تضاعف عدد محلات بيع حلوى الجوزية أو «الحلوى الملكية» في قسنطينة مؤخرا، وذلك مع تزايد الطلب عليها و اتساع سوقها لتصل إلى الكثير من دول العالم، فالجوزية لا تشترى لأجل الاستهلاك فقط، بل تعد هدية فاخرة  تقدم للضيوف و الأصدقاء و هي أفضل وسيلة للمجاملة، لأنها حلوى ترتبط بمطبخ المدينة و تاريخه و لها خصوصية فريدة لأن وصفتها الأصلية لا تزال سرية و قليلون هم من يعرفون كل تفاصيل  تحضيرها بدقة، ولذلك يختلف طعمها في بعض الأحيان، فهناك قطع عادية وأخرى تذوب معها المشاعر لحلاوتها و تناغم مكوّناتها.

الطلب الكبير على الجوزية زاد شهرتها جدا، فصار الحديث عن قسنطينة لا يخلو من الإشارة إلى هذه الحلوى و كأنها جزء من هوية المدينة، وقد دفع الأمر بسيدات إلى تعلم أصول تحضيرها و زاد التنافس فيما يخص فنيات تعليبها و تسويقها، فظهرت علامات مميزة جدا من حيت التقديم و التعليب الفاخر، و دفع التنافس إلى برمجة مسابقات في صناعة الجوزية توزع خلالها الميداليات و تمنح الألقاب.
حلوى مثيرة للجدل
تنقلت النصر، بين عدد من  محلات بيع الجوزية بقسنطينة، لمعرفة سر  نكهتها الأصلية و الحديث عن الجدل حول طريقة تحضيرها الصحيحة وقد لمسنا إقبالا معتبرا عليها خلال جولتنا، ولدى سؤالنا للبعض عن أصلها، قالوا بأنها  قسنطينية خالصة تم ابتكارها داخل قصر « الباي أحمد» الذي حكم  المدينة بين سنتي  1826  و 1837، أين  استطاع طباخ قصره صنع حلوى ذات تركيبة سرية سميت «اللوزية» آنذاك، كانت تُصنع بنفس الطريقة ولكن باستخدام اللوز بدلا من الجوز، قبل أن يتم اعتماد النوع الثاني من المكسرات في الوصفة بعدما تبين  خلال التجريب بأنه أفضل بكثير،  وقد طلب «الباي أحمد» من الطباخ حسبما تؤكده الرواية، عدم إفشاء سر الخلطة لعامة الشعب، لتكون الحلوى من الوصفات الخاصة بمائدته فقط، وقيل أن العامة تناولوا الجوزية أول مرة عند نهاية أشغال بناء قصر الباي، فلشدة سعادته أمر الباي بتوزيع حلواه الخاصة على رعاياه لمدة أسبوع كامل.
قال تجار و حرفيون آخرون تحدثنا إليهم، بأن هناك نوعا ثانيا من الحلوى كان يقدم للباي إلى جانب الجوزية، و هي حلوى كانت تسمى  «روح الباي»، و كانت تساعد على تحسين مزاجه حين يشعر بالاكتئاب والضجر، وهو السر وراء تسميتها.
 هناك فئة أخرى من المتحدثين، فندت قصة الباي وقالوا لنا، بأنه هذه الحلوى أو الجوزية عرفت في المدينة منذ القدم، وكانت تصنع بأيدي سكان المدينة و قد شاعت في تلك الحقبة بعدما تخصصت في صناعتها عائلات محددة، وبقيت  متوارثة إلى يومنا هذا ولم تشع وصفتها بين الناس إلا في السنوات الأخيرة.
سفيرة قسنطينة إلى  الخارج

