تروي جدران ديار عرب بقسنطينة القديمة، قصصا عن حسن الجوار و «الحرمة» و كيف انعكست هندسة المنازل على طبيعة العيش داخل فضاء مشترك كبرت فيه أجيال على كثير من القيّم، و ازدهرت فيه العادات و التقاليد، فديار عرب ليست فقط منازل للعيش، بل هي جزء من الذاكرة المادية و المعنوية للمدينة،لأنها تعكس أيضا نمط بناء متفرّد له خصوصية تسهوي إلى يومنا الكثير من الباحثين في مجال العمران و الهندسة.

 رميساء جبيل

رغم شبح الخراب الذي يلتهم جزءا كبيرا من النسيج الحضري القديم، من السويقة إلى شوارع القصبة العتيقة بقسنطينة، إلا أن هناك منازل لا تزال صامدة في وجه الطبيعة و اعتداءات البشر، كما لا تزال أبواب و نوافذ تفتح ممرا عبر الزمن، يأخذ الزائر في رحلة ثرية بالتفاصيل بداية بسر «النح» أو المضرب الحديدي الصغير على كل باب و مرورا برائحة الجير و النيلة الزرقاء وصولا إلى وسط الدار و السقيفة و الزليج و حكايات النساء.
نظام تكييف طبيعي
على بعد خطوات من الجامع الكبير بنهج الشيخ لفقون دخلنا ورشة خياطة تابعة لإحدى البيوت القديمة، كان جزؤها العلوي متهاويا بعد ترحيل أصحابها، قابلنا هناك شيخان غطى الشيب رأسيهما، كانا منهمكين في الخياطة سألناهما عن المنزل وأهله، فتنهدا كلاهما في نفس الوقت بحسرة، قال الأول وهو الحاج صاحب 75 عاما، بأن السويقة فيما مضى كانت قلب المدينة النابض ومقصدا للزوار و سوقا نشطة جدا، وأن منازلها كانت ولا تزال الأجمل والأفضل رغم تطور العمران، بدليل أن الغرفة التي نجلس فيها الآن حسبه، مكيفة بطريقة طبيعية دون الحاجة إلى مبرد، رغم أن درجة الحرارة تتعدى 42 في الخارج.
يمكن السر كما أوضح، في الجدران المبنية من الحجر و التراب و التي لا يزيد عرضها عن 80 سنتيمترا، و التي تكون البيوت بفضلها باردة في الصيف ودافئة خلال فصل الشتاء.
غادرنا الورشة لنواصل التجوّل بين أزقة عامرة بذكريات لا يزال بعضها حيا في قلوب وعقول الكثير من أبناء المدينة، على غرار الخالة عزيزة التي صادفناها خلال استطلاعنا، قالت لنا، إن السويقة كانت تعرف بكرم و تكافل العائلات فيها رغم اختلاف أصولهم وثقافاتهم، فالود والرحمة والعطاء المتبادل شعار كل بيت مهما اختلفت الظروف،  مشيرة بيدها إلى البطحة قائلة، إنها لطالما كانت كثيرة الحركية في الصباح لأنها سوق كبيرة عامرة، أما ليلا، فالمنطقة لا تنام  خصوصا خلال المناسبات، التي ترتبط بعادات و تقاليد، كانت النساء حريصات عليها، كما كان الرجال أوفياء للمالوف والعيساوة والوصفان وأهل الفن عموما.
 عند مدخل البطحة، بدأت روائح الوجبات السريعة المنبعثة من دكاكين البيتزا و البوراك و الحمص دوبل زيت و الصامصة، تداعب حواسنا، اقتربنا من أربعيني اسمه حسن، للسؤال عن مكان معين، فاسترسل في الحديث عن المنطقة، أخبرنا، بأنه ولد وترعرع بين أحضان السويقة و أزقتها الضيقة أين ينسحب الظل على طول الدروب التي لا تصلها الشمس إلا قليلا بفعل تداخل المنازل، ولذلك تحديدا يفضلها الكثيرون نهارا هربا من الحر على حد قوله.
منزل واحد لـ 14 عائلة
فالمنازل هنا أو ديار عرب كما يطلق عليها، بنيت وفق نمط يتحكم في الحرارة فصليا، نظرا لاستخدام التراب والطين اللذين يعدان أيضا، عازلين للصوت مضيفا، أن كل منزل كان يأوي قرابة 14 عائلة، يعيش الجميع في تآخ، فرحهم واحد وحزنهم واحد « الضعيف يقوى و القوي يستقوى» كما عبر.
