تحولت الإشاعة في الآونة الأخيرة إلى سلاح في يد المضاربين، فولايات كثيرة عبر الوطن تشهد تهافتا كبيرا على اقتناء مادة الزيت المدعم، بعد انتشار شائعة ندرتها، ما خلف طوابير طويلة عند مداخل المحلات التي تشهد مناوشات و شجارات حادة، و تكرر بذلك سيناريو مادة السميد الذي طبع بداية الجائحة،  حيث كشفت تحقيقات أمنية لاحقا، بأنه حيك على يد مضاربين تعمدوا إخفاء المادة لرفع الأسعار، و المتابع للوضع يلاحظ بأن سلوك  المستهلكين تجاه قضية الندرة غير طبيعي، و أن التهافت و الشجارات والميل إلى التخزين، يعكس نوعا من الخوف من الندرة في ما يشبه»  فوبيا»، يقول مختصون في علم النفس و الاجتماع بأن لها أبعادا و تفسيرات محددة.
هدى طابي
أزمات مفتعلة تستغل ظروفا استثنائية
الواضح أن هذا النوع من الأزمات مفتعل و مستجد، و يتكرر في كل مرة لخلط حسابات الجزائريين، فقد سبق وأن عشنا أزمات مماثلة  منذ سنوات ، و يهدف من يقفون خلفها إلى خلق ندرة في المواد الأساسية واسعة الاستهلاك، كالزيت و الدقيق و كذا السكر، لأهميتها الكبيرة و ارتباطها المباشر بالأمن الغذائي و الاستقرار الاقتصادي و الاجتماعي.
الجديد في الأمر هذه السنة، هو أن آلية الدعاية السلبية تغيرت و انتقلت من الطريقة الشفهية التقليدية، إلى استغلال مواقع التواصل الاجتماعي في الترويج للأخبار الكاذبة و زرع الخوف من الندرة، ليتحول بذلك فايسبوك إلى وسيلة لخدمة المضاربين، بدليل أن إشاعات الندرة تنطلق من صفحات و مجموعات و تنتشر كالنار في الهشيم، لتخلف هلعا و تهافتا كبيرين، يتسببان في فقدان المواد الغذائية من المحلات خلال بضع ساعات، و من ثم ندرتها في السوق و ارتفاع أسعارها بشكل مباشر. وصل سعر كيس السميد خلال بداية جائحة كوفيد19،  إلى 2400 دج، و تعدى سعر قارورة الزيت ذات خمسة ليترات 900 دج  في الآونة الأخيرة، و يذكر كذلك، أن استغلال الظروف و اختيار فترات  إطلاق الإشاعة، أمر مدروس في مثل هذه الأزمات،  ولا يتم بشكل اعتباطي، فأزمة السميد و ما ترتب عنها من رمي أطنان من هذه المادة في المزابل، تزامنت مع فترة الحجر الصحي، أما أزمة الزيت و السكر فقد سبقت رمضان بفترة وجيزة، كما كانت هناك محاولات لخلق ندرة في مواد أخرى مثل حليب الأكياس والطماطم خلفت تهافتا وطوابير في بعض الولايات مثل العاصمة وأم البواقي وتبسة.

الباحث في علم النفس الاجتماعي أحمد زين الدين بوعامر
المضاربة مبنية على دراسة نفسية للفرد الجزائري
لعل لعب  المضاربين و صناع الأزمات، على وتر الغذاء و استغلال أهمية المواد الأساسية المدعمة في النظام الغذائي للمواطن الجزائري، يرجع بالأساس، حسب البروفيسور أحمد زين الدين بوعامر، أستاذ علم النفس الاجتماعي بجامعة أم البواقي، إلى  معرفتهم، لنفسية الفرد الذي يعاني نوعا من  خوف دفين ، بسبب  ظروف   عاشها، في مراحل سابقة    جعلت المواطن في حالة تأهب وهلع مستمرين، وهو شعور توارثته الأجيال، حيث كانت الإشاعة وسيلة لتكريس مناخ معين يخدم مصالح محددة تستغل سلاح الندرة الاقتصادية للتضييق على المواطن و جعله دائما في حالة حاجة و ترقب، وهو سيناريو يتكرر في كل مرة، و تقف خلفه أطراف تعرف نفسية الجزائري و تدرك حاجاته الأساسية جيدا، كما تدرك تأثير هذه الأزمات المرتبطة بالغذاء على الاستقرار الأمني والمجتمعي، و تحاول توظيف الأمر لأغراض محددة. الباحث أضاف بأن التهافت جزء من عقلية المواطن الذي فطر على صورة الطابور الطويل، منذ عهد ما كان  يعرف سابقا بأسواق الفلاح، وهو ما يستدعي إعادة تهذيب، إن صح التعبير، لهذا النوع من السلوكيات وهو مسعى لن يتحقق، حسبه، إلا من خلال توفير ظروف اقتصادية و اجتماعية مناسبة. و أكد بأن هناك علاقة مباشرة بين تخوف المواطن من الأزمات و بين توظيف الإشاعة على مواقع التواصل الاجتماعي، لأن الهياكل العقلية و النفسية للفرد، تملك استعدادا مسبقا للانسياق خلف  الخرافة أو الدعاية و تتبعها، بالنظر إلى ما عاشه من تجارب سابقة ترتبط بظروف اقتصادية و أمنية متتالية.

