تتوفر ولاية تبسة الحدودية، على عدد هام من المعالم السياحية ذات الطبيعة الأثرية والتاريخية، و من بين هذه المعالم ما هو مصنف عالميا نظرا لأهميته،و لعل السبب في الجهل بوجود هذه الثورة السياحية، يعود بالدرجة الأولى إلى عدم  استغلالها بشكل يعود بالإيجاب على الجانب الاقتصادي للولاية ناهيك عن غياب الترويج و ضعف الدعاية السياحية، ولعل واقع مواقع منطقة قسطل الأثرية خيرمثال على ذلك.
6800 سنة من الوجود
تقع منطقة قسطل الأثرية ببلدية عني الزرقاء على بعد 40 كلم على عاصمة الولاية، وهي قطعة من جنة جغرافية و تاريخية لم تحظ بالتقدير، رغم أنها شاهدة على ما تعاقب على تبسة من حضارات، تؤرخ لها المعالم و القديمة بشكل ظاهر للعيان، فالمنطقة لا تزال  تحتفظ بخصوصيتها و لم يطلها أي تخريب قد يطمس تاريخها وهويتها، فقسطل بكل تفاصيلها تعد سلة تاريخية فيها عيون حجرية لا تزال مياهها جارية، بالإضافة إلى قبور الدولمان القديمة وهي عبارة عن مدافن مهيأة  لحياة ما بعد الموت، تضم غرفا جنائزية محفورة في الصخر.
اسم قسطل كان دائما محل جدل بين المؤرخين، فالبعض يرون بأنه مشتق من الكلمة الفرنسية «لا كستيل»، التي تعني القلعة، فيما يرى آخرون أن التسمية تعني « الأرض التي يستخرج منها الماء»، نظرا لغناها بمنابع المياه، وهو تحديدا ما جعلها قبلة للعديد من الحضارات، حيث يعود تاريخ وجود هذه المنطقة إلى سنة 6800 قبل الميلاد، وتحديدا إلى ما يعرف بالحقبة الحجرية، فبعد دراسة آثارها عُثر على هياكل عظمية للإنسان القديم، داخل كهوفها و جبالها التي رسمت صورة لافتة لكل المراحل والمحطات الإنسانية التي تعاقبت عليها.
شاهد على عبقرية الهندسة الإنسانية
إن أوّل ما يلفت انتباهك عند وصولك إلى المنطقة، هو جسر صغير يعود إلى الحقبة الرومانية، لا يزال محافظًا على تماسكه رغم مرور مئات السنين على تشييده، إذ يربط بين ضفتي الوادي الذي يشقّ المكان إلى ضفتين، ويكفي أن ترفع مستوى نظرك للأعلى نحو الجبال، حتى تلوّح لك الأرواح التي تسكن القبور والمغارات المحيطة بالوادي، حيث تتراصف تلك المغارات بدقّة إلى جانب بعضها البعض، ويقدّر عددها بـ 36 مغارة، تحوي غرفا حجرية ذات أبواب مربّعة، يرجّح مؤرّخون أن تكون قبورًا رومانية. توجد فوق تلك القبور غرف أخرى تضم أبوابًا مثبتة بإحكام إلى الأعلى بواسطة عوارض ملتصقة في الصخور، وكّأنها أبواب وجدت لتفتح إلى السماء، وبالقرب منها بالوعات حُفرت لمنع تسرب المياه إليها، وهو ما يدلّ على العبقرية الهندسية للإنسان الذي استوطنها.
تشق الطريق المؤدّية إلى المنطقة، جداول رقراقة تراوغ في مساراتها الصخور الكبيرة و تتخذ بينها ممرًّات ملتوية في غاية الجمال، وأما الجهة المحاذية لهذا الطريق، فتطلّ عليها المنطقة البربرية التي تتميّز بمنحدراتها الصعبة، ولا يوجد سوى مسلك واحد للوصول إليها من الجهة الشرقية، حيث توجد مقبرة أخرى صمّمت بطريقة مشابهة، وهو ما يجعل الطابع الجنائزي غالبا على معمارها.
قلعة الثوار الحصينة
بين أطلال قسطل، يروي التاريخ أيضًا قصص مقاومة الشعب الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي، حيث كانت هذه المنطقة الصغيرة إحدى القلاع الحصينة لثورة التحرير الجزائرية، وداخل بيوتها الضيّقة المنحوتة في الصخور بطريقة متقنة، كان رجال الثورة يختبؤون، وقد دارت على أراضيها عدة معارك ضارية، من أشهرها معركتا «عين عناق»، بقيادة محمود قنز، ومعركة «القرقارة»، التي  تكبّد  خلالها الجيش الفرنسي خسائر  كبيرة في الأرواح والعتاد، وقد ساعد الموقع الجغرافي لقسطل الواقع على الحدود الجزائرية التونسية الثوّار، على التزود بالأسلحة والإمدادات اللازمة لذلك، وكأن روما حين بنت هذه المنطقة، لم تكن تدري أنها بنت أفخاخا محكمة لأحفادها الفرنسيين.
يقول أحد أبناء المنطقة، « بأن هذه الأرض كما روى له أجداده، كانت معقلًا للرومان الذين تركوا آثارهم عليها، و قد اختاروها لتوفّرها على المياه، ما سهّل عليهم إنشاء مزارع للخضر وغيرها، فكانت قسطل من بين المراكز القويّة للقيادة الرومانية آنذاك، ثم اختارها الثوّار الجزائريون بعدهم كقاعدة عملياتية، لكونها حصنا طبيعيا تحيطه الجبال من كل جانب، فتحولت بذلك إلى ثكنة صغيرة تضم الجنود و مخزنا للسلاح».
قسطل وجهة للسياح
قسطل اليوم، وجهة للسياح المحليين من داخل ولاية تبسة وغيرها من الولايات المجاورة، ورغم إمكاناتها السياحية الهائلة والمواصفات التي تتميّز بها، وتؤهلها لتكون قطبا سياحيا وطنيا، باعتبارها متحفا مفتوحا لآثار الإنسان ما قبل التاريخ، إلا أن الكثير من الناس لا يعرفونها، بسبب تجاهل المسؤولين لها و لموروثها الثقافي والحضاري، وهو الإهمال الذي تسبب في غياب المرافق و التهيئة و أعاق تطوّر السياحة في المنطقة، فحتى الطريق المؤديّة صعبة وغير معبدة.


