أشار تقرير لمنظمة الصحة العالمية، صدر سنة 2023، إلى أن أكثر من  700 ألف شخص، تتراوح أعمارهم بين 15 و29 سنة يكون الاكتئاب سببا في انتحارهم، وقدّر التقرير بأن حوالي 280 مليون شخصا في العالم يعانون من هذا الاضطراب النفسي، بما في ذلك أربعة بالمائة من الرجال، وستة بالمائة من النساء.

ويختلف التعامل مع هذا «القاتل الصامت» كما وصفه الأخصائيون النفسيون، من حالة إلى أخرى، فبينما يختار بعض المصابين الإفصاح عن وضعهم والمُضي في رحلة التعافي، يتعامل آخرون مع أعراضه على أنها مجرد اضطرابات مزاجية عابرة تزول بمرور الأيام، فيما يُضمر آخرون ما يشعرون به من تغير في سلوكهم، وانطفاء إقبالهم على الحياة، عازلين أنفسهم عن المجتمع لتنتهي قصتهم مع الاكتئاب بفاجعة تعكس حجم الضرر الداخلي الذي عانوا منه تاركين خلفهم الكثير من التساؤلات.
وأوضح أخصائيون للنصر، بأن شبح الاكتئاب قد يلقي بظلاله السوداء على عالم الطفولة أيضا فيُسكت صخبه، ويصادر منه بهجته، ولا تُختزل أسبابه لدى الأطفال في المشاكل الأسرية فقط أو الصدمات التي قد تعترضهم، بل يدفعنا أيضا للعودة إلى تاريخ العائلة والبحث عن ماضيها مع هذا الاضطراب.  
الاكتئاب هل مازال موضوعا للسخرية والمزاح؟

وشرحت الأخصائية النفسية والعيادية، منال العابد، بأن الاكتئاب هو اضطراب مزاجي يسبب شعورا متواصلا بالحزن، يصاحبه الشعور بالذنب ونقص تقدير الذات، وأضافت بأنه يسبب الكثير من المشاكل العاطفية والجسدية، التي تؤثر على أداء الأنشطة اليومية للفرد، ويتطور المرض في حالة تهرب المصاب من تشخيص حالته ليصل إلى التفكير في الانتحار أو الإقدام عليه في حالات أكثر حدة.  
وفصّلت العابد في جملة من الأعراض التي تظهر على الشخص المكتئب أبرزها حالات الحزن المستمرة، وضعف الثقة بالنفس، الشعور باليأس، فضلا عن القلق الدائم والتوتر، وانعدام الرغبة في ممارسة الأنشطة الروتينية والتمتع بها كما في السابق، ناهيك عن صعوبات في اتخاذ القرارات، وفقدان التركيز، بالإضافة إلى أعراض جسدية مثل صعوبات واضطرابات النوم تصحبها أفكار سلبية، مع الاستيقاظ مبكرا بالرغم من عدم إشباع الحاجة في الراحة، إلى جانب انخفاض الشهية ونقصان الوزن أو العكس، كما يعاني المصاب من صداع وآلام في العضلات، ويظهر عليه البطء في الحركة والتواصل، فيما يسبب الاكتئاب اضطرابات هرمونية لدى النساء.
واسترسلت الأخصائية في الحديث عن أنواع الاكتئاب التي تتفاوت في درجات الخطورة، ويعد الاكتئاب الموسمي الذي يصاب به الأشخاص، غالبا، في فصل الشتاء أقلها حدة، فيسبب العزلة عن المجتمع، ويزيد الاستسلام للنوم، فضلا عن ظهور تغيرات في شكل الجسم بسبب زيادة الوزن، أما الاكتئاب الذهاني فتصاحبه بعض الاضطرابات العقلية مثل، الهلوسات التي ترتبط بأوهام جد كئيبة ، كالفقر وتوهم المرض، فيما قد تتعرض النساء إلى اكتئاب ما بعد الولادة الذي يكون في فترة الحمل ويمكن أن يمتد إلى ما بعد الولادة، بحسب الأخصائية، حيث تُصاب المرأة بالقلق وتشعر بالإجهاد الذي يكبح نشاطها الأدائي، وتُفَرِّط في العناية بنفسها وطفلها، كما يؤثر على التفاعلات الأولية  بينهما، في حين تختلف أعراض الاكتئاب ثنائي القطب عن التي ذكرتها محدثتنا فيما سبق، إذ قالت بأن الفرد يجد نفسه متأرجحا بين حالتين خلال اليوم، إما نوبات اكتئاب شديدة، أو نوبات عالية من الابتهاج، واعتبرت بأن الاكتئاب الحاد هو أخطر هذه الأنواع، إذ يشعر فيه الفرد بالحزن الشديد، والتفكير الدائم في الانتحار الذي قد يصل إلى الإقدام الفعلي عليه.
