يراهن أخصائيون في علم الاجتماع على دور الطبقة المتوسطة في المجتمع الجزائري في ترسيخ مبدأ التباعد البدني و الاجتماعي في يوميات المواطن البسيط، للتصدي للجائحة التي أخذت منحنى تصاعديا في  عدد الإصابات، و الذهاب إلى مرحلة استنفار اجتماعي بإشراك كل القطاعات، بما فيها مؤسسات التنشئة الاجتماعية التي فشلت في تحضير فرد قابل للتأقلم  و التكيف مع كل المستجدات، و التخلص من عادات القبيلة التي قد تنعكس سلبا عليه في مثل هذه الظروف، من بينها مسألة التقارب الاجتماعي، كما أكد أساتذة في علم الاجتماع بجامعتي قسنطينة و سطيف في ندوة النصر . الأساتذة شددوا أن المرحلة الراهنة تفرض علينا تبني العلاج السوسيولوجي الذي يفرض نفسه، لأن العلاج الطبي عجز في  احتواء الوضع، بسبب تفشي عادات اجتماعية هدامة داخل المجتمع.
هيبة عزيون

* البروفيسور محمد بوقشور من جامعة سطيف 2
مؤسسات التنشئة فشلت في غرس الحس المدني والثقافة الصحية
يرى البروفيسور محمد بوقشور، أستاذ علم الاجتماع  بجامعة سطيف 2،  أن هناك عدة معوقات أدت إلى فشل المجتمع الجزائري عموما في تطبيق و احترام أبسط شروط الوقاية من فيروس كورونا، و من بينها عامل التباعد الاجتماعي الذي يعد حلقة هامة جدا في الحد من انتشار الوباء الذي أخذ منحنى تصاعديا بسبب استهتار شرائح واسعة في المجتمع و عدم تقيدها بشروط النظافة و الأمان.
و قسم البروفيسور بوقشور هذه المعوقات إلى أربعة و هي:
. المعوق الثقافي: و يرى المتحدث أن المجتمع الجزائري تقليدي، و تحكمه ثقافة تقليدية قائمة على فكرة الجماعة،  كما أن العادات و التقاليد السائدة تشجع و تلزم في أحيان كثيرة بالانصياع  لمبدأ التقارب، بل تمارس إكراها اجتماعيا على الفرد  للالتزام بهذه الحياة، سواء داخل الريف أو في المدينة و التجمعات الكبرى التي تحكمها لحد الآن ثقافة القبيلة. و بالتالي فإن فردا مشبعا بهذه الثقافة، لا يمكنه تبني أفكار مخالفة و عادات جديدة في وقت وجيز، رغم خطورة الوضع.
و يضيف المتحدث أن الفرد الجزائري هو الآخر يساير هذه العادات و التقاليد الجماعية، رغم إدراكه للخطر و هو ما تترجمه ظاهرة الأعراس و الجنائز  خلال هذه الأيام التي يرفض الكثيرون التغيب عنها، أو الامتناع عن الحضور عند تلقي الدعوة، خوفا من القطيعة الاجتماعية مستقبلا، و هو ما يعرف سوسيولوجيا بالقهر الاجتماعي.
. المعوق السياسي: و يتمثل في وجود فكر سائد بين أطياف المجتمع، بأن فكرة الوباء مفبركة أو غير موجودة، رغم الرسائل الإعلامية اليومية، و ما يشاهده من أخبار مخيفة حول العالم و في الجزائر، و يفسر ذلك بأن الأحزاب السياسية أو الطبقة السياسة في الجزائر، فشلت في الدفع بالمواطن إلى مستوى حضاري و ثقافة مواطنة و حس بالمسؤولية.
. إخفاق المجتمع المدني خلال هذه المرحلة، حيث يرى المتحدث أن المجتمع المدني في الجزائر افتراضي بنسبة كبيرة، و ما هو موجود على أرض الواقع يكاد يكون منعدما،  رغم كثرة التنظيمات و الجمعيات، التي تعثرت حقيقة في لعب الدور المنوط بها خلال هذه الفترة.
. فشل مؤسسات التنشئة الاجتماعية من مدرسة و مسجد، خصوصا وسائل الإعلام، في تنشئة مواطن على الثقافة الصحية و الحس المدني، حيث ظهر الفرد الجزائري خلال الجائحة، بأنه غير مشبع تماما بهذه الثقافة الصحية، و لا يعي خطورة المغامرة ما أوصله إلى هذا الحد من الاستهتار.
