روايتي استنطاق لشواهد التاريخ وتصالح مع ماض  زاخر بما أنجزه رجل الصحراء بفلسفته
في هذا الحوار، تتحدث الكاتبة جميلة طلباوي، عن روايتها الأخيرة «الخابية» التي صدرت عن منشورات المؤسسة الوطنية للنشر والإشهار/ANEP أواخر2014. كما تتحدث عن عوالم روايتها المحفوفة بالفضاء الصحراوي والتي تنهل من خصوصية مكانه ومن بعض أساطيره المتداولة في المجتمع الصحراوي، المؤثث بعمق الانتماء للموروث الثقافي الذي يتمتع/ويتمسك به أهل الجنوب.
يذكر أن جميلة طلباوي، كاتبة وإعلامية ، صدرت لها عام 2000 مجموعة شعرية عن منشورات الجاحظية بعنوان «شظايا»، وفي القصة، صدرت لها: «وردة الرمال» عام 2003، و»شاء القدر» عام 2006 عن الجاحظية أيضا. ورواية أولى بعنوان «أوجاع الذاكرة» عن اتحاد الكُتاب العرب بدمشق عام 2008، وتعتبر «الخابية» محور هذا الحوار، روايتها الثانية. 

حاورتها/ نوّارة لحـرش

«الخابية»، رواية جاءت كمرادف للذاكرة، أو كحالة/حياة موازية للذاكرة، والتي تنهل منها بعض فصولها بأريحية وحب وتمسك بالجذور وبالمكان وجغرافيته وطقوسه وميراثه التاريخي والإنساني على حد سواء، فما قولك؟

جميلة طلباوي: أعتقد أنّ تفكير رجل الصحراء في إنشاء «الخابية» هذا الجزء في القصر من البناء الصحراوي القديم بغرض أن يخبّئ فيها المؤونة يحمل دلالة عميقة وهي التمسك بالحياة، مثلما كان يسعى سعيا حثيثا للحصول على الماء، وأينما وجد الماء بدأ بناء القصر الذي يستقر فيه ويتحصن فيه من الغزاة بطريقة هندسية تدل على عبقريته في إيجاد منافذ للنور وزوايا باردة صيفا ودافئة شتاء، لكن كل هذا لم يكن كافيا لاستمرار حياته لو لم يفكر في «الخابية» التي تمده بالمؤونة خاصة أيام الغزوات والحصار فكانت كشريان من شرايين حياته في قلب صحراء قاسية بمناخها وجغرافيتها، مؤونة نفاذها يعني هلاك إنسان الصحراء.

حاولت تأثيث روايتي بالأساطير المتداولة في الفضاء الصحراوي


استثمرت فكرة «الخابية» وأنا أنظر إلى هذه الصحراء الكبرى والتي أعني بها هذا العالم الحديث المتوحش الذي يكاد يكون قاحلا من القيم الإنسانية أطلق لغول العولمة العنان ليفترس الأضعف والأقل مناعة، العاري من حصن يحميه، وارتكزت في بناء عوالم روايتي على فلسفة رجل الصحراء الملتصق بجذوره، المعتز بانتمائه، المنتج في حقله، الذي يأكل ممّا تزرع يداه، ويلبس ما نسجته أمه أو زوجته، هذا الرجل المحتمي بميراث أجداده من قيم نبيلة وأصيلة، ورحت أبحث فيه عن الرجل الخارق، الرجل السوبرمان الذي يمنع نفاذ المؤونة من «الخابية» من هذا الوطن الكبير، والمؤونة في «الخابية/ الرواية» هي الفرد الذي وجب علينا الاستثمار فيه إذا أردنا أن نقلع إلى الحضارة وإلى التقدم والخروج من نفق التخلف والتبعية. «الخابية» هي أيضا حالة موازية للذاكرة لننهل منها كل هذا الإرث من القيم التاريخي والإنساني، هي استنطاق لشواهد التاريخ وتصالح مع ماض زاخر بما أنجزه رجل الصحراء بفلسفته.