قال، بأن «الحرمة» كانت أساس التعامل، ولذلك فقد كان الجناج الصغير المنفصل في الدار و المعروف بـ         « العلي» يمنح للابن البكر عند زواجه ليستقر فيه، أما اليوم فلم يتبق في المنازل سوى الحجارة و رجع صدى الضحكات و الحكايات، بعدما هجرها أهلها في إطار عملية إعادة الإسكان، وهنا ذكرنا، بأن هناك من تعمدوا تخريب جزء من البيوت العربية لأجل الحصول على سكنات جديدة.
مع ذلك علمنا منه، أن هناك عائلات لم تتخل عن بيوتها، وأن البعض أعادوا ترميمها و عصرنتها نوعا ما كما حوّل حال منزلين دلنا عليهما الأول في زنقة        « الزلايقة» والثاني في البطحة.
قصدنا أقرب « دار»، وهي للسيدة عبلة بورطل البالغة من العمر 64 سنة، وتقع على بعد رواقين من حمام البطحة، دخلنا المنزل فسيح البهو وقد شعرنا بنوع من الراحة بفعل تأثير المكان، ذي الهندسة الموريسكية بأقواسه و زليجه  وطوابقه، قالت مضيفتنا، بأن الرئيس الراحل هواري بومدين، كان ممن سكنوا البيت و قد نزل « بدار الضياف» وهو طالب في الجامع الكتاني.

غرف و أسماء و بصمات
أخذتنا السيدة عبلة، في جولة داخل المنزل مررنا بدار الضياف ثم « لعلي»، ليقابلنا مباشرة عند بلوغ آخر طابق فضاء واسع يضم أربعة غرف متقابلة لكل غرفة نافذة تطل على البهو، كانت أعمدة المنزل مطلية بجير أصفر، و عليها بصمات أياد واضحة، علمنا من الخالة عبلة أنها « للوصفان» الذين زاروا المنزل أثناء تصوير فيلم جزائري، أما السقف فكان على شكل قبة شبه متهاوية.
عدنا إلى الطابق الأول أين تعيش مضيفتنا رفقة ابنتها  بعدما أعادت تهيئة ما يشبه شقة صغيرة، مكونة من مطبخ و غرفة ضيقة للغاية لا يتجاوز علو سقفها المترين، أما الطابق الأرضي الذي يقود إلى سطح الدار فكان مغلقا ولم ندخله لأنه مؤجر لعائلتين.
حدثنا بدورها، عن الزمن الجميل وكيف كان التكافل الاجتماعي بين كل العائلات التي تقطن الدار، والتي قد يأكل أفرادها من صحن واحد أحيانا، قائلة و دموع الحنين تغالبها إن المرحومة والدتها كانت لا تنام إلا بعد دخول كل أفراد المنزل و أنها في الأعياد كانت تعد الحلويات و « الفطير و الطمينة» للجميع و تضع سينية القهوة في الفناء الداخلي، علما أنه لا يمكن أن تمر المناسبة على أيتام المنزل أو المطلقة دون أن يحصلوا على الكسوة.
تصميم بهندسة متقنة و أبعاد رمزية
تصف إحدى قاطنات المنزل سابقا المهندسة المعمارية المختصة في ترميم المباني التاريخية ورئيسة مشاريع الترميم بالمدينة القديمة سابقا، ياسمين عميرش، دار الضياف قائلة، بأنها تتكون من مبنيين الأول يقع يسار المدخل الرئيسي ويعرف بـ " لعلي" وهو عبارة عن سلالم تؤدي إلى الطابق العلوي الذي به فناء صغير مستطيل الشكل مغطى بالزجاج يسمح بمرور الضوء.  أما المبنى الثاني فهو الطابق الأرضي ويعرف بـ"الدار" ويتكون من الفناء
و "وسط الدار" وهو فضاء مفتوح يرمز للعلاقة بين العبد وخالقه، تحيط به أعمدة رخامية تتوسطها نافورة، كما يوجد بها «ماجن» لتخزين المياه يعود للعهد الروماني، فضلا عن وجود طابق منخفض بين طابقين يدعى «السلامات».
يبرز تخطيط المبنى كما أوضحت، ثلاثة مستويات متتالية من الهيكلة و تضم الفناء والبيوت والرواق، و هذا الأخير يأخذ شكل الأقواس وهو مساحة نصف مفتوحة يربط جميع الغرف المحيطة به والتي تلتف بدورها حول محول الفناء، وتكون بها عادة نوافذ تطل على وسط الدار.
 هناك أيضا، « المجالس» التي تقع في الطابق الأرضي إلى جانب « السلامات» وهي مخازن للمواد الغذائية حاليا، ناهيك عن السقيفة التي تلي المدخل الرئيسي مباشرة، كما يوجد بها قبو به مقصورة « مستودع»  وضعت فيه غرفة نوم صغيرة « الدكانة».
