تنام ولاية قالمة، على ثروة هائلة من معدن الطين المنتشر بعدة بلديات،  و منذ فجر التاريخ، ظل هذا المعدن محل اهتمام الحضارات العريقة التي تعاقبت على المنطقة و جعلت منه وسيلة للحياة و مصدرا للزينة و السعادة و الجمال.
و تعد الحضارة الرومانية التي تركت آثارا كبيرا بالمنطقة الأكثر اهتماما بمعدن الطين و أكثر استعمالا له في مجال العمارة و الزينة و مازال الباحثون يعتمدون إلى اليوم على قطع الفخار المصنوع من الطين لمعرفة الحقب الزمنية البعيدة و ميزات و خصائص الحضارات التي عمرت المنطقة لعقود طويلة من الزمن و لن يجدوا بديلا للفخار، المعدن الأكثر مقاومة لعوامل الطبيعة و الزمن، حتى أن أمما كثيرة جعلت منه كنزا و زينة لحياة ما بعد الموت، كما يقول المؤرخون الباحثون في تاريخ المقابر الميغاليتية القديمة.
تاريخ عريق و ثروة منجمية تنتظر الاستغلال
و قد تأثر سكان قالمة المتعاقبون على المنطقة، بصناعة الفخار التي ظهرت بالمنطقة منذ حقب زمنية بعيدة و ما زالوا إلى اليوم يحنون إلى الطين، أصل الإنسان و يعتمدون عليه في حياتهم اليومية و خاصة بالمناطق الريفية الواقعة بالأقاليم الشرقية و الغربية و الشمالية، أين يتواجد معدن الطين الذي يصنع منه الفخار متعدد الأشكال و الألوان.  

و حسب مديرية المناجم بقالمة، فإن الطين يعد من أهم المعادن ذات القيمة الاقتصادية الكبيرة بالولاية، لكن استغلاله ظل محتشما و مقتصرا على اليد التقليدية التي رعته و حافظت عليه و جعلت منه مصدرا للحياة و موردا اقتصاديا داعما للأسر الفقيرة بالمناطق الجبلية.
و مع مرور الزمن، بدأت صناعة الفخار الأحمر تتطور و تتوسع بالمنطقة و تنتقل من النمط التقليدي إلى النمط العصري المعتمد على التكنولوجيا و العمالة المؤهلة و الإنتاج الكثيف الذي يغطي الاحتياجات المحلية و يصل الفائض منه إلى ولايات أخرى لا يوجد بها طين الفخار و المواد الحمراء.
و سنحاول من خلال هذا الروبورتاج، تسليط الضوء على صناعة الفخار بقالمة بين الواقع و التحديات، استمعنا إلى رأي الحرفيين و منظمتهم التي تحاول الدفاع عنهم و إخراجهم إلى الوجود و كبار المصنعين الذين سخروا التكنولوجيا للانتقال بمعدن الطين الثمين إلى واقع جديد يساير الحداثة و يقوى على المنافسة و الصمود، أمام التحولات الاقتصادية و الاجتماعية المتسارعة التي تعرفها المنطقة في السنوات الأخيرة، حيث لم يعد الفخار مجرد إناء للشرب و الأكل و الزينة، كما كان الحال مع السكان و الحرفيين القدامى، بل صار هذا المعدن الثمين مصدرا للإبداع و صناعة مواد البناء و الزينة عالية الجودة، في تطور متسارع قد يحول قالمة إلى قطب وطني للفخار، عندما تنجز مصانع المستقبل بمنطقة كدية حريشة في بلدية بلخير.
محاولات للنهوض بصناعة على أنقاض عملاق الخزف  
بعد سنوات طويلة من الإهمال و النسيان الذي طال مناجم الطين بقالمة، عاد إليها الاهتمام أخيرا و أصبحت اليوم مصدر استقطاب كبير للمستثمرين و الحرفيين الذين قرروا العودة إلى واحدة من أقدم الصناعات المحلية بالمنطقة و بدأت المصانع و الوحدات الحرفية تنتشر عبر الولاية، معلنة عن بداية مرحلة جديدة لمناجم الطين المنسية.  