و يرى البروفيسور محمد بوقشور، أن المرحلة الراهنة جد حرجة و تستدعي الذهاب لما يعرف بسوسيولوجيا الاستنفار المجتمعي، عبر كل المؤسسات و الفاعلين، لأن الخطر كبير، و نحن مطالبون أو بالأحرى مجبرون على الانتقال إلى هذه المرحلة،  ليكون الشغل الشاغل و الهاجس الوحيد هو خطر كورونا، كما على الدولة الجزائرية الحاضنة التخلي عن سياسة المرونة و الذهاب إلى الردع و الصرامة لإعطاء نتيجة فعالة، و هنا يضرب محدثنا مثلا بحزام الأمان الذي أصبح المواطن الجزائري يلتزم بوضعه، خوفا من الغرامة.

* بوبكر جيملي أستاذ علم اجتماع بجامعة قسنطينة
المراهنة على الطبقة المتوسطة لتبسيط و نشر فكرة التباعد
من جهته يؤكد  أستاذ علم اجتماع بوبكر جيملي من جامعة قسنطينة 2 ، أن الوصفة الطبية و ما تحتويه من أدوية لمكافحة الوباء، لم تعد مجدية لوحدها،  حيث تستدعي المرحلة الراهنة الذهاب بقوة إلى النصائح الاجتماعية التي يقدمها الأخصائيون  في علم الاجتماع و علم النفس، أو ما يمكن أن نطلق عليه مرحلة المعالجة السوسيولوجية، بعدما عجز العلم عن إيجاد لقاح للمرض الفتاك.
و يكمن الحل في التقيد بآليات الوقاية، على رأسها التباعد الجسدي أو الاجتماعي التي عجز المواطن الجزائري عن تبنيها كطريقة عيش لعدة اعتبارات، لهذا على السوسيولوجيين تبسيط الفكرة للفرد، ليستطيع تقبلها و العمل بها، خاصة أنها أنجع سبيل، و ذكر المتحدث مثالا عن ذلك، فعند اشتعال نار في غابة كبيرة، فإن ألسنة اللهب تنتقل بسرعة بين الأشجار المتقاربة، و لوقفها يجب خلق مناطق عازلة، أو ما يعرف بالفواصل، و هو ما يمكن تطبيقه على المجتمع الجزائري حاليا في ظل الجائحة.
 للحد من انتشار الفيروس الخطير، يجب إيجاد هذه الفواصل عبر التباعد البدني و الاجتماعي، كما أكد، مضيفا أن الفكرة ليست جديدة، فلطالما لجأ إليها الإنسان عبر العصور، لضمان العيش و الاستمرار، خاصة في الحروب و حتى عند ظهور الإسلام، على سبيل المثال غزوة الخندق اتخذ خلالها النبي عليه الصلاة و السلام مبدأ التباعد، كحل حربي عندما كان العدو أكبر عددا، و بالتالي فإن مواجهة شراسة الفيروس، يكون من خلال التباعد.
كما يراهن المتحدث على إيصال هذه الآلية لأذهان المواطنين، و إقناعهم بها تلقائيا لن ينجح، دون إقحام الفئة المتوسطة من المجتمع من مثقفين و موظفين، باعتبارهم الشريحة الأكثر انضباطا داخل المجتمع، و هي عادة ملتزمة بدفع الضرائب و غيرها من الالتزامات، حيث يمكن لهذه الفئة أن تقود القاطرة الأمامية، و تكون مثلا يقتدى به بالنسبة لعامة الناس، من خلال تجسيد عملي  انطلاقا من الأسرة .
كما يجب أن تكون حملة التوعية التي تتبناها هذه الفئة، قوية جدا  كموجة ثانية من التوعية،  لكن بآليات جديدة أكثر فعالية لمواجهة الموجة الثانية من الوباء الذي لم تخصص له موجة ثانية من الإجراءات و التوعية،  فكانت نتيجتها الفتك يوميا بالمئات من المواطنين.