وتقول المتحدثة، إن الجدران بنيت بالحجارة واللبنة الصلبة، و تم تزيينها كما جرت العادة، بزليج مزخرف على ارتفاع متر و 30 سنتيمترا، فيما فرشت أرضية غرفة الغسيل المتواجدة بالطابق الأخير، ببلاط أحمر في شكل سداسي الزوايا، أما الفناء والرواق فبالرخام والسيراميك، و استخدم خشب العرعار، كهيكل للأرضية أما السقف فكانت أساساته من القصب والجبس لتشكيل قبته المزخرفة والمغطاة من الأعلى بالقرميد الأحمر.
بني المنزل في عهد الأتراك، وكان مخصصا لاستقبال عائلة واحدة، ليتحول خلال الحقبة الاستعمارية، إلى مأوى لطالبي العلم بسيدي الكتاني، وبعد الاستقلال أقامت به عائلات عديدة جمعتها أزمة السكن.
الطابع المعماري له خلفيته الثقافية

ترى الدكتورة الباحثة في علم الآثار مريم صغيري، أن الطابع المعماري لمنازل المدينة العربية  « ديار عرب» ذو خلفيات ثقافية، فقد صممت البيوت بطريقة تحفظ خصوصية المرأة دون أن تعزلها ضمن فضاء مغلق ضيق، حيث يتوفر البيت عادة على مساحة داخلية مفتوحة لا سقف لها.
وتقول الباحثة، أن جل البيوت المنتشرة بالمدينة القديمة تأخذ شكل حرف « أو» كون شرفاتها العلوية تطل على وسط الدار، أما الأرضية فهي تشبه لعبة الشطرنج   حيث تغطى عموما بالرخام الأبيض والأسود المعروف  بـالتسمية العامية « الخادم وسيدو».
ويتطلب الدخول إلى المنزل حسب المتحدثة، العبور من خلال باب خشبي يعرف بـ « باب خوخة»، ليجد الزائر نفسه في حضرة « السقيفة» وهي غرفة صغيرة مخصصة لجلوس الغرباء وعزل الهواء البارد أو أشعة الشمس الحارقة.
تسمى الغرف في الطابق الأرضي « لمجالس»، أما العلوية فتعرف بـ « البيوت» وهي تأخذ شكل المستطيل أما الغرفة المتداخل فاسمها « الدكانة»، و  يمتد           « الدرابزي الخشبي» على مستوى الطابقين الأول والثاني و يطل على وسط الدار.
البلاط الأحمر أو الرخام للتميز
تغطى السلالم بالبلاط الأحمر أو الرخام لإظهار النبل والثراء ، إلى جانب كونه لا يهترئ و يحافظ على الحرارة والبرودة.  
وحسب مريم صغيري، فقد تم استعمال الحجارة والآجر في بناء الجدران الخارجية نقلا عن الرومان، حيث تثبت الأساسات السفلية عن طريق رص الحجارة فوق بعضها البعض إلى غاية الانتهاء من الطابق الأول، ثم يقل عددها ويستعمل الآجر إلى جانبها كلما ارتفع البناء لتخفيف الثقل، فيما يستخدم في بناء الأعمدة آجر صغير الحجم يصنع في الأفران، من خصائصه الحفاظ على الحرارة و امتصاص الرطوبة، ويصمم السقف والسطح من خشب « العرعار» و الآجر، أما السلالم فيستخدم فيها القصب.
وتضيف المتحدثة، أن نوافذ هذه المنازل تفتح نحو الداخل بإطلالة على وسط الدار، ويستعمل في تزيينها زجاج ملون، أما النوافذ الخارجية فتكون مرتفعة وصغيرة الحجم في شكل مستطيل يليها شباك من حديد به أشكال هندسية وزخارف متنوعة، إلى جانب طلاء الجدران بالجير والجبس، يضاف إليهما قليل من النيلة الزرقاء لأجل اللون وتمديد عمر الطلاء.
بيوت إسلامية

يقول الباحث في التاريخ الإسلامي و الحضارة   الدكتور عبد القادر دحدوح، بأن البيت القسنطيني، هو كتلة معمارية يتوسطها صحن يلتف حوله رواق تنفتح عليه الغرف في طابقين أو أكثر، وله مدخل رئيسي واحد يختلف موقعه من دار إلى أخرى، إذ ينفتح على الشارع بشكل منكسر، ويعد هذا التخطيط هو النمط الغالب على مساكن الحضارة الإسلامية من شرقها إلى غربها مثلما وجد في أقدم الدور المكتشفة بالفسطاط والتي ترجع إلى العهد الطولوني.