المختص في التسويق و صناعة المحتوى محمد الأمين ميزو
خوارزميات فايسبوك تجعله أسهل بيئة  لنشر الإشاعة
 أوضح صانع المحتوى و المختص في مجال التسويق الإلكتروني محمد الأمين ميزو، أن استخدام مواقع  التواصل  الاجتماعي  لنشر الإشاعات، يخضع لجانبين الأول نفسي و يتعلق بطبيعة اهتمامات الجزائريين و طريقة تفاعلهم مع المحتوى الإلكتروني، و الثاني  تقني  يخص خوارزميات المواقع، فمن ينشرون الإشاعة في الجزائر يستخدمون بالدرجة الأولى موقع فايسبوك، و ذلك لسببين، أولهما كون الموقع يعد الأكثر استخداما في أوساط الجزائريين، مقارنة بتطبيقات و مواقع أخرى، ففايسبوك منصة تستقطب الجميع من كافة الأعمار باختلاف اهتماماتهم و مستوياتهم، كما أن هذا الموقع يعتبر بيئة سلبية نوعا ما، بالنظر إلى نوعية ما ينشر عبره، لذلك فإن الإشاعات بخصوص الندرة أو ارتفاع الأسعار أو غير ذلك،  تروج غالبا عبره، و تنتشر بقوة و بسرعة، لأن محتواها يهم شريحة واسعة من مستخدمي المنصة. أما من الناحية التقنية، فهناك خوارزميات  مهيأة لتقديم المحتوى الأكثر تفاعلا، ومن ينشرون الإشاعة يعلمون ذلك، لذا يتم تداول هذا النوع من المضامين على نطاق واسع، خصوصا في الصفحات التي تملك عددا كبيرا من المتابعين و يكون التفاعل فيها عاليا، فخوارزميات فايسبوك تكون هنا موجهة لالتقاط المادة الأكثر انتشارا و تفاعلا عبر الشبكة «توندوس» أو «تراند»، و تعمل بالمقابل على تكثيف تداولها.

أستاذ علم الاجتماع بجامعة قسنطينة فارس بوعمامة
الخلل يكمن في ضعف الثقافة الاستهلاكية للفرد الجزائري
قال الباحث في علم الاجتماع بجامعة قسنطينة2، الدكتور أحمد فارس بوعمامة، بأنه من منظور علم الاجتماع، فإن سرعة تأثر الجزائريين بالإشاعة المتعلقة بالندرة و تهافتهم على تكديس الغذاء، ظاهرة لم  تنشأ من فراغ، لأن  تطور مفهوم و نظرة الفرد الجزائري للاستهلاك، تأثر بالعديد من العوامل، وهو ما أفرز النموذج الحالي. إن التجارب السابقة لندرة المواد الغذائية واسعة الاستهلاك كالسكر والزيت والدقيق، غذت، كما قال، الإحساس بعدم الأمان الغذائي وجعلت المواطن لا يثق في التصريحات الرسمية للدوائر الحكومية، بالرغم من تطميناتها الدائمة له و تأكيدها على وفرة المنتجات، كما لا يغفل الباحث كذلك، ضعف فعالية أجهزة الرقابة في الحد من المضاربة ، وتعقد سلسلة و آلية توزيع المواد الغذائية بداية بعملية الاستيراد، مرورا بمستودعات التخزين و تجار الجملة و التجزئة، وصولا إلى حلقة المواطن البسيط، وما ينجر عن ذلك من احتكار لتلك المواد، علما أن المستهلك أصبح يعي تماما هذا التشابك المعقد في عملية التموين بالمواد الغذائية، كونه كابوس يومي  يؤرقه. الباحث أوضح كذلك، بأن أحد الأسباب الرئيسة الأخرى وراء تأثير الشائعة على سيكولوجية المواطن الجزائري، هو علاقته بمواقع التواصل الاجتماعي، التي أضحت المرجع الأول  لتداول الأخبار الكاذبة و الدعاية المغرضة، وهو تحديدا ما ينمي لديه الشعور باللاأمن الغذائي. كما ذكر المختص مشكل انعدام مفهوم المواطنة و تراجع قيم التضامن،  و توجه المجتمع نحو الفردانية المفرطة، التي جعلت الأفراد يقعون ضحية الأنانية الاستهلاكية، ما  يعد من تمظهرات مجتمع المخاطر الذي تعرفه جميع دول العالم على نحو متباين. ولا يمكن أن نغفل في هذا السياق التفسير العقائدي ، إذ تعرف منظومة القيم الأخلاقية والتقاليد الاجتماعية و تعاليم ديننا الإسلامي،  تراجعا مقابل تنامي مشاعر الشك و الجشع و التباعد الاجتماعي و النفسي بين الأفراد وهو ما يعرف بالفردانية، التي أوجدتها الرأسمالية المادية، لذلك فالدور الذي لاغنى عنه، كما قال، منوط بعلماء الاجتماع وعلماء النفس لاستشراف قضايا الاستهلاك اليومي، و تبيان خطورة الوضع،  سعيا لتداركه عن طريق اقتراح مخطط بعيد المدى، لضبط السياسات التجارية و تنظيم السوق المحلية، بما يتماشى مع توفير أمثل للحاجات الأساسية للمواطنين. 

 

الرجوع إلى الأعلى