وشرحت الأخصائية النفسية بأنه يوجد فرق بين الحزن العادي والاكتئاب المرضي، فالأول هو رد فعل طبيعي على حالات قد يصطدم بها الشخص في مرحلة من حياته كفقدانه لشخص قريب، أو تعرضه إلى خسارة مالية أو فقدانه لوظيفة، يكون مؤقتا ولا يُذهب الرغبة في الاستمتاع بالحياة، كما يمكن للشخص خلال تلك الفترة التفكير في حلول للخروج من أزمته وبناء أهداف مستقبلية جديدة، بينما يدوم الاكتئاب المرضي لأسابيع أو أشهر ولا يستطيع الشخص ممارسة أي نشاط يومي، فضلا عن طغيان الأفكار السلبية عليه أثناء التفكير في مستقبله، ونوهت الأخصائية إلى ضرورة استشارة الأخصائيين عند ملاحظة هذه الأعراض خصوصا إذا استمرت لأكثر من أسبوعين، وتفكير الشخص في الانتحار أو إيذاء النفس.
كما لفتت العابد إلى أن هناك بعض الأعراض لأمراض عضوية تشبه الاكتئاب، مثل مشكلات الغدة الدرقية، أو أورام الدماغ، فضلا عن نقص «فيتامين دي» الذي يسبب الخمول، ونصحت بالتحقق والتأكد من الحالة الجسدية قبل تشخيص الاكتئاب الذي لا يكون إلا من طرف طبيب نفسي.
الخـجل سبب لكتــمان الإصابة بالاكتئاب

من جانبها أوضحت الأخصائية النفسية، نوال مكيد، بأن الاكتئاب أصبح من أمراض العصر الذي يعرف انتشارا كبيرا في المجتمعات، كما صنفته ضمن الاضطرابات الصامتة التي قد يتعرض لها أي شخص، وأضافت بأن تدهور الحالة النفسية تؤثر على صحة الفرد الجسدية، فتظهر لديه أمراض مزمنة كالضغط والسكري، ويختلف التعامل مع الاكتئاب، والاستسلام له حسب طبيعة شخصية الفرد، وخبراته في الحياة، إضافة إلى تجاربه السابقة مع المرض، لذا فلا يمكن حصر قياس حدته في جنس المصاب، وفقا للأخصائية، كما يتوقف تقبل الشخص لحالته واختياره للعلاج فضلا عن مدى تجاوبه معه، على قوة الإرادة والرغبة في تجاوز الأزمة. وأرجعت مكيد، سبب إخفاء معظم الناس لإصابتهم بالاكتئاب إلى الخجل من الاعتراف بحالتهم واللجوء إلى العلاج النفسي، فضلا عن نقص ثقافة الاهتمام بالصحة النفسية، ناهيك عن قلة الوعي وغياب المعلومات الكافية المتعلقة بالاضطرابات النفسية لدى أفراد المجتمع، حيث لا يستطيع المصاب تحديد الأسباب التي أدت إلى تغير حالته، بل إن الأغلبية يتعاملون معها وفقا لطرق تقليدية، فيربطونها ببعض الحجج البعيدة عن التفسير العلمي.
وقالت مكيد، بأن تراكم المشاعر السلبية وعدم الإفصاح عنها فضلا عن ضغوط العمل، تعد من بين الأسباب الرئيسية للإصابة بالاكتئاب، فيما نفت أن يكون لهذا الاضطراب علاقة بالماديات، واعتبرت بأن إصابة بعض الأشخاص المعروفين بوضعهم الاقتصادي والاجتماعي الجيد يعود إلى الفراغ العاطفي الذي يعانون منه.
من جهة أخرى أشارت، الأخصائية، بأن الاكتئاب قد يكون بمثابة رحلة صحوة للشخص، حيث يمر بداية بما أسمته بـ»الليلة المظلمة للروح» التي تكون أكثر شدة وقسوة من حالة الاكتئاب، فيتذكر الإنسان الرسالة التي جاء من أجلها إلى الأرض، وأضافت بأن هذه الحالة تُحدث لدى الشخص انفتاحا تدريجيا في مستويات الإدراك والوعي، ومن ثمَّ تتغير نظرته كليا للحياة.
