي أنها لا تلد توأما أي خروفين، في حال عدم العناية بها.
و أضاف الدكتور مجمج أن الراعي يختار دائما  مكانا ، عكس جهة هبوب الريح، لأن الذئب يأتيها من تلك الجهة،  وهو يتربص بها ولا يدع فرصة إلا ونال من غريمه الراعي و هاجم غنمه، و لا يتنازل الرحل عن هذه العادة و الاقتناع، حتى و إن كانوا متواجدين بمنطقة لا يوجد بها ذئاب .
و يكون الرحل في غاية السعادة والطمأنينة، عندما تشبع أغنامهم و تكتفي بما تجود به المراعي التي استأجروها من كلأ،  فيستبشرون خيرا بعامهم الذي من خلاله تتيسر كل أحوالهم، فيقيمون الأعراس و يغيرون الشاحنة التي ينقلون أغنامهم على متنها و يرددون عن اقتناع
« العام المليح باين و العام الشحيح باين كي يجينا عام مليح ... عامين ما نبيعوش غنمنا، و العام مليح يجيب خوه».
و للرحل طريقتهم في توقع العام الجيد من الرديء الجاف، وذلك بمراقبة روث نعاجهم
 « النعجة لاكان كانت راقدة اوجا روثها مفروق هذاك عام خير،  أو لكان جا مجمول هذاك عام أوخيدة «.
و لهم نظام خاص ودقيق في كل ما يحيط بحلهم وترحالهم، بين رحلتي الشمال والجنوب،  فكل شيء عندهم بحساب، كما أكد الباحث.
باحثون توقعوا زوال ظاهرة البدو الرحل
أوضح المتحدث أن البدو الرحل كانوا يشكلون حوالي نسبة 1 بالمئة سنة 1985 من سكان الجزائر، وقد كانت قبل الاحتلال الفرنسي تمثل نسبة 65 بالمئة و وصلت بعد الاستقلال إلى  5 بالمئة، و استمرت هذه النسبة في التراجع لأسباب سياسية واقتصادية. و في هذه المرحلة ذهب الكثير من  الخبراء الاقتصاديين وعلماء الاجتماع، إلى تأكيد حتمية زوال ظاهرة البداوة و الترحال في الجزائر، لتأثرها بما حل بمناطق الرعي في السهوب من تصحر و رعي مكثف، هدد الغطاء النباتي من حلفاء و شيح، حيث قال الخبير في الأنثروبولوجيا الدكتور محي الدين صابر، أن حياة الرحل نمطا شاذا في المجتمع الحديث و قطاعا متخلفا، في ضوء الظروف السياسية والاقتصادية و الاجتماعية المعاصرة، و أكد من جهته الباحث في الأنثروبولوجيا يوسف نسيب « إن البدوي لا يفهم معنى الاستثمار ولم تتكون عنده روح المؤسسة، إن حياة الترحال لن تتعدى الألفية الثالثة».
محطات في مسار و سير البدو
الجدير بالذكر أن رحلة الوصول إلى مضارب الرعي في ريف عين عبيد، كانت تبدأ مع أولى نسمات الربيع التي تهب على المنطقة، حيث تقبل طلائع مواكب الرحل من أجل كراء مساحات واسعة من الأراضي، يكفي كلؤها الأخضر قطعانهم لما يزيد عن شهرين، إلى غاية موسم الحصاد الذي يحل به موعد الكلأ الجاف، إلا أن هذه الرزنامة تغيرت بتغير المسار التقني  و الدورة الفلاحية التي أصبحت مصالح الفلاحة تلزم بها المزارعين من أجل الانخراط في القرض الرفيق، و ذلك بالحرث المبكر العميق، فتسبب ذلك في تأخر موعد رحلة التل وأعاد برمجة ساعة الرحل البيولوجية على شهر جوان، متأخرين عن الموعد الذي توارثته الأجيال، هذا بالنسبة لمربي المواشي الذين لا يزالوا محافظين على الرحلة والحرفة وشظف العيش.