النصر زارت مصنع الفخار و قطع قرميد الزينة بالمنطقة الصناعية الإخوة رحابي و استمعت إلى صوت الحرفيين الذين يكافحون بعيدا عن الأضواء، لبعث صناعة الطين و بناء قطب وطني يوقف استيراد القطع الحمراء من الخارج و يشغل العمالة العاطلة و ينتج الثروة لدعم الاقتصاد المحلي و الوطني.
و تعد الوحدة الحرفية «هوارة»، المتخصصة في صناعة قطع الزينة الموجهة للبناء، واحدة من المشاريع الاستثمارية الثلاثة التي دخلت مرحلة النشاط و اتخذت من الطين مادتها الأولية و توجد وحدتان بالمنطقة الصناعية الإخوة رحابي بقالمة، هما وحدة هوارة و وحدة ماونة لصناعة القرميد و قطع الآجر الصغير و قرميد الزينة و وحدة بوشقوف المتخصصة في إنتاج أواني الفخار المنزلية.
يقول عبد الباقي غريب صاحب الوحدة الحرفية هوارة لصناعة قطع الزينة، متحدثا للنصر، بأن مناجم الطين موجودة بكثرة عبر مختلف المناطق، باستثناء سهل الجنوب الكبير، مؤكدا على أن صناعة الفخار التي ظهرت في السنوات الأخيرة بالولاية، قد قامت على أنقاض مصنع الخزف العملاق، الذي اختفى من خارطة الصناعة الوطنية و أصبح من الماضي بعد سنوات طويلة من الصمود.
«أشعر بالحزن عندما أمر بجوار المصنع المنهار كل يوم، حينما أكون ذاهبا إلى موقع العمل، لم أكن أتوقع يوما أن تنهار القلعة الكبيرة و تتحول إلى هيكل مهجور، من هنا بدأت صناعة الطين بقالمة و الجزائر كلها قبل 40 عاما، أنا و بعض الحرفيين و المستثمرين، نحاول اليوم إعادة بناء هذه الصناعة بإمكانات محدودة، بالتأكيد لن نقدر على تعويض المصنع المنهار، المتسببون في الإفلاس و الغلق، ربما يكونون قد ارتبكوا جريمة في حق الاقتصاد الوطني».
هذا ما تبقى بعد البيع بالمزاد العلني !
بدا عبد الرزاق متأثرا للغاية، لما آل إليه حال مركب الخزف بقالمة و هو يشير إلى قطع عديدة اشتراها من هناك عندما عرضوا عتاد عملاق الخزف بالجزائر في المزاد.
« انظروا إلى هذه القطع الميكانيكية العملاقة و هذه الأفران ذات الحرارة العالية، كلها كانت بمركب الخزف، تنتج آلاف القطع و تخرجها إلى السوق الوطنية، لقد باعوا كل شيء، هذه جريمة اقتصادية، لن يستطيعوا إحياء الهيكل الذي فارق الحياة، لكننا نحاول الإبقاء على صناعة الطين بقالمة و مواجهة شجع المستوردين الذين يغرقون السوق الوطنية بالخزف و الفخار و حتى قطع الآجر الأحمر المستعمل بكثرة في قطاع البناء».   
داخل الوحدة الحرفية هوارة، كان شباب و شابات كالنحل بين الآلات و الأفران و أكوام المعدن الأحمر التي تملأ مساحة كبيرة من المصنع الصغير، لقد تدربوا على تشغيل الأفران و آلات تحويل الطين إلى سائل ثم عجين طري يوضع في قوالب و يأخذ أشكالا مختلفة من قطع الزينة.  
يقول وحيد براهمية 29 سنة، «بدأت العمل بهذا المصنع منذ 3 أشهر فقط، أنا عامل مبتدئ، لكنني تعلمت كل شيء، بعد أن تلقيت تدريبا على تشغيل الآلات و إعداد عجينة الطين و وضعها في القوالب حتى تأخذ الأشكال التي نريدها، ثم ننقلها في عربات السكة إلى الفرن حتى تشتد صلابة، العمل هنا ممتع رغم ضجيج الآلات، التعامل مع الطين ممتع جدا».  
