رحيل البروفيسور والعلاّمة محمّد بن بريكة 
رحل أوّل أمس الخميس، الباحث والمختص في التصوّف والشريعة وأصول الدين البروفيسور محمّد بن بريكة، عن عمر ناهز 61 سنة، إثر مرض عضال، أدخله يوم الأربعاء 19 جوان، في غيبوبة  توفي بعدها مباشرة. وقد تمت الصلاة عليه بالزاوية البلقايدية تقصراين بالعاصمة بعد صلاة الجمعة ودُفن بمقبرة الزاوية.
الراحل من مواليد العام 1958، نشأ في بيت عِلم درج أفراده على حفظ القرآن والمتون وسلوك طريق التصوّف، ويرجع نسبه إلى قبيلة البوازيد وهم أشراف حسنيون عمروا مدينة الدوسن في بسكرة، حصل على شهادة دكتوراه الدولة في التصوّف الإسلامي بتقدير مشرف جدا،  وقبلها على شهادة المنهجية في البحث وشهادة الماجستير في نفس المبحث والتخصص أيّ في التصوّف،  تقلد العديد من المهام منها إدارة الدراسات ثمّ الدراسات العُليا، ثمّ رئاسة المجلس العلمي وعضوية اللجنة الوطنية لإصلاح برامج التعليم العالي، ونيابة رئاسة اللجنة الوطنية للعلوم الإنسانية والاجتماعية، مشهود له أنّه أحد مراجع حوار الحضارات في العالم، ما مكنه من ترأس عِدة مؤتمرات دولية لحوار الأديان.
 اشتغل الراحل أستاذا للدراسات الإسلامية وأصول الدين وكان محاضرا في التصوّف والفلسفة الإسلامية في معهد الفلسفة بجامعة الجزائر، عرف  بأنّه أصغر أستاذ في تاريخ الجامعة الجزائرية، إذ التحق بها بصورة دائمة وعمره 22 سنة.
انصبت كلّ نشاطات الدكتور محمّد بن بريكة في الداخل والخارج على التعريف بالتصوّف وأصوله ومناهجه وبأعلامه وأقطابه، وقد  ترك وراءه ثلاثين إصدارا، وموسوعتين في الطرق الصوفية من عِدة مجلدات، كما ظل يصول في الأكاديميات والمراكز العالمية للتّصوّف والتراث الصوفي أين حاضر و رافع في حوار الأديان والتصوّف، كما قدم مئات المحاضرات المختلفة وآلاف الدروس في أقسام التدريس في الجامعات الجزائرية، ومنابر المساجد، وهو عضو في مجلة البحوث والدراسات الصوفية، كما كان عضوا في الأكاديمية العالمية للتصوّف، اُقترح عليه أكثر من مرّة تولي حقيبة وزارة الشؤون الدينية والأوقاف لكنه رفض. حصل الراحل على جائزة رئيس الجمهورية للبحث العالمي سنة 2012، ودرع الجامعة العربية عام 2014، وحظي بالتكريم والاستقبال من الرئيس التونسي سنة 2016، جمع في دراساته بين الفلسفة والتصوّف واختارته جامعة كولومبيا الأمريكية كرجل السنة في الجزائر في العام 2017 وتلقى عروضًا للتدريس فيها، لكنه كان يعتذر ويقول: “أنا سعيد في الجزائر”.
الفقيد تمت الصلاة عليه بالزاوية البلقايدية تقصراين بالعاصمة أمس بعد صلاة الجمعة ودُفن بمقبرة الزاوية.
شهادات وإشادات في رجل الاعتدال والوسطية
للراحل الكثير من الزملاء والأصدقاء والطلبة والمريدين الذين رثوه إثر خبر رحيله، وأشادوا به وبمكانته البحثية والعلمية في حقل التصوّف وأصول وحوار الأديان، ومن بين زملاء وأصدقاء الراحل المقربين الدكتور بوزيد بومدين، الّذي اعتبر رحيله خسارة فادحة للجزائر في هذا الظرف الّذي تمر به، قائلا :»شاء القدر أن يرحل عنا الشيخ والفيلسوف الروحاني محمّد بن بريكة في زمن تحتاجه الجزائر والأمة الإسلامية، رحل بعد أيّام من رحيل فلاسفة عرب، كالطيب تيزيني وعزت قرني وإمام عبد الفتاح». مؤكدا أنّه باحثٌ يتقن العبارة ويعبر ببلاغة عن المعنى، باحثٌ غاص في مواقف النفري والأمير عبد القادر،كما أنه جزائري وطني بامتياز، عرفته الزوايا ومشايخ الطٌرق، وارتبط بالزاوية البلقايدية مُشرفا على دروسها المحمدية السنوية.
أمّا الكاتب والإعلامي خليفة بن قارة، فيرى أنّ الجزائر نُكبت وهي في مخاضها العسير، في واحد من أعظم رجالات إجماعها ممن كان يمكن أن يكون أحد مجاديفها، نحو الضفة الأخرى، بل الإنسانية والمحبون للسلام، منكوبون، برحيل أحد رجالات البشرية، الّذي جعل من أخلاق الإسلام نقطة للتلاقي والتآخي والتحاب.
بن قارة أضاف قائلا: «رحل الّذي ازدانت به شاشات التلفزيون مدة من الزمن، وفقدت المنابر المسجدية واحدا من الفرسان، الذين فازوا لها بسباق كسب المزيد من المريدين، وترمّلت الجامعة في رجل كان يحمل لواء توهّجها أينما حل وارتحل، وتيتم معهد الفلسفة بجامعة الجزائر، في أستاذ هو خير من يعرف كيف يقدِّم أصول الدين، إلى من يبحث عن أحسن طريقة لفهمه، وثكلت الطريقة القادرية منسقها العام بالجزائر وعموم إفريقيا».بن قارة، أكد أنّ الطفل القادم من واحة الدوسن ببسكرة، جاء وهو يحمل شمعة، ليصبح بعد وقت منارة أضاءت الفكر الإسلامي، وأزالت من طريقه كثيرا من زوايا الظلام، التي تكونت بفعل تراكم التخلف المركب وخلص في الأخير إلى وصف الراحل برجل الاعتدال والوسطية. من جهته، سرد الكاتب والناقد الباحث محمّد بن زيان، بعض مناقب الرجل، ولخصها في قوله: استمر البروفيسور بن بريكة، مُرافعًا من أجل الحفاظ ومن أجل حماية ما يراه هو وآخرون مرجعية وطنية وبالتحديد الشق الصوفيّ»، كما ثمنّ بعض الخصال التي تميز بها معلقا : “امتلك المرحوم خاصية الحفظ كإرث من المدرسة التقليدية وامتلك قدرة الإسهاب بفصاحة.. كان يستعرض محفوظاته ويواجه المختلفين بحجج وبمنهجية مزجت بين التقليدي والأكاديمي العصري، وكان من نجوم الدروس المحمدية المنظمة من الزاوية البلقايدية، وفارسها الأبرز” .
أما الباحث والمفكر سعيد جاب الخير، فاعتبر موته خسارة للجزائر، ولخص هذا في قوله “حزين جدا للرحيل المفاجئ لأستاذي وشيخي الأستاذ الكبير الدكتور بن بريكة، لقد خسرت الجزائر برحيله عَلمًا كبيرا من أعلام البحث والعلم والمعرفة والعرفان والتصوّف الحقيقي وليس ذلك الّذي يتاجر به المتاجرون في أسواق السياسة».
نوّارة لحــرش

الرجوع إلى الأعلى