الرواية من جهة أخرى، تحفر حفرها الحثيث بحثا عن الذات والجذور، تريد رسم لوحة لمجتمع يعيش تناقضاته واختلافاته في الهوية، لكنه يصر على الالتصاق بهويته حتى وإن كانت محفوفة بتناقضات؟

جميلة طلباوي: أثثت روايتي «الخابية» بالمخزون القيمي لجزء من الصحراء الجزائرية وبما أبدع فيه رجل الصحراء فيما يتعلق بالأخص بالعمارة، حفرت في ذاكرة رجل الصحراء، استحضرت أساطيره، حكاياه الشعبية، بعض تفاصيل يومياته، ملامح لباسه والزربية التي يفترشها، والأكلة الشعبية التي يغري الآخر بتذوقها، حتى الأوركسترا الشايوي احتفاء لرجل الصحراء بالشاي مشروبه السحري في تلك الفيافي، نحت في «دفء» العلاقات الإنسانية وكيف أوجده رجل الصحراء وكيف أحكم بناء سور كان يحمي الإنسان من تقلبات الحياة ومن سوء المصير إن بقي عودا في معزل عن حزمة الحطب، حاولت كل ذلك لتؤدي اللغة وظيفتها في بناء عوالم رواية تريد أن تنهل من خصوصية المكان تلك القيم التي هي لبنة الصمود أمام رياح الانسلاخ والتمزق التي تهدد هويتنا وشخصيتنا، الصراع كان واضحا والتناقضات أيضا كانت واضحة في شخوص الرواية كما تطلب ذلك تنامي الحدث ليعكس أزمة هوية قائمة لدى الفرد في هذا الوطن كغيره من الأفراد في أوطان محكومة بالتبعية والتخلف.

رواية تحتفي بالصحراء/الجنوب، وفي نفس الوقت تتكئ على حب وتمجيد البحر، وهذا تجلى في: «أنا ابن الرمل، لرملنا أكثـر من طعم وشكل، رمل يحمله البحر، وآخر محكوم بالعطش»، كأن الهوية في حالة صدام ثنائية بين الجنوب (الصحراء) وبين الشمال، أو بين حياة حاصلة وبين حياة محلومة أو متطلعة لأفق أفضل؟

جميلة طلباوي: كثيرا ما أقف في لحظة طمأنينة أمام أموج الرمل في الصحراء، يبهرني هذا الامتداد، بل هذا البحر من الرمل الذي يمنحك فرصة أن تمشي فوق، بحر الماء لا ينحني لا يمنحك هكذا فرصة، إنّه شره لابتلاع الجسد البشري، لكنّ التجربة أكّدت لي أنّ التشابه قائم بينهما فالرمل قاهر أيضا، أنظري إلى قول جبران خليل جبران في رمل وزبد :»على هذه الشواطئ أتمشى أبدا بين الرمل والبحر، إنّ المدّ سيمحو آثار قدمي، وستذهب الريح بالزبد، أمّا البحر والشاطئ فيظلان إلى الأبد». هذه الثنائية الجميلة للبحر والرمل عند جبران خليل جبران تسحرني وتجعلني وأنا أتأمل الرمل أبحث عن مدّ رملي بين الرمل والرمل، أمشي أتطلع إلى أثري عليه في انتظار مدّ سيمحوه فأدرك أنّ المدّ ابن هذا الموج الرملي لا يأتي إلا مع رمال متحركة تغرق ما حولها، أو مع زوبعة رملية تدفع الرمل عاليا في الأجواء يصفع الوجوه، يجرح العيون، زوبعة قد تقتلع النخل من جذوره، فأدركت يقينا بأنّ هذا الوطن عصي على الانكسار فقط علينا الاستثمار في الفرد في الشمال أو في الجنوب، المهمّ أنّه رمل بلدي، رمل هو شاطئ لبحر في جوفه ثروة، ورمل في صحرائه بترول وثروة، رمل هذه «الخابية» التي علينا أن نتعهدها برعاية مؤونتها التي هي الفرد الذي سيحمي الرمل أيا كان موقعه: «أنا ابن الرمل، لرملنا أكثر من طعم وشكل، رمل يحمله البحر وآخر محكوم بالعطش» في تناغم وليس في صدامية، في تمجيد لهذه الثنائية الجميلة في وطن تزخر أرضه بالدرر.
في هذه الجملة أيضا، تتلاطم الأفكار العالقة بالهوية: «لا يهمّ إن كان الرمل الذي يحمله البحر مكاني أو ذاك المحكوم بالعطش، لا ذنب للرمل، ولا للبحر»، وهذا تكرر أكثـر من مرة في متن الرواية، هناك نزعة هوية عميقة مضطربة وفي ذات الوقت التصاق حميم بالمكان، والمناخ والتراث الصحراوي؟
جميلة طلباوي: الاضطراب في الهوية كان واضحا على بطل الرواية في بدايتها، يعكس هموم جيل كامل عانى من خيبات الأمل وانهيار أحلامه واصطدامها بواقع مرير لم يقدّم الفرص متكافئة ولم يقدم العناية الكافية للفرد ضمن مشروع مجتمع متكامل للنهوض بالأفراد وبالبلاد، وضع جعل عددا كثيرا من الأفراد يفكر في الهجرة، إستهوته الضفة الأخرى، استهواه رمل آخر لشاطئ ممتد على حضارة أخرى عرفت كيف تعي بأفرادها، البطل كان ممزقا في البداية بين المُهاجِرة الثرية وبين ابنة البلد، في لحظة إحباط من تعفن الوضع والفساد المستشري في الوطن اختار المُهاجِرة المتنصلة من كل ما له علاقة بالوطن، بحث فيها عن نجاح حَلُمَ به كإطار له إمكانياته التي تخول له العمل في أكبر الشركات هنالك في الضفة الأخرى، لكن في النهاية، لم يكن ذلك ماء يروي ظمأه الرملي بل كان سرابا يحسبه الظمآن ماء، فما زاده إلا عطشا لا ترويه سوى تربة الوطن الندية بإخلاص الحبيبة ووفائها، لكن أن يتعافى البطل من أزمة الهوية ليس كل شيء، ها هو بعد عودته للوطن يجد المرض مستشريا، والاغتراب عشش في أرواح الأفراد الذين راحوا يلهثون وراء سراب التحضّر وهم في قاع التخلف في غياب مشروع يعزّز الشعور بالانتماء لديهم ويحفزهم ليكونوا منتجين لا مستهلكين، أرادهم منتجين للفكرة لا مقلدين للآخر، مساءلة الذات والهوية كانت واردة بشكل كبير في «الخابية»، مثلما هي واردة في واقعنا.