يأكلون الطين لاستعادة النشاط
و يعد وحيد البالغ من العمر 30 سنة، من أنشط عمال الوحدة، يتحكم في كل الآلات و له قدرة على تشكيل قطع الفخار و المحافظة عليها حتى تتخذ الشكل التجاري النهائي و عندما يشعر بالتعب، يلتهم قطعة طين طرية بشراهة، حتى يستعيد قوته و يشعر بالنشوة و القدرة على مواصلة العمل إلى نهاية الدوام.  
 « أنا من عائلة تأكل الطين و تحبه و ربما لهذا السبب اخترت العمل هنا، لست أدري ربما لهذا السبب، هناك فرص عمل كثيرة للعمال البسطاء مثلي بورشات البناء، لكنني اخترت العمل بوحدة تصنيع الطين، أشعر بالسعادة عندما ألتهم قطعة طين و أداعب أخرى بلطف كأنني طفل صغير يشكل لعبا ممتعة بالعجين».  
كانت الفتيات النشطات هناك أمام ماكينات تشكيل القطع و عربات الفرن و أخريات تضع الألوان البراقة على آجر الزينة و هن في غاية السعادة و الخجل، ربما هن أكثر شغفا بالطين التي خلق منها الإنسان و صار بشرا سويا.  
و تحتاج صناعة الفخار إلى مواد أولية تستورد من الخارج و هي مكلفة للغاية و يأمل عبد الباقي غريب و غيره من الحرفيين، في دعم من الدولة للتخفيف من وطأة الأسعار المرتفعة، مؤكدين على أن الكثير من المواد الأولية المستوردة لتصنيع الفخار و قرميد الزينة، يمكن تصنيعها هنا في الجزائر عندما تتوفر الإرادة الصادقة.
 جمعيات الحرفيين..صمود و بحث عن الأسواق و معدات التصنيع
بالرغم من اكتساح التكنولوجيا المتطورة لقطاع صناعة الفخار و قطع الزينة بقالمة، إلا أن الحرف التقليدية القديمة مازالت صامدة و تتوجه هي الأخرى إلى شيء من التطور، حتى تبقى على قيد الحياة و لا تضطر للخروج من الساحة تحت تأثير التكنولوجيا الحديثة، التي تكاد تقضي على اليد التقليدية التي رعت صناعة الطين منذ عقود طويلة.   
  و يعمل رئيس جمعيات الحرفيين بقالمة، بوجمعة قرنين و معه غرفة الحرفيين و مديرية الصناعة التقليدية، على مساعدة صغار الحرفيين المنتجين للفخار، من خلال التكوين و إعداد بطاقة الحرفي التي تضمن الانخراط بصناديق الضمان و الحماية الاجتماعية و الحصول على المحلات المهنية، لكن العائق الكبير الذي يعاني منه هؤلاء الحرفيين، هو تسويق المنتوج و الحصول على الموارد المالية لتطوير النشاط و الاستمرار فيه.  
و يأمل، بوجمعة، في أن تستجيب الحكومة لمطلب الحرفيين و ترفع التجميد عن الدعم الخاص بمعدات تصنيع الفخار المستوردة من الخارج. « مازال الحرفيون ينتظرون رفع التجميد عن الدعم الموجه لشراء المعدات المكلفة، نأمل أن تستجيب الحكومة لنا و تدرج مطلبنا في الميزانية الجديدة للقطاع برسم سنة 2020، كل الحرفيين ينتظرون القرار، هم في تزايد مستمر و ربما سيبلغ عددهم 100 حرفي في غضون سنوات قليلة، لكن مشكلة التسويق ربما ستكون عائقا آخر، أملنا في تهيئة فضاءات مفتوحة لأصحاب المهنة بالمدن الكبرى، حتى يتمكنوا من العرض المستمر لمنتجاتهم و استقطاب الزبائن الباحثين عن قطع الفخار الجميلة و المفيدة للصحة أيضا، أنا استعمل أواني الفخار بمنزلي و مازلت احتفظ ببعض القطع التي صنعتها أمي رحمها الله، الفخار صناعة لا تزول، مادام باطن الأرض يخرج مزيدا من الخيرات.»  
فريد.غ     

الرجوع إلى الأعلى