قوة الإرادة ضمن وصفة علاج الاكتئاب
وأكدت، الأخصائية النفسية، نوال مكيد، على أن الطبيب النفسي هو القائد لرحلة العلاج من الاكتئاب، كما تتحدد مدة التشافي بحسب حالة كل شخص والأسباب المؤدية إلى الإصابة، فضلا عن قدرة ومدى تجاوب المريض وتفاعله مع البرنامج العلاجي، وأضافت بأنه هناك احتمالية لشفاء الشخص المكتئب دون الحاجة إلى الأدوية إذا كان يملك إرادة قوية فضلا عن توفر المرافقة الجيدة له.
ويخضع الشخص الذي يكون في حاجة إلى تدخل طبي، وفقا للأخصائية النفسية والعيادية، منال العابد، إلى العلاج المعرفي والسلوكي، والعلاج بحل المشكلات المتراكمة في تفكير المصاب، فضلا عن العلاج الدوائي المتمثل في مضادات الاكتئاب التي يصفها الطبيب العقلي، واعتبرت بأن العلاج المشترك والجمع بين هذه المستويات هو من أنجح الطرق كما يعطي نتائج جد فعالة.
ويمكن الوقاية من الاكتئاب، بحسب العابد، من خلال العناية بالصحة النفسية، والبحث عن سبل لتفادي الوقوع في القلق والاضطرابات النفسية، وذكرت الأخصائية النفسية، ترك البيئة التي تسبب الضغوط للشخص، وكسر الروتين بممارسة أنشطة ممتعة وهوايات تحسن المزاج، مثل السفر والاستمتاع بالمواقف البسيطة التي يخلقها الإنسان لنفسه، كما نصحت بممارسة التمارين الرياضية لأنها تزيد من إفراز مادتي «السيريتونين» و»الأندروفين» اللذين يساعدان على الاسترخاء وتحسين المزاج، فضلا عن التدرب على تقبل النفس بمزاياها وسيئاتها، واختيار أشخاص موثوقين للتواصل معهم والترويح عن نفسه بمشاركتهم المخاوف التي تعصف بالشخص والأحزان الداخلية وخيبات الأمل.
هل الاكتئاب مرض وراثي؟

وقال الأخصائي النفسي والعيادي عبد الرزاق والي، بأن عيادته تستقبل أطفالا أيضا شُخصت إصابتهم بالاكتئاب، وهو اضطراب شائع لديهم، وأضاف بأن نسبة الإصابة به تتراوح من واحد إلى اثنين بالمائة في سن الطفولة المبكرة، وتتضاعف في سن البلوغ. وأوضح الأخصائي بأن تاريخ العائلة مع المرض يمكن أن يُوَرَّث إلى الأبناء مستقبلا، لهذا فقد نبه على ضرورة الاهتمام بالحالة النفسية للمقبلين على الزواج، فضلا عن تحري شفائهما من الاضطرابات النفسية التي مروا بها من عدمه. وتابع بأن التعرض للضغوط أو لأحداث صعبة داخل العائلة ناهيك عن التجارب الاجتماعية التي يمر بها الطفل، من شأنها أيضا أن تؤدي إلى الإصابة بالاكتئاب المرضي، فضلا عن الاضطرابات الكيميائية التي تصيب الدماغ.
