شيع أول أمس الخميس، آلاف الجزائريين، فقيد الأغنية الشعبية، الشيخ أعمر الزاهي إلى مثواه الأخير بمقبرة القطار. وغص شارع الرونفالي والطريق المؤدية إلى مقبرة القطار، بعشرات الآلاف من المواطنين من كل الأعمار، الذين احتشدوا لحضور جنازة «عميمر» كما يحلو لمحبيه مناداته، وعكست جنازة الفقيد صورة الرجل الذي كان رفض النجومية وترك الحياة وملذاتها فعاش بين جمهوره ومحبيه، وتوفي في بيته وسط أحبائه ودفنه الشعب الذي طالما احتضن وتغنى بقصائده.
وُوري الثرى ظهر الخميس جثمان فقيد الأغنية الشعبية أعمر الزاهي بمقبرة القطار في الجزائر العاصمة في جو جنائزي مهيب وبحضور حشود من المحبين والمقدرين لعطاء الرجل على مدى سنوات عديدة. وشارك الآلاف من محبي الفنان الراحل عمر الزاهي في مراسيم تشييعه، منذ خروج الجثمان من منزله المتواضع بباب الواد إلى غاية مقبرة القطار.
وفضل بعض عشاقه ومحبيه قضاء ليلة الأربعاء إلى الخميس أمام مدخل العمارة التي بها بيته المتواضع، لإلقاء نظرة عليه، ورفض كثيرون تصديق خبر وفاة عميد أغنية الشعبي، بعد الشائعات التي راجت أكثر من مرة في الفترة الأخيرة، وركنت سيارات الأمن لضبط وتنظيم حركة المرور، بينما بادر شباب الحي بتوزيع قارورات الماء والكراسي لكبار السن. وسهر جيران الفقيد على تنظيم الدخول إلى العمارة القديمة ذات الطوابق الثلاثة خشية عدم تحملها العدد الكبير من الوافدين.و سمح أهل الفقيد بتنظيم المتوافدين على بيت الراحل لبعض القادمين من أماكن بعيدة بالدخول بأفواج صغيرة لإلقاء النظرة الأخيرة على الفقيد. وقال أحد أقاربه أن الشيخ رحمه الله، لحظات قبل وفاته ولما أحس بدنو أجله، جمع بعض من أهله وطلب منهم الصبر وقال «اطلبوا من الجميع العفو وبلغوا هذا عني»، وأضاف بأن الفقيد أوصى بأن لا تقام له أي مراسم أو بروتوكولات رسمية في جنازته، وأضاف قائلا «حتى في الموت فضّل أن يكون متواضعا ولم يشأ أن يلتف به أولائك المختصون في تعليق عراجين التمر على قبور من يحبهم الشعب» واستطرد قائلا «لكن أعمر لم يكن مشتاقا لتمرة أبدا... أعمر الزاهي أسطورة هذا الشعب وصوته سيظل حيا في كل شبر من الأحياء الشعبية.. ربي يرحمك عميمر»
وقبل منتصف الليل سارعت مصالح البلدية لتنظيف الشارع المؤدي من بيت الفقيد إلى المقبرة، وخيم الحزن على أزقة وشوارع العاصمة، وتراجع عدد الوافدين، لكنهم سرعان ما عادوا بأعداد ضخمة مع بزوغ فجر الخميس، وفي حدود العاشرة صباحا كان الشارع مكتظا بالمارة والمشيعين الذين رافقوا الموكب الجنائزي إلى غاية المقبرة، وغصت شوارع باب الواد بالمشيعين الذين حضروا من العاصمة ومن خارجها، وسط توقف تام لحركة مرور المركبات، وأغلقت تقريبا كل الطرق المؤدية إلى حي الرونفالي ساعات قبل انطلاق مراسيم التشييع، وقدم المشيعون من كل أنحاء الوطن لتوديع أيقونة الفن الشعبي.
وفضل بعض محبيه الانزواء في بعض الأزقة وآثار الحزن والدموع بادية، ليخرج أحد الأقارب إلى الشارع مطالبا الجميع بترك مساحة لتحرك النعش.وبعدها بلحظات خرج نعش الفقيد مسجى بالعلم الوطني ومحمولا على الأكتاف وسط الدموع وصيحات التكبير والتهليل، وتعالت زغاريد النسوة من شرفات العمارات، وسار الموكب على صوت التكبيرات والزغاريد إلى مسجد «البراني» بباب جديد بالقصبة، للصلاة عليه، وبعدها نقل جثمان الفقيد إلى مقبرة   القطار
عاش يتيما ومات عظيما
وحرصت عائلة الفقيد أن تكون جنازته بعيدة عن البروتوكولات الرسمية، وقال أحد أقارب الفقيد «أن المرحوم أوصى بعدم نقل جثمانه من المنزل العائلي إلا باتجاه المقبرة وليس لأي مكان آخر» وأضاف «الفقيد رفض في سنوات ماضية أي تكريم رسمي وكان على العائلة تنفيذ وصيته التي تركها»، حيث فضل الزاهي أن يدفنه محبوه وأبناء الشعب الذين عاش معهم طيلة حياته.