و اختفت خلال 40 سنة الماضية شيئا فشيئا ظاهرة الرحل العاملين في المزارع الذين كانوا يلجأون إلى الترحال، من أجل استغلال موسم الحصاد في جمع مؤونة «عولة» العام، كعمال موسميين، وقدومهم هذا كان جد فعال في إنجاح حملة الحصاد اليدوي، وجمع مختلف المحاصيل الزراعية من قمح صلب وشعير وحمص وعدس، بما في ذلك كلأ الرؤوس القليلة من الماعز التي تدر عليهم حليبا ولحما و تحسن مداخيلهم، ببيع بعض الجديان الزائدة عن الحاجة.
و يساهم أفراد أسرهم بدورهم في اقتصاد العائلة بالانتشار بين الحقول في أثر خط الحصادة المنتشر، لجمع السنابل المتساقطة من فم المنجل، المحشوة بحبات القمح في أكياس، وعادة ما ينتبه أصحاب العمل إلى تعمد بعضهم المبالغة في رفع نسبة أعداد السنابل المتساقطة، لفائدة أحد أفراد أسرته.
و يعمد جامعو السنابل إلى طرحها لتجف، بعد تناول وجبة الغذاء التي تطهى على نار ما يتم جمعه من نباتات يابسة، و تتكون الوجبة أساسا من البصل ومختلف التوابل، خاصة الفلفل الحار، فلا يتحمل طعمها غيرهم، و تتمثل في المحاجب و البطوط و بومهراس وشربة الشعير و اليقطين «الكابويا».
ومع هبوب رياح الشمال التي يطلقون عليها اسم «العون»، لأن هبوبها مساء يعينهم على تخليص حبات القمح من التبن في طرحة صغيرة، بعد أن يتم فصلها تحت وقع دوي أغصان الجريد، و يخبأ القمح في أكياس و يكدس التبن جانبا، ليستغل ككلأ، عندئذ يكون اليوم قد انسلخ منه ضوء النهار وزحف الظلام على الربا التي يسكنها الرحل، وهو موعد وجبة العشاء، ولا تمتد السهرة طويلا، لأن النوم يجب أن يكون مبكرا، لتكرار نفس اليوم غدا، نوم الرحل يكون عادة تحت ضوء القمر في العراء، في أي مكان بمحيط الخيمة.
ظاهرة الرحل عمال المزارع، بدأت تنتهي مع بداية الثورة الزراعية في سنة 1971 ، عندما أطلق الرئيس الراحل هواري بومدين، برنامج الثورة الزراعية و ظهور القرى الاشتراكية التي ثبتت الرحل في العمل في المزارع، لكن تحسن أوضاعهم المادية، جعلهم يعودون إلى مضاربهم.
سياحة داخلية ثم بناء ريفي
 في مرحلة لاحقة نصب الرحل في أعالي عين عبيد خيامهم، من أجل السياحة الداخلية، هروبا من حرارة صيف الزيبان، بعضهم أصبحوا يملكون شاحنات و انخرطوا في تجارة الفريك و القمح و التبن، و البعض الآخر اقتنوا سيارات سياحية جديدة، وتخلصوا من الخيام،  ثم اهتدوا إلى فكرة كراء منازل و بنايات واسعة، بحثا عن هواء معتدل نهارا، و برد و انتعاش ليلا، لكن هذه الظاهرة اختفت بدورها خلال الأعوام القليلة الأخيرة، حيث فضلت فئة كبيرة الاستقرار، مستفيدين من برنامج البناء الريفي في الكثير من مناطق بلديات عين عبيد، ابن باديس و أولاد رحمون.
لا وجود لأزمة السكن و البطالة
و قال لنا من جهته الباحث فوزي مجمج، أن جل المشاكل الاجتماعية عند أهل المدن، لا نجدها عند الرحل، فمشكلة السكن منعدمة و لا وجود للبطالة بين شباب البدو،  ولا ظاهرة  العنوسة وتأخر سن الزواج ، فالبساطة في عيشهم وسعادتهم تتلخص في مقولتهم «نعجة و معيزات وين نروح نبات»، رغم ابتعادهم عن الحياة المعاصرة بكل خصائصها.
ص. رضوان

الرجوع إلى الأعلى