ويضيف، أن تعاليم الدين الإسلامي وراء صياغة هذا المخطط، للحفاظ على حرمة البيت وستر أهله من عيون الغرباء، بداية بمظهر المسكن الخارجي الذي يخلو من النوافذ إلا في حالات نادرة و بمقاسات صغيرة، إضافة إلى طريقة توزيع وحدات المسكن التي تنقسم إلى        « السلملك» وهو الجزء الخاص بالضيوف و» الحرملك» المخصص للحريم، ناهيك عن مدخل الدار الذي صمم منكسرا حتى يحجب الرؤية من الخارج، كما في  «دار  الدايخة»، التي يوجد في سقيفتها مقعد مخصص للغرباء يساير الضلع الشمالي ثم ينكسر باتجاه الضلع الشرقي. أما في « دار بن جلول»، فتوجد ممرات داخلية منكسرة إلى جانب الغرف التي تحتل الأركان الثلاثة في الطابق العلوي، و هي الأخرى موصولة بممر منكسر، حتى تسهل على المرأة الاختفاء أثناء دخول أو خروج الزوار من البيت، وتتميز هذه الممرات بنظام الإقفال الصوتي  « عازل»، زيادة على حل معماري آخر صمم خصيصا لحفظ حرمة البيت دون حجب التهوية والإضاءة عنه وهو الستائر الخشبية « المشربيات».
ويظهر للمار بديار عرب أنها مغلقة لا تهوية فيها، لكن المعماري المسلم، وضع حلولا بديلة تجعل المنزل منفتحا على الفضاء الطبيعي، فالفناء الداخلي الذي يمثل العنصر الرئيسي في تخطيط مساكن قسنطينة، يتشكل من صحن مركزي تنفتح عليه جميع الغرف بواسطة مداخل تتسم بالاتساع والعلو وعلى جانبيها نافذتان كبيرتان، كما لعبت المداخل الرئيسية دور المنظم الحراري داخل الغرف وخارجها.
 أما المدخل الخارجي والممر المنكسر الذي يليه فكان بمثابة عازل حراري وحاجز أمام الأتربة، وعازلا للصوت الخارجي أيضا.
ويرى الباحث، أن الفناء هو الرئة التي يتنفس منها سكان المنزل، فهو مصدر الإضاءة والتهوية للغرف المحيطة به، ففي النهار حسبه، تتعرض الأسطح والجدران لأشعة الشمس فتسخن أرضية الفناء وتقل بذلك كتلة الهواء فيصعد إلى أعلى، بينما يحل محلها في الأسفل هواء رطب مصدره النافورة والفتحات الجانبية. وأثناء الليل تفقد الأسطح والجدران حرارتها وتنخفض معها تدريجيا درجة حرارة الهواء المحيط بها، ليندفع إلى الصحن ويحل محل الهواء الأقل برودة، ومن المظاهر التي يتجلى فيها تأثير العامل الطبيعي في تخطيط المساكن بقسنطينة، هو غياب السطوح العلوية فقد جاءت جميعها مغطاة بسقف « جملوني» أو مائل مكسو بالقرميد.
ويحتوي المسكن على وحدات أساسية ضرورية تتمثل في الغرف والمطبخ والكنيف « المرحاض» والحمام والمخازن، بحيث تأخذ الغرف والقاعات شكلين أساسيين هما المربع أو المستطيل، وكذا غرف مستطيلة فتح في وسط ضلعيها الكبيرين باب بمصراعين يقابله في الضلع الثاني « إيوان»، يختلف عمقه وعرضه من غرفة إلى أخرى، بجوانبه أو جانبين منه نوافذ، ويكون سقفه مسطحا في أغلب المساكن، بينما نجده في بعض الدور على غرار دار « الدايخة بنت الباي»، مسقف بقبة مزخرفة بها نقوش جصية، كما تتسم جميع الغرف ذات التخطيط « الإيواني» بوجود نافذتين أو أكثر على جانبي الباب تطلان على الصحن وبجانبهما خزائن جدارية تنتهي هي والنوافذ بعقد على هيئة مقبض « سعفة اليد».
أما الوحدات المتبقية من مراحيض ومطابخ وحمامات ومخازن فتختلف مقاسات حجراتها من مسكن إلى آخر ولا يظهر فيها شيء من الخصوصية سوى أن المخازن توجد على مستوى طابق مستقل يتوسط الطابقين الأرضي والعلوي، وتتسم بانخفاض علوها الذي يتراوح بين 50 و1,70 سنتيمترا.
أما بخصوص المظاهر الفنية والزخرفية، فقد شاع استخدام الزليج أو ما يعرف بالبلاطات الخزفية في تكسية جدران المسكن، خاصة الغرف الرئيسية والمطلة على الصحن، بينما فرشت الأرضيات ببلاطات رخامية أو خزفية، مع استخدام الأعمدة الرخامية وأحيانا الحجرية إلى جانب الدعامات المشيدة بالآجر، وتعلوها في الغالب أقواس وعقود نصف دائرية أو حدوية.

الرجوع إلى الأعلى