 أكد محمد بوعبلو، وهو صاحب محل لبيع الجوزية، بأن صناعتها ظلت لسنوات متوارثة بين العائلات، قائلا بأنه لا يستطيع تكذيب أو تصديق ما يروى عن أصل الحلوى، سواء قصة الباي أو أية قصة أخرى، فكل أسطورة أو قصة تزيد  أكثر من شعبيتها، لأن الجدل يغذي الفضول.
 وأضاف  الصانع، بأن  هذه الحلوى تلقى اهتماما بالغا في السنوات الأخيرة و تحديدا منذ تظاهرة قسنطينة عاصمة الثقافة العربية، حيث تحولت إلى نشاط تجاري مربح بعد رواجها في مختلف ربوع الوطن     وتعدت شهرتها حدود الجزائر  إلى الخارج، مشيرا إلى أن علب الجوزية لا تفارق حقائب زوار المدينة من أبناء الجالية و السياح الأجانب.
 وأكد المتحدث، بأن سكان قسنطينة يقبلون على شراء «حلوى البايات» باستمرار على الرغم من ارتفاع سعرها،  مضيفا بأنه يتحدد حسب حجم العلبة وعدد القطع بداخلها، ويختلف من محل إلى آخر، و يبلغ سعر القطعة عموما 60 دينارا عند أغلب الباعة. وعن سر وصفة  حلوى الجوزية  الأصلية،  قال بأنها  مصنوعة من  السكر والعسل الطبيعي وبياض البيض، تمزج المكونات مع بعضها ثم تضاف إليها قطع صغيرة من الجوز، وتطبخ على نار هادئة لمدة  8 ساعات حتى تجهز، ثم يسكب المزيج في صينية و يوزع بارتفاع محدد و يقطع إلى مربعات، و تزين كل حبة بقطعة من الجوز، ثم تلف داخل ألمنيوم غذائي للحفاظ على النكهة و الليونة.
ومن العوامل التي  ساعدت على  زيادة شهرة  الجوزية حسبه، الالتزام بطريقة  التحضير التقليدية بدلا من استخدام الآلات الحديثة التي تقضي على النكهة الأصلية، فضلا عن احترام الوصفة الأصلية دون استبدال المكونات الطبيعية.
صناعتها لم تعد حكرا على أحد
ولم تعد صناعة الجوزية حكرا على عائلات معينة، مثل « براشي»       و»منصوري» و أسماء أخرى توارثت الحرفة وأسرارها أبا عن جد، فقد كشفت الوصفة وصارت في متناول الكثيرين رغم الجدل حول الطريقة الأصلية في التحضير والتي تحدد الجودة و تتحكم في المذاق والقوام   وقد ظهرت أنواع وأشكال جديدة من الجوزية، على غرار « الجوزية روايال» المصنوعة بالشكولاطة،
و «موس الجوزية» التي ترافق صينية الشاي وما إلى ذلك، فضلا عن أنواع من الحلويات التقليدية المحشوة بالجوزية، وهو ما أكدته لنا ليلى سهيلي، حرفية في صناعة الحلويات التقليدية، قائلة بأن العديد من الحرفين باتوا يتقنون تحضير الوصفة، بعدما علمهم إياها أصحاب الحرفة الأوائل.

وعلقت  الحرفية، قائلة بأن حلوى الجوزية التقليدية جزء من التراث القسنطيني و ليس لها مثيل من ناحية الشكل أو الذوق،  فضلا عن قيمتها كإرث حضاري. مضيفة  « ظهرت في الآونة الأخيرة   موضة الحلويات المشرقية التي غزت محلاتنا وموائدنا وخاصة أعراسنا، و مهما تعددت وتنوعت طرق صنع الحلويات، تبقى الأصناف التقليدية الأصيلة وخصوصا « الجوزية» سيدة الموائد»
وأوضحت سهيلي، بأن العديد من صانعي الحلوى غيروا من وصفتها الأصلية، وأصبحوا يعدونها بمادة الجلوكوز بدلا من العسل،  وذلك لكي لا يستغرق طهيها مدة طويلة، وترى بأنه لا يجب تغير الوصفة والإخلال بمكوناتها لأن ذلك سينعكس سلبا على الذوق و الجودة.
* محمد عبود مكوّن في الحلويات التقليدية بغرفة الحرف بقسنطينة
إقبال كبير على  دورات  تحضير الجوزية
حسب محمد يزيد عبود، مكون في  الحلويات التقليدية بغرفة الحرف والصناعات التقليدية بقسنطينة،  فإن نشاط بيع حلوى الجوزية لم يعد مقتصرا فقط على المحلات الشهيرة بالمدينة، بل بات يشمل ربات البيوت و رجالا يمتهنون صناعة الحلوى، صاروا يتنافسون جميعا على مواقع التواصل الاجتماعي وبالخصوص أنستغرام و فيسبوك، لتسويق منتجاتهم وذلك بفضل الدورات التكوينية التي يقبلون عليها لتعلم  تحضير الجوزية.

 وأكد المتحدث، بأن الإقبال على تعلم صناعة حلوى الجوزية بقصد امتهان تحضيرها وبيعها تضاعف في السنوات الأخيرة، مضيفا بأن أغلبية الوافدين إلى الغرفة هم شباب مهتمون بالتجارة في هذا النوع من الحرف، فمنهم من يتوجهون إلى إنشاء ورشات وافتتاح محلات، وهناك من يفضلون العمل عن بعد، وقال إن العامل المشترك بين الجميع هو الاهتمام بالحفاظ على هذه الوصفة القسنطينية والترويج لها.وأضاف، بأن دورة تعلم تحضير الجوزية تستغرق ثلاثة أيام عادة، وهي مدة كافية للإلمام بكل التفاصيل، مشيرا إلى أنه في كل دورة يسجل إقبالا كبيرا لا يشمل فقط أبناء الولاية، بل وافدين من ولايات أخرى نظرا لما تتمتع به هذه الحلوى من شهرة واسعة. وأشار، إلى أن الجوزية من الحلويات المطلوبة وهي صنف راق جدا تقدم كهدية أحيانا، وتزين الموائد في المناسبات وتستهلك بخاصة في رمضان، وبخصوص تغيير الوصفة الأصلية للجوزية، شدد المتحدث على ضرورة عدم المساس بها،  لأنها تندرج ضمن قائمة التراث الثقافي والحضاري ومن فنون المهارة اليدوية و يجب الحفاظ عليها، وأن لا يضر الغرض التجاري بها. وأرجع ارتفاع ثمنها في كل مرة، إلى غلاء مكوناتها الأساسية كالعسل فضلا عن صعوبة إعدادها التي تتطلب وقتا وجهدا كبيرين.
لينة دلول

الرجوع إلى الأعلى