* عبد الله دراع أستاذ بجامعة قسنطينة 3
الفرد الجزائري فشل في التضحية بمبدأ التقارب الاجتماعي رغم خطورته
و يقول عبد الله دراع، أستاذ علم الاجتماع بكلية الإعلام و الاتصال بجامعة قسنطينة 3 ، صالح بوبنيدر، أن عددا كبيرا من أفراد المجتمع، لا يزال رافضا لفكرة التباعد الاجتماعي، رغم التحذيرات المتكررة من قبل الخبراء و المختصين، والدعوات المستميتة من قبل الأطباء و المسؤولين، ويبقون مصرين على تحدي مختلف الدعوات والتحذيرات والتنبيهات بخصوص هذا السلوك الوقائي الهام، و يمكن حصر أهم الأسباب الاجتماعية التي تجعل عددا كبيرا من الجزائريين يرفضون الانصياع لمبدأ التباعد في ما يلي:
. تجذر الموروث الثقافي الجزائري المبني أساسا على التقارب الاجتماعي و التضامن و التكافل في ذهنية و نفسية  الكثير من الجزائريين، إلى درجة عجز قطاع واسع من أفراد المجتمع عن التحرر من هذا الموروث، من خلال استبدال التقارب و لو مؤقتا بالتباعد، نظرا لفوائده على الصحة الخاصة و العامة، و ما يمثله من إجراء فعال في مواجهة الفيروس المستجد، حيث ظل الكثير من المواطنين أسرى لهذا الموروث، حتى و لو كان فيه هلاكهم.
. عدم قيام مؤسسات التربية والتنشئة الاجتماعية، خصوصا  الأسرة و المدرسة و المسجد، و حتى وسائل الإعلام، بدورها كاملا في تأهيل الفرد نفسيا و اجتماعيا، للتكيف مع الظروف الطارئة و الأزمات المستجدة، فلم يتمكن المواطن من التأقلم والتكيف مع ما يتطلبه الوباء من تضحية بعدد من العادات والتقاليد الموروثة و المتجذرة، و من ضمنها التقارب الاجتماعي، و رفض الكثيرون  الالتزام بالتباعد الاجتماعي، إذ لم يتم تحضيرهم  لمثل هذا السلوك المستجد أسريا وتربويا ودينيا وإعلاميا، وهذا في رأيي تقصير تتحمل مسؤوليته مؤسسات التربية و التنشئة الاجتماعية ، المدعوة مستقبلا لتعديل برامجها وخططها ومشاريعها التربوية، لتأخذ في الحسبان عند تربية المواطن وإعداده، أوقات الأزمات، ليكون متكيفا معها، متأقلما مع متطلباتها وضروراتها.
. غياب الإحساس بالخطر، و الشعور بالخوف، عند فئات واسعة من الجزائريين، خاصة الشباب، لذلك ترى لديهم هذه السلوكات الطائشة، كالتهور، وتحدي الظروف الصعبة والأزمات، نلمس ذلك في العدد الرهيب من ضحايا حوادث الطرق مثلا، رغم الحملات التوعوية والتحسيسية، ورغم المناظر والمشاهد المرعبة لتلك الحوادث، ورغم العدد الكبير من الموتى والجرحى، ثم جاءت جائحة كورونا لتثبت هذه الحقيقة السيكولوجية والاجتماعية الغريبة،  مواطنون يتحدّون المرض والوباء رغم انتشاره،  ويصرون على الاحتفاظ بنفس منظومتهم السلوكية، من خلال الإمعان في المصافحة و المعانقة و غيرها، رغم الأرقام المفزعة للضحايا، والانتشار الرهيب للوباء، و العدّ اليومي للموتى و الضحايا.
. تكريس مبدأ الاستقالة الواضحة للأسرة في أداء دورها تجاه الأبناء، من حيث الرقابة والمتابعة والتوعية و حتى الردع والعقاب، و هو ما يعكس هذا العدد  الكبير من الأطفال والمراهقين، وحتى البنات والأمهات، الذين يغزون الشوارع و الطرقات، دون التقيد بأدنى إجراءات الوقاية والسلامة من وباء كورونا القاتل، بما فيها التباعد الاجتماعي، بل فشلت الكثير من الأسر، حتى في إبقاء أبنائها في المنازل خلال فترة الحجر المنزلي، وهذه مسؤولية عظيمة تتحملها الأسر، خاصة الوالدين.

الرجوع إلى الأعلى