تختلف عطلتهم الصيفية عن عطل أقرانهم من التلاميذ، فالشواطئ و زرقة البحر لا تعنيهم، بقدر ما يعنيهم العمل و الكد لجمع ما تيسّر من المال، لإعانة العائلة و توفير مصاريف الدخول المدرسي الذي تتحمل أعباءه جيوبهم الصغيرة، أطفال في عمر البراعم يقفون تحت أشعة الشمس الحارقة على الأرصفة و في الشوارع الرئيسية بوسط المدينة، ليزاحموا الكبار في التجارة و يتحملون مثلهم مسؤوليات الحياة التي ألقت بثقلها على أكتافهم الغضة و جعلت الصيف بالنسبة إليهم فصلا للعمل، أملا في غذ أفضل.
عشية الدخول المدرسي تحولت شوارع و أسواق وسط المدينة، إلى فضاءات تجارية بالنسبة لأطفال صغار تتراوح أعمارهم بين 14و 17سنة، دفعتهم ظروفهم القاسية للعمل، من أجل إعانة عائلاتهم المعوزة و ادخار القليل لتغطية نفقات عودتهم إلى المدارس، منهم من اعتاد على العمل كل صائفة بسبب أولياء فضلوا التخلي عن مسؤوليتهم لأبنائهم الصغار، و منهم من صقلت ظروف الحياة الصعبة الشعور بالمسؤولية لديهم، و جعلت منهم رجالا صغارا  أحلامهم ليست شاطئا أو حديقة، بل مجرد طعام و ملابس، وهو واقع وقفنا عليه خلال جولة قادتنا إلى وسط مدينة قسنطينة و مناطق أخرى، قابلنا خلالها أطفالا اختاروا العمل على اللعب.
المسؤولية تصنع الرجال و التضحية بالطفولة ثمن مستقبل أفضل
عددهم حوالي سبعة بوسط المدينة وحدها،  يتواجدون على مستوى نهج 19 جوان " رود فرانس"، و نهجي بوجريو و عواطي مصطفى، منهم من يجلس على صندوق قديم ويختار ركنا بعيدا بحثا عن الظل، لعرض بضاعة قد تكون توتا بريا أو ملابس داخلية، بيتزا، دبابيس أو بقدونس و قصبر  (دبشة و معدنوس)، ومنهم من يقف تحت الأشعة الحارقة، و هو يروج بأعلى صوته لبضاعته البسيطة، غير آبه بمن حوله همه الوحيد هو كسب قوت يومه.
رامي، 14 عاما، تلميذ في الطور الابتدائي من حي بوذراع صالح، يقف طيلة النهار وسط شارع 19 جوان، يبيع الدبابيس مقابل 20 دج لكل دزينة، أخبرنا بأنه اعتاد العمل خلال الصائفة منذ كان في عمر 13، وذلك لمساعدة عائلته، فهو يتيم الأب و لديه شقيقين، الأول أكبر منه بسنتين، و يعمل في بيع البيتزا التي تحضرها والدته كل صباح ، و الثاني أصغر منه، أما هو فيساعد قدر المستطاع، خصوصا خلال الدخول المدرسي، على الأقل ليوفر مصاريفه الخاصة، كما عبر.
 رامي الذي لم ترهقه حرارة الجو و لا ضوضاء المدينة، قال بأنه لا يجد حرجا في العمل، فهو يحصل على بضاعته من أحد شباب الحي، مقابل مبلغ  رمزي يعادل 200 دج عادة، و يعيد بيعها بهامش ربح قدره 5 دنانير عن كل أربعة رزم.
محدثنا بين بأنه في السنة الماضية امتهن تجارة البيض، و كذا البيتزا التي تعدها والدته، و قد ساعده ذلك كثيرا على توفير المال اللازم لشراء كسوة جديدة للعيد و الدخول المدرسي، كما وفر له و لشقيقه الأصغر ثمن الأدوات المدرسية، بالمقابل تكفل شقيقه و والدته بمصاريف رمضان.
بشارع مسعود بوجريو، قابلنا عبد الله صاحب 16 عاما، كان رفقة ولد آخر رفض الحديث إلينا، و قد اختار الولدان ركنا قريبا من سوق الإخوة بطو،و وضعا صندوقين من التوت البري يبيعان كأسا مملوء منه مقابل 100 دج.
عبد الله قال بأنه يسكن تحصيص حداد المعروف بحي الزاوش، وأنه يتنقل رفقة صديقه كل ثلاثة أيام تقريبا، إلى بلدية عين سمارة ، أين يقومان بجمع التوت من أشجار إحدى المزارع، ليعيدا بيعه وسط المدينة، علما بأنه باع الأعشاب العطرية " بقدونس و دبشة"، خلال رمضان، كما باع البالونات و المناديل الورقية و العلك، ففي كل مرة يكيف تجارته مع "رأسماله"  و متطلبات السوق على حد تعبيره، مضيفا بأنه لا يخجل من العمل كبائع، لأن ذلك يوفر له مصروفا يكفيه شر الفقر، علما بأن والديه على قيد الحياة، لكن العمل بالنسبة إليه يصنع الرجال، و ما يجمعه الآن سيدخره ليبني به مستقبله لاحقا،كما أكد.  
 كر و فر مع الشرطة و ضريبة من أجل الحماية
سألنا بعض الباعة و أصحاب المحلات عن نشاط هؤلاء الأطفال، فأخبرونا بأنه موسمي، يزيد عادة خلال مواسم الأعياد و رمضان و المولد النبوي، و خصوصا الدخول المدرسي،و بأنهم عادة ما يدفعون ضريبة للباعة الشباب للكف عن إزعاجهم و السماح لهم باستغلال المساحة أو الرصيف المحاذي لطاولاتهم الفوضوية، وحتى لحمايتهم من المرتزقة الذين يستغلون ضعفهم و صغر سنهم لسرقة جهدهم و عرقهم.
 أما الأطفال الباعة، فأكدوا  بأنهم تعودوا على أجواء السوق، و باتوا يعرفون كيف يفرضون أنفسهم على من يحتكرون التجارة الفوضوية، و حتى على الزبائن، وهو ما لمسناه من خلال احتكاكنا بهم، فأغلبهم اشترطوا علينا شراء سلعهم ، مقابل الحديث إلينا، هذا فضلا عن أن بعضهم، كما أخبرونا، أصحبوا شركاء لباعة فوضويين شباب، يتكفلون بتوفير البضاعة، بينما يعمل الأطفال كباعة متنقلين أو حتى كمروجين للبضاعة بأصواتهم، مقابل 200 دج لليوم.
محدثونا قالوا بأن الحياة التي تحدثوا عنها بلسان أفراد ناضجين، لا تمت لأعمارهم الحقيقية بصلة، فقد علمتهم بأن صغر السن لا يعني التقاعس و أن العمل يعلم الشطارة و يربي لديهم حسا تجاريا، قد يجعل منهم تجارا كبارا في المستقبل، حتى وإن كانوا يواجهون صعوبات كالتنقل و حر الشمس و السعي لحماية البضاعة من السرقة، و حتى الهرب من دوريات الحجز التي يقوم بها رجال الشرطة  من حين إلى آخر، رغم أن أعوان الأمن يتجنبون المساس بهم أو إيذائهم بسبب صغر سنهم، و كثيرا ما يطلبون منهم فقط العودة إلى منازلهم.
نور الهدى طابي

الرجوع إلى الأعلى