هي أيضا رواية تصادم القيم والقفز على المبادئ من أجل تحقيق مصالح فردية أنانية ناتجة عن جشع مرضي على حساب مصالح مجتمع برمته، وهذا تجلى من خلال المشاريع اللا إنسانية التي كان يسعى إليها «عيسى» بشتى الطرق. وهذا ما يجعل القارئ للرواية يتساءل عن ما إذا حقا أصبحت البيئة الصحراوية مناخا خصبا لانهيار القيم، وهي التي لطالما عُرفت بأنها بيئة نقية ومتصالحة مع القيم والمبادئ والأخلاق؟

جميلة طلباوي: الرواية تطرح من خلال مساءلة شواهد المكان مساءلة للذات وللهوية أيضا، صراع البطل مع ذاته ثم صراعه مع مجتمعه ومع الآخر ممثلا في صديقته الأمريكية التي تعرّف عليها عن طريق الإنترنيت، كلها مؤشرات على أنّ غول العولمة كاسح في هذه القرية العالمية الصغيرة، حتى الصحراء ليست بمنأى عن هذا الصراع القائم، فالعولمة في مضمونها تهدف إلى نشر ثقافة كونية خاصة وأنّها قد انفردت بامتلاك الوسائل الأساسية لذلك، فهي تمتلك المعلومات ووسائل الاتصال، نحن فعليا نواجه أزمة انهيار القيم، أو انقلاب سُلمها على الأقل، قيمنا الإنسانية مهددة، هنالك تمزق يعانيه الفرد بين إرث الأجداد من القيم وكل ما يحدث من حوله من تغيّرات. في ظل كل هذا نحن في بحث عن الاعتراف بخصوصيتنا وثقافتنا في هذه القرية العالمية خشية الذوبان الكلي في الآخر.

رواية تنهل من الفضاء الصحراوي وتراثه، ومن فنه المعماري المتمثل في القصور، ومن جهة تحرص على تأثيث الفضاء الداخلي للنص بهذا الفضاء الممتد بكل مكوناته. كابنة لهذا الفضاء وككاتبة وقارئة، هل ترين أن «الصحراء» لم تنل حظها كما يجب في الفضاء الروائي الجزائري، أم أن هناك بعض النصوص التي أنصفتها؟

