مازال طبق «الشرشم» يفرض نفسه كل عام فلاحي، والذي يصادف بداية السنة الأمازيغية، فرغم التنوع المرافق للاحتفالية والذي يضاف إليه في كل مرة مواد من المنتوجات المستحدثة، إلا أن «الشرشم» يتأصل أكثر ويشهد إقبالا أكثر من السابق.    

 القمح المطبوخ في الماء  
يتساءل البعض عن أصل التسمية «الشرشم» والتي هي كلمة متداولة في عدة ولايات من الوطن وتعني «غلي الطعام في قدر ماء»، ورغم أن المفهوم هذا يكاد يختفي من المنطوق المتداول ولكن طبق «الشرشم» مازال يضمن استمراريته من جيل لآخر، حيث في اليوم الذي يسبق احتفالية السنة الأمازيغية، يتم تنظيف كمية من القمح ونقعها في الماء وفي صباح اليوم الموالي تصفى وتُغلى في ماء جديد مع قليل من الملح والكمون وعندما ينضج القمح يصفى من الماء ويوضع في صحن كبير تلتف حوله العائلة.
وقبل عقود، كان موعد تناوله قبل منتصف النهار حتى يأخذ كل فرد نصيبه من بركة العام الجديد باكرا، وشيئا فشيئا بدأت ربات البيوت في إضافة بقوليات أخرى على القمح، خاصة عندما يكون حصاد العام المنقضي جيدا ووفيرا، فأصبح الفول المجفف والحمص يرافقان القمح في طبق «الشرشم».
«كول الشرشم لا تحشم»
لم نجد أحدا يفسر خلفية هذه الجملة التي أصبحت تلازم طبق الشرشم لغاية اليوم، ولكن اتفق كثيرون على أن إحدى العائلات  الجزائرية في زمن مضى كانت تحضر الشرشم في بيتها، فطرق الباب شخص غريب طالبا شيئا يأكله في البرد الشديد والثلوج، فأكرمته العائلة في بيتها ولكن خجلت ربة البيت لأنها لم يكن لديها طعام تقدمه للضيف إلا القمح المطبوخ في الماء، فقام زوجها بتقديم الشرشم للضيف وهو يقول  له «كول الشرشم لا تحشم» يعني ليس لدينا ما نقدمه لك سوى هذا الطبق البسيط المتواضع.
«كول الشرشم لا تحشم» هي الجملة التي يرددها الجميع أثناء تناول هذا الطبق، وأصبح يرددها الباعة في السوق عند عرضهم لقدر الشرشم وبيعه للزبائن، وهي تجارة كانت قديما حين كانت بعض الأسر لا تستطيع شراء كمية القمح وتحضيره، أما اليوم فالشرشم يباع في بعض الأسواق لأن الكثير من ربات البيوت خاصة العاملات يتعذر عليهن تحضيره في المنزل.
الأستاذ المختص في الأنثروبولوجيا موسى إسماعيل شماخي
القمح رمز الرفاه والخير والبركة