وأعقب الأخصائي النفسي بأن أعراض هذا الاضطراب تكون غالبا غير واضحة لدى الأطفال، وتحتاج إلى فحص دقيق من قبل المختصين لتشخصيها، كما أنها تختلف عن الأعراض التي تظهر لدى البالغين، وأشار والي إلى الغضب المستمر، والتغير في المزاج، فضلا عن الإعياء المستمر ونقص الطاقة، ومواجهة صعوبات في التركيز الذي يؤدي إلى تدهور الأداء المدرسي، فضلا عن جنوح الطفل إلى التمرد وعدم الالتزام بالأوامر، بالإضافة إلى تجنبه ممارسة الأنشطة الاجتماعية والعزلة عن الأصدقاء.    ووفقا للأخصائي النفسي فإن هذه العلامات تشير إلى ضرورة التحدث مع الطبيب النفسي بشكل فوري، لتقييم الوضع والحصول على الدعم المناسب، مضيفا بأن فهم العوامل التي أدت إلى ظهور الاكتئاب لدى الطفل تساعد في وضع خطة فعالة للتعامل مع الاكتئاب لديه. من جانبها ترى الأخصائية النفسية التربوية والمعالجة الأسرية، صبرينة بوراوي، بأن اكتشاف هذا الاضطراب لدى الأطفال يعد الأكثر صعوبة، وربطت ذلك بالاختلاف في تعبيرهم عن المشاعر وعدم قدرتهم على وصفها بوضوح، لذا اعتبرت بوراوي بأن المهمة تقع على عاتِقَيْ الأسرة والمدرسة كونهما المراقب الأول للطفل، وقالت بأنهما يجب أن يطلعا على أعراض الاكتئاب، حتى يكونا على استعداد للتدخل مع المختص في العلاج المبكر، وفي هذا السياق، أشارت الأخصائية بأن هناك أعراضا أخرى تنذر بتغير حالة الطفل، لكن الأسرة تتعامل معها بلا مبالاة وفي غالب الأحيان يتهمون الطفل بأنه يريد إثارة الانتباه، وهذا راجع بحسبها إلى عدم قدرتهم على فهم التلميحات الصادرة عنه من قبيل التعرض للكوابيس، وإهمال الطفل للنظافة الشخصية، والتحسس الزائد الذي تصاحبه نوبات البكاء، فضلا عن جلد الذات والتلفظ بعبارات مثل «أنا لا أصلح لشيء»، «أنا السبب في كل المشاكل»، «لا أرغب في العيش».
وقاية الطفل من الاكتئاب عملية يتشارك فيها الأهل والمدرسة

واعتبرت الأخصائية النفسية التربوية والمعالجة الأسرية، صبرينة بوراوي، بأن الصحة النفسية تؤثر على باقي جوانب حياة الإنسان، لذلك وجب وقايتها والمحافظة عليها من القلق والاضطرابات التي قد تُخِلُّ بتوازنها. وركزت على، الحفاظ على الجو المناسب داخل الأسرة، فضلا عن تجنيب البيت العنف والتوتر العائلي، وعدم مناقشة الأبوين لمشاكلهما أمام الأطفال وجعله طرفا في الخصام، كما أكدت على أهمية تعزيز التواصل العاطفي، فضلا عن الإصغاء بصبر واهتمام للطفل، واحترام مشاعره وأفكاره، ومجاراته لفهم مشاعره وانشغالاته، والتعبير له عن الحب والتقدير بشكل مستمر، وأضافت بأن هذه التصرفات تساهم في زيادة الثقة بنفسه وشعوره بالأمان والحب.
كما نصحت العائلات باتباع نمط حياة صحي، خصوصا من ناحية الاهتمام بنظام الغذاء المتوازن مع ممارسة الأنشطة الرياضية لتعزيز الصحة العقلية، ومساعدة الطفل على التقليل من التوتر فضلا عن أنها تزيد من شعوره بالسعادة.
وتحدثت بوراوي عن أهمية تنظيم الروتين اليومي للصغار واعتماد برنامج يعلمهم الانضباط، دون حرمانهم من اللعب، الذي اعتبرته مهما جدا في حياتهم إذ يمنحهم الشعور بالثبات والأمان.
من جهة أخرى قالت بأن للمدرسة أيضا دورا حاسما في وقاية التلاميذ من الاكتئاب والاضطرابات النفسية، كتوفير بيئة داعمة لهم، وتنشيط برامج توعوية تركز على الصحة العقلية، وتُطلعهم على العلامات المبكرة للاكتئاب والطرق الصحية للتعامل معه، ناهيك عن كيفية طلب المساعدة والدعم سواء من أصدقائهم أو معلميهم.
ولفتت الأخصائية النفسية التربوية والمعالجة الأسرية، إلى الأخذ بعين الاعتبار الاضطرابات التي تظهر على التلميذ المكتئب مثل كثرة التأخر علن الصف المدرسي، وفي هذا الصدد نصحت بالبحث عن الأسباب الرئيسية التي تدفعه لهذا التصرف من أجل معالجتها وخلق جو مريح وآمن له، مع الابتعاد عن تعنيفه وضغطه، واستخدام استراتيجية الاقناع الإيجابي لمساعدته على التعامل مع وضعه، كما أشارت إلى التأكد من استيعابه لدروسه داخل القسم وتخصيص وقت أطول له في الشرح مع منحه كل التفاصيل، والاعتماد على تجزئة الأعمال الطويلة لأن الاكتئاب المرضي، وفقا لها، يسبب صعوبة في التركيز ويثبط من سرعة استرجاع المعلومات لدى الطفل.
إيناس كبير

الرجوع إلى الأعلى