جميلة طلباوي: من عجائب الرمل في الصحراء تلك «الزهرة» التي تنحتها الطبيعة منها فتسمى «زهرة الرمال»، لا تذبل أبدا مهما اقتلعت من مكانها بل تزداد توهجا وجمالا، هذه الزهرة الرملية تبهرني وتحيلني في كل مرّة على سرّ من أسرار الصحراء التي لا يمكن الإلمام بها بشكل بسيط، فهي متمنّعة لا تستسلم بسهولة، الصحراء مكان له أسراره، له تاريخه كما له أساطيره، كثيرة هي الأقلام التي كتبت حول الصحراء الجزائرية بمتعة واقتدار وباللغتين، من مدينة بشار وبالضبط من بلدة القنادسة وبلغة موليير كتب الروائي محمد السالمي وجه الاستعمار الفرنسي الأسود في مناجم الفحم بالقنادسة، أسمعنا أنين القندوسيين وهم يموتون تحت الأنقاض في المناجم كي تحصل فرنسا على الفحم الحجري، زجت بأبناء القنادسة في غياهب الفحم لتنير باريس وكل فرنسا بالكهرباء، عن تماسخت وعن تلك الجغرافيا الرهيبة لمدينة أدرار بموروثها الثقافي كتب فأبدع الروائي الحبيب السائح، وعن أدرار أيضا كتب الجيل الجديد من الكُتاب أذكر منهم عبد القادر ضيف الله، محمد الصديق الزيواني، عبد الله كروم. جدير بالذكر أيضا في هذا المقام الترجمة الماتعة والمهمة لرواية «رقان حبيبتي» لفكتور سيلفا التي قام بها الروائي والمترجم الأستاذ الدكتور سعيد بوطاجين، وغيرها من الأعمال الأدبية التي تحاول إنصاف هذه البقعة التي قد تظلمها الجغرافيا.

الرواية تتكئ أيضا على الأسطورة، وهذا من خلال استحضارك لأسطورة «الكراكرة»، ماذا تقولين عن هذا التوظيف؟ وهل كان ضروريا؟

جميلة طلباوي: حاولت تأثيث روايتي بالأسطورة المتداولة في الفضاء الصحراوي، أو أنّ من خصوصيات الفضاء الصحراوي هذا الكم الهائل من الأساطير الذي هو جزء من ألغاز الصحراء الرهيبة. شواهد التاريخ في كل من دائرتي «العبادلة» و»قصور الشمال» بولاية بشار لا زالت قائمة، ولا زال أبناء دائرة بوكايس بقصور الشمال لولاية بشار يقفون عند «الكراكر» هذه الأكوام من الحجارة ولا زالوا يتحدثون عن الرجل القديم الذي سكن المنطقة وكان عندما تنْفذ مؤونته يصنع خيمة من حجر ينتحر تحت ركام أحجارها المنهار عليه هو وعائلته، ما لفت انتباهي في القصة سواء كانت حادثة تاريخية أو مجرد أسطورة هو ذلك المعنى العميق الذي تنطوي عليه بضرورة حفظ الكرامة والاكتفاء الذاتي، بمعنى إذا عجزنا عن إطعام أنفسنا فباطن الأرض أولى بنا، أو كما قال جبران خليل جبران: «ويل لأمة تلبس مما لا تنسج وتأكل مما لا تزرع».

رغم الخطاب الإعلامي السائد بأنّ عصرنا هو عصر الرواية بامتياز إلا أنّني أعتقد بأنّ الشعر لا زال متربعا على عرشه

رغم السوداوية التي طبعت شخصيات وأبطال الرواية، إلا أن في الرواية الكثير من الشعر، كأنك ما أحببت التخلص من عباءة الشاعرة أثناء كتابة الرواية، أو أن الشعر قادك وأنتِ استسلمت مُرحبة؟

جميلة طلباوي: رغم الخطاب الإعلامي السائد بأنّ عصرنا هذا هو عصر الرواية بامتياز، إلا أنّني أعتقد بأنّ الشعر لا زال متربعا على عرشه، بل أنّه اجتاح باقي الأجناس الأدبية فارتقى بلغتها، خاصة وأنّنا نعيش عصر التقاطع بين الأجناس الأدبية، والرواية التي هي اختصار لعالم كامل أصبحت لغتها في عصرنا الحالي لغة لها بهاؤها الخاص الذي يضفي على السرد متعة.

من الشِعر إلى القصة إلى الرواية، هل كانت رحلة بحث عن هوية كتابية معينة، وهل يمكن القول أن الرواية هي الآن اختيارك/محطتك الأنسب والأحب؟


جميلة طلباوي: السرد قارتي، داخلي كائن سردي تستهويه الحكاية، مهووس بتشكيل الشخوص وتركيب الأحداث وبناء العوالم السردية، أمّا الشعر فهو روضي الذي أحلّق فيه كلما هبّت نسائم شوق للنحت عميقا في معنى الحكاية التي لا يمكنني سردها.

الرجوع إلى الأعلى