أكد الأستاذ المختص في الأنثروبولوجيا موسى إسماعيل  شماخي للنصر، أن الشرشم هو خلاصة لعلاقة الجزائريين بالقمح والتي هي وطيدة جدا وتمتد لعدة عصور، وفي القرون القريبة كانت الجزائر تصدر القمح لعدة دول في العالم، وبالتالي فطبق «الشرشم» مرتبط بالموسم الفلاحي سواء الحصاد وفرحة الفلاحين بالوفرة أو بالحرث والبذر ونثر أماني ودعوات لكي يكون الموسم أحسن من سابقه، مردفا أنه حتى في بعض المناطق الصحراوية يوجد دلالة ورمزية للخير الذي ينجر عن القمح، حيث أن حفظة القرآن عند ختم كتاب الله يوضع فوق رؤوسهم طبق من القمح لزيادة البركة والخير.
وأوضح محدثنا أن التراث الجزائري فيه الكثير من رمزيات جميلة للقمح، الذي مازال يصنع العادات والتقاليد في كل أنحاء الجزائر، وهذا من خلال الكسكسي، والشخشوخة، والرشتة، وبعض العجائن التقليدية التي تحضر في البيت مثل «شربة الظفر» وغيرها، وهي أيضا أطباق توضح العلاقة المتينة للجزائريين بمنتوج القمح، مبرزا أن مادة القمح كانت تستعمل كذلك في بعض العلاجات قديما ومنها إطعام الطفل الصغير طبق الشرشم حتى تتقوى اللثة ولا يشعر بألم التسنين أي خروج الأسنان، إلى جانب استعمالات أخرى للقمح الذي يميز الجزائر خاصة ويرمز للخير الوفير فيها عبر الزمن.
غرس قيّم الخير في الأجيال
وفي حديثنا مع بعض السيدات، كان الإجماع على ضرورة التمسك بهذه التقاليد التي بفضلها يتم غرس العديد من القيم الجميلة في الأجيال القادمة.
حيث قالت السيدة زهية، إنها لا تفوت فرصة «الناير» إلا وتحضر طبق الشرشم رغم أنها اليوم تعيش وحدها مع زوجها بعد أن تزوج كل أولادها، ولكن هي دائما تنتظر ذاك الطارق الذي يجب أن يجد الشرشم، ففي بعض الأحيان يأتي أحفادها وفي أحيان أخرى أبناء الجيران أو غيرهم من الضيوف غير المتوقعين مثلما تقول، المهم تحافظ على رمزية الخير وتوصلها للشباب والأطفال.
أما السيدة زهرة فأوضحت أنه يوجد  طريقتان لتحضير طبق الشرشم، الأولى أن يتم طهيه في الماء مع قليل من الملح، أما الطريقة الثانية فيطهى بتحضير المرق أي إضافة الطماطم والفلفل والملح، كما أنه يستحسن إضافة  الحمص والفول بعد نقعهما أيضا مع القمح طيلة ليلة كاملة،  وأشارت محدثتنا إلى أنها في كل موسم تحضر الشرشم بطريقة إما الأولى أو الثانية، وهذا حتى يتعرف أطفال وشباب العائلة على هذه العادات وترسيخها فيهم لأنها تحمل معها كل الخير والبركة.
المكسرات والحلويات العصرية «لم تهزم الشرشم»

المتجول في أسواق وهران أو المناطق الجزائرية هذه الأيام ينبهر بالمنتوجات المعروضة والخاصة بإحياء رأس السنة الأمازيغية أو»العام الفلاحي»، حيث يعرض الباعة كل أنواع المكسرات والحلويات وأيضا التين الجاف والتمور والبلوط والفواكه الوطنية وحتى القادمة من الخارج وخاصة «الأناناس، الكيوي، الموز وغيرها»، ورغم اختلاف آراء الناس حول الأسعار، إلا أنهم أجمعوا أن هذا العام هو عام الخير والرفاه بالنظر لما هو موجود في الأسواق وهو الدليل على أنه رغم شح الأمطار إلا أن أرض الجزائر مازالت تذر الإنتاج الوفير من مختلف الخضر والفواكه والمكسرات.
والملاحظ هذا العام هو إقبال المواطنين على المنتوج الوطني عكس سنوات مضت حيث كان الكثيرون يطلبون المكسرات والفواكه الأجنبية للاحتفال بالناير، ولكن سرعان ما تبين أن المنتوج الوطني أجود خاصة الذوق لأنه غير مشبع بالمبيدات الكيماوية حسب العديد من الناس.
وغير بعيد عن طاولات المكسرات والفواكه المرصوصة وكأنها لوحات فنية رسمها فنان، لإبداع الباعة خاصة في سوقي المدينة الجديدة ولاباستي بوهران، في طريقة عرضها والتي تتطور كل موسم في محاولة لجذب الزبائن، حيث يوجد من الباعة من يضع أكياس القمح والفول المجفف والحمص وإلى جانبها العجائن التقليدية مثل الكسكسي والبركوكس خاصة والرقاق والمسمن، حيث تتزاوج الأصالة والمعاصرة في فضاء أصبح هذه الأيام يعج بالزبائن.            بن ودان خيرة

الرجوع إلى الأعلى