وكانت ملامح الحزن بادية على وجوه كل الذين حضروا لمشاركة عائلة الفقيد حزنها، وقال عمي حميد الذي كان يعرف الفقيد شخصيا «الرجل ليس كما يراه البعض متكبرا بل كان خلوقا وطيبا إلى درجة لا  يمكن لأحد أن يتصورها». وأضاف «ربما لأنه تربى يتيما تركت لديه تلك الرغبة في العزلة والبقاء بعيدا عن الأضواء»، واستطرد قائلا «عميمر كان يحب الجميع والكل يحبه والدليل هو ما ترونه اليوم فهذه جنازة رئيس دولة أو أكثر».   
وأجمع كل الحاضرين في الجنازة أن فقدان الشيخ هو «يوم حزن»، وقال أحد محبيه « كل شيء حزين على فراقك ياشيخ أعمر... حديقة مارينغو التي كان يقضي فيها الشيخ بعض أوقات فراغه..الرونفالي والكل الذين تراهم مجتمعين سيفتقدون صوت ونظرات الشيخ.....لم نستطع إخراج نعشه من البيت ولا السير به مشيا إلى المسجد ولا العودة به إلى المقبرة إلا بصعوبة كبيرة والكل كان يبكي ويتشبث به رحمة الله عليه».
ولم يقتصر الحضور على الرجال فقط، بل كانت بعض النساء وحتى العجائز بين حشود المعزين، وقالت إحداهن «أن الزاهي أقام عرسها يوم زواجها قبل 20 سنة» وأضافت «تصوروا حينها رفض أخذ المال لأننا من عائلة فقيرة ولما أنهى الحفل أعطى للفريق الذي كان معه من ماله الخاص .. لا يمكن لكم أن تتصوروا مدى الحزن الذي نحن فيه رحمك الله يا شيخ لبلاد...الرجال بالرجال و الرجال بالله رحلت شامخا معززا مكرما في بيتك و فراشك وبرهنت على معدنك الأصيل و رجولتك الحرة أعمر الزاهي ما يطلب غير ربي سبحانه لا يرضخ ولا يشكي همه، رجل بمعنى الكلمة جزائري شريف»

الزاهي يرقد بجوار عمالقة الشعبي
وحضر جنازة الفقيد، عشاق وأصدقاء الفنان وعدد من الوجوه الفنية والوزراء والشخصيات السياسية ورؤساء الأحزاب، على غرار عبد القادر شاعو وعبد الرحمان القبي وعزيوز رايس وكذا بوعلام رحمة. الذين توافدوا على المقبرة القديمة للقطار أين ترقد جثامين العديد من فناني الشعبي الكبار على غرار الحاج مريزق والشيخ بوجمعة العنقيس والحاج محمد العنقة. ولم تتسع مقبرة القطار، لاستيعاب جحافل المواطنين الذين هبوا لتوديع أيقونة الأغنية الشعبية الجزائرية، إلى مثواه الأخير.. بوجوه ممتلئة بالحسرة والحزن على فنان سكن وجدانهم بروائعه وترجم حياتهم الشعبية إلى أغان، و وجد الموكب الجنائزي صعوبة كبيرة في اختراق حشود المشيعين، وبدأت مراسم الدفن والتأبين ثم قراءة الفاتحة والترحم عليه في مشهد يسوده الحزن على فراق فنان سكن ذاكرة الجزائريين إلى الأبد.
كان هندام من حضروا جنازة «شيخ الشعبي» يوحي بانتمائهم إلى الطبقات الشعبية العريضة، فالبدلات السوداء التي غالبا ما يرتديها الرسميون والمسؤولون في جنائز الشخصيات الوطنية المعروفة كانت غائبة تماما، وحلت محلّها بدلات مرصعة بمختلف الألوان في إيحاء بأن جلّهم من الفنانين، كما طغى الهندام الشعبي على الحضور كبدلة «بلو دو شنغاي».
ومكث أصدقاء «عميمر» وزملاؤه من الفنانين في محيط مدخل المقبرة يتعانقون ويسألون عن أحوال بعضهم، وكان من بينهم عبد الرحمن القبي، الذي تردد في الوسط الفني أنه كان على خلاف مع المرحوم لأسباب غير معروفة، إلا أن الرجل أكد أن الحب الذي يكنه لفقيد أغنية الشعبي لا يعلمه إلا الله، واستعاد الحضور، وخاصة من عرفوا الفقيد عن قرب،  ذكرياتهم مع الزاهي التي كانت عن الأعراس التي حضروها، واجمعوا على خصال الرجل المتواضع والذي لم يكن يتوانى عن إسعاد الآخرين، كما تحدث البعض عن القصص التي نسجت حول شخصية الرجل، منها رفضه إدلاء أي حوار صحفي رغم إلحاح كثير من الإعلاميين. و لم يكن هذا الغياب المتواصل عن وسائل الإعلام سببا في نقصان شهرته، بل على العكس من ذلك، فقد كان محبوب الجماهير وخاصة محبي الشعبي، وهو الذي جعل من هذا الفن الراقي سببا من أسباب وجوده.