مع ذلك يبقى المكان مقصدا للكثير من العائلات في نهايات الأسبوع وأيّام العطل، حيث يزورونه للتمتع بالطبيعة و استكشاف الآثار، سيما في ظل  استمرار الغلق الجزئي الذي فرضته الإجراءات الصحية التي أقرت لمجابهة عدوى كورونا، وهو ما حول اهتمام العائلات  نحو هذا الفضاء الطبيعي المفتوح بوصفه بديلا للشواطئ و أمان الراحة، لكن يبقى مشكل غياب التهيئة مطروحا في المنطقة و من بين النقائص التي وجب على المسؤولين المحليين الانتباه إليها، فلا كراسي في المكان و لا أكشاك ولا حتى طريقا معبدا أو فندقا صغيرا أو مرقدا، لذلك كثيرا ما يجد زوارها أنفسهم أمام حتمية النزول كضيوف على أهل القرى القريبة من المنطقة الذي يعرفون بكرمهم و سخائهم، علما أن أغلبهم من ملاك البساتين الصغيرة المحيطة بالمكان و التي تكسوها أشجار التين والرمان والسفرجل و الجوز واللوز، وهي مستثمرات عائلية مصغرة، يطمع أصحابها في الحصول على دعم فلاحي لتوسيعها و الحفاظ على خيراتها.
فواكه وخضر عالية الجودة
أخبرنا فلاحون قابلناهم خلال تواجدنا في المنطقة، بأن الزراعة نشاط متوارث في قسطل، كما أنها ممارسة عائلية، فهم يتكفّلون بمصاريف البذور والأسمدة ويجلبونها من المدينة على عاتقهم، ويساعدهم في زراعتها والاعتناء بها أبناؤهم، وعند جني المحصول يبيعون جزءا منه ويحتفظون ببعض منه لعائلاتهم، ويتركون جزءا منه لأصدقائهم القادمين من المدينة خصيصا للحصول على الفواكه والخضر التي يجنونها، لجودتها العالية، وهو أمر ناتج عن المياه النقية التي تتدفق على هذه الأرض.


ورغم رضاهم بنمط عيشهم، إلا أن سكان قسطل، لا يخفون امتعاضهم من تجاهل المسؤولين للمنطقة التاريخية الأثرية، حيث قالوا لنا، بأن المكان معزول بشكل غير مقبول رغم كل ما يتوفر عليه من مقومات وهو واقع وجب أن يتغير حسبهم، كما أكدوا حاجتهم إلى التفاتة حقيقية، تستدعي الدعم اللازم من قبل الجهات الوصية    بغية توسيع المساحات الزراعية و توفي مرافق سياحية تضاعف عدد زوار المنطقة و تعطي دفعا قويا للأنشطة الشائعة فيها.
لا يمكن أن نغادر المكان، دون أن نشير إلى خصوصيته كموقع سياحي تميزه طبيعته البكر و كنوزه الأثرية الثمينة، التي لا يزال جزء كبير جدا منها مدفونا تحت الأرض وبحاجة لدراسة و تنقيب جادين لأجل الكشف عنه، قسطل اليوم هي مشروع سياحي كبير يعد بمستقبل اقتصادي هام، لا يمكن أن يتحقق إلا إن تضافرت الجهود، ووجد إرادة سياسية محلية حقيقة لاستغلال المقومات السياحية التي تخر بها هذه الجنة مترامية الأطراف.            ع.نصيب

الرجوع إلى الأعلى