راح الغالي راح.....
وعبر معجبو الفقيد على شبكات التواصل الإجتماعي عن حزنهم الكبير لفقدانه و تقاسموا بشكل موسع فيديوهات أغانيه، واعتبره بعضهم «مثلا أعلى في الحياة» وتحدث بعضهم عن صفاته الإنسانية. وتبادل عشاق الإيقونة عبارات المواساة طالبين من كل الذين عرفوه أو استمعوا لأغانيه طلب الرحمة لروحه الطاهرة.
وكتب أحد المغردين قائلا « والله منظر مهول و أعداد لا يتصورها العقل خاصة من الشباب هذا يعكس أخلاق المرحوم ومكانته الكبيرة عند الناس ... الله يرحمك يا مداح و يرحم جميع مداح..لي مبكاش لبارح يبكي اليوم».. وقال آخر في تغريدة « الشيخ شهّد و قال هذا أمر الله اصبروا و تبسم و خرجت الروح إلى مولاها اللي يشوف يكذب مات يضحك الله يتوب عليك و يجعلك من أهل الجنة يا الشيخ المتواضع الفنان العظيم أسطورة الأغنية الشعبية سنبقى نذكرك في قلوبنا و عقولنا ما حيينا أنت أعظم مثال للفنان بأخلاقك و حكمتك أفنيت حياتك في فنك يشهد لك القريب و البعيد»
وعرف عن الفنان أعمر الزاهي عدم المشاركة في أي مهرجان أو حفل فني، والاكتفاء بإحياء حفلات الأعراس، ليكون قريبا من جمهوره ووسطهم بدون تحسينات صوتية، لم يكن ليحتاجها صوته القوي يوما. كما رفض حضور فعاليات لتكريمه شخصيا أو تكريم بعض الوجوه الفنية، وكان يردد لمقربيه أن التكريم الشعبي الذي يحظى به يفوق كل التكريمات الرسمية الأخرى.
وكانت حياته الخاصة منطقة حمراء لا يجوز لأحد الاقتراب منها، وهو ما جعل البعض يرسمون حكايات بل أساطير عن حياة الرجل الذي اختار العزوبية، ويقال أنه أحب في حياته مرة واحدة، ولكن زُفت لغيره، ليقرر بعدها البقاء وحيدا، وهو الذي تغنى بـ»مريومة» و «زنوبة» إحدى روائعه الفنية، وكثيرا ما غنى للحب وأبدع في سرد قصائد ابن مسايب ولخضر بن خلوف والشيخ الجيلالي وغيرهم من كبار كتاب الشعر الملحون.
أعمر الزاهي، من مواليد الفاتح من جانفي بعين الحمام بأعالي القبائل، عاش يتيم الأبوين، وانتقل إلى حي باب الوادي الشعبي بالعاصمة، فتكفلت عمته بتربيته. في هذا الحي العريق اكتشف موهبة تعلقه بالفن الشعبي والعزف على المندولين. وكان دائما يردد أنه تلميذ للمرحوم بوجمعة العنقيس عرف الزاهي انطلاقته الفنية في سبعينات القرن الماضي خاصة مع الراحل محبوب باتي، و الباجي، والقصائد العريقة، حيث سجل ثلاث أسطوانات من نوع 45 دورة، ثم بعد ذلك سجّل اسطوانتين من نوع 33 دورة، وقدّم أول كاسيت غنائي له سنة 1982 «يا ربّ العباد»، وتلاها بعدّة تسجيلات لعدة أغان منها يا ضيف الله، الجافي، زينوبة، يا قاضي ناس الغرام، يا الغافل توب، الحراز، يوم الخميس، أنايا براني غريب، اسمع نوصيك يا إنسان...
انسحب أعمر الزاهي باكرا عن الأضواء، وعرف الفنان ببساطته وتواضعه وبإحيائه لحفلات عائلية على مر أكثر من خمسين عاما من مساره الفني المتفرد والساحر وقد كان آخر ظهور له على الساحة الفنية في 1987 بحفل احتضنته قاعة ابن خلدون بالعاصمة. ومنذ ذلك الوقت اقتصر حضوره على الأعراس العائلية التي كان يحييها. وتوفي عميد أغنية الشعبي عن عمر ناهز 75 عاما.. فألف رحمة عليك يا شيخ لبلاد.
أنيس نواري

الرجوع إلى الأعلى