يشدك و أنت تتجول داخل حي السويقة بقسنطينة، خليط روائح مختلفة،  لحوم و مكسرات و توابل عطرة ، لا يمكن أن تنتشي بقوة عبقها،  إلا في سوق شعبية  لها روح المكان الذي يعتبر مملكة للتوابل ، و يقصدها الناس من كل الأحياء و البلديات، فالبهارات التي لم تكن تستهوي القسنطينيين كثيرا، مقارنة بسكان الغرب و الجنوب الجزائري، أصبحت مكونا رئيسيا في موائدهم الرمضانية، خصوصا بعدما روجت لها قنوات الطبخ على التلفزيون و يوتيوب.
هدى طابي
قنوات الطبخ و صفحات فايسبوك نوعت الاذواق
انفتاح أبناء المدينة على مطابخ الغير، بفضل وسائط التواصل الاجتماعي و التلفزيون، أنعش هذه التجارة و أضفى على أسواق قسنطينة مزيجا ساحرا من الألوان و الروائح، ففي السويقة مثلا، أين ينتشر تجار هذه الأصناف العطرية  نجد عددا من المحلات التي تعتبر جزءا من ديكور المكان،  تتزين الأرصفة المحاذية لمداخلها، بصناديق متدرجة الألوان،  تقدم للزبائن بشكل مغر كلوحات فنية تتراقص ألوانها،  و تسحرك الروائح و تجبرك على التوقف أمام المحل لتأمل المشهد،  فبين احمرار الفلفل و اصفرار الكركم و اخضرار الزعيترة،  تتراقص الألوان لتمنحك متعة بصرية تحيلك للتفكير في واحد من مهرجانات الألوان التي تشتهر بها مدن الشرق، كالهند، فهذه المكونات رغم بساطتها تملك تاريخا هاما وقد كانت من أبرز اكتشافات الأوروبيين في القرن الثاني عشر، حتى أنهم قايضوها بالذهب، و كتبوا حولها مؤلفات، على غرار « طريق البهارات والتوابل» للمؤرخ البريطاني جون كياي المختص في تاريخ الحضارات القديمة.
و تذكر الأسطورة أيضا أن ملكة سبأ «بلقيس» عندما زارت النبي سليمان في القدس، جلبت معها كهدية 120رطلاً من الذهب، و البهارات، والجواهر. و كانت البهارات كذلك مقصد الفينيقيين في رحلاتهم الاستكشافية نحو الهند، و يقال بأنهم كانوا يشترونها، ثم يبيعونها للمصريين القدماء الذين استعملوها في التحنيط.  و كغيرهم من الناس وقع القسنطينون في عشق التوابل، رغم استخدامهم المحدود لها، كما أخبرتنا الشيف نصيرة فصيح، إحدى سيدات المطبخ المحلي،  موضحة بأن موائد أهل المدينة صحية و لا تعتمد إلا على أنواع محددة من البهارات هي الفلفل الأسود و الفلفل الأبيض و الكمون، و رأس الحانوت، بدرجة أقل « «لافاوي»، إضافة الى الكروية و القرفة، وهي بهارات تحضرها السيدات عادة بطرق تقليدية في المنازل، وحسب محدثتنا،  فإن  الزعفران كذلك يعتبر  من أبرز التوابل التي كانت تتميز بها أطباق المدينة، قبل أن تلتهب أسعاره لتبلغ 40   ألف دج تقريبا للكيلوغرام الواحد،  ما يجعل استخدامه نادرا.  سيدات أخريات  قابلناهن خلال جولة استطلاعية بأسواق قسنطينة، فقلن لنا بأنهن كسرن القاعدة وخرجن عن المألوف، إذ أصبحن يعتمدن بشكل كبير على التوابل في تحضير أطباقهن، بما في ذلك التوابل القوية و الخلطات المستوردة، على غرار « لي زبيس دو بروفانس» و الزنجبيل التونسي و توابل الحريرة و الملوخية الشهيرة في الغرب،  و الزعيترة و الكاري و القصبر و  الكروية و الفلفل الأحمر «الحمار» و «الكبابة» و بودرة الثوم و غير ذلك، و ذلك لأن الوصفات الجديدة التي يجربنها تتطلب ذلك، وهي في الغالب وصفات يتعلمنها من قنوات الطبخ أو صفحات فايسبوك، وقنوات يوتيوب التي أعادت تعريف مفهوم التوابل بالنسبة للكثيرات من بينهن، وساعدتهن على اكتشاف أنواع جديدة، منها ما وصفنها بالسحرية، على غرار الزنجبيل.
محلات عمرها قرن تهزم الدعاية التسويقية
جولتنا عبر عدد من الأسواق و نقاط البيع بقسنطينة، على غرار سوقي الإخوة بطو و بومزو،  بينت لنا بأن طريقة العرض تعد جزءا من  سحر التوابل، فكلما أبدع التاجر في تقديم بضاعته  و أحسن مزج الألوان و تقريب الروائح، شد إليه الزبون أكثر. علما أن النساء يشكلن النسبة الأكبر من عشاق البهارات، مع ذلك يبقى للسويقة ميزة خاصة، لا يمكن لأي دعاية تسويقية أن تتفوق عليها، حتى الإشهارات و الاعلانات الخاصة بالبهارات المعلبة و الخلطات الجاهزة التي تباع في أكياس زاهية الألوان، جميلة التغليف، و ذلك لأن رمضان يرتبط في مخيال الكثير من أبناء المدينة بالتسوق في محلات هذا الفضاء التجاري و السكني العتيق، وهو تحديدا ما حدثنا عنه زبائن قابلناهم بمحل الحاج حسين شيريفي، وهو دكان يزيد عمره عن 120 سنة، تعاقبت عليه ثمانية أجيال من أبناء العائلة الذين ظلوا أوفياء للحرفة، كما أخبرنا صاحبه.
و أشار المتحدث إلى أن الطلب على التوابل يزيد كثيرا قبل و خلال شهر الصيام، و سجل تنوعا ملحوظا في الأذواق و انفتاحا أكبر على البهارات المستوردة من إسبانيا و المغرب، علما أن تونس تعد الممول الرئيسي لسوق التوابل في مدن الشرق عموما، كما أن الجنوب الجزائري بات مساهما قويا في هذا المجال .  محدثنا قال، بأن تقاليد محله تعتمد على طحن التوابل يوميا، لتكون طازجة، كما يحبها زبائنه الأوفياء، مشيرا إلى أن الأغلبية يفضلونها على المعلبة والجاهزة التي قد تكون قديمة أو مغشوشة. من جهته قال ناصر بلحاج، بأن عمر محله  الشهير باسم» حانوت التونسي» يعود لثلاثينيات القرن الماضي، و توارثت عائلته الحرفة أبا عن جد، مشيرا إلى أن رمضان يعتبر الفترة الأكثر نشاطا في السنة، حيث يزيد الطلب على التوابل كثيرا، وهو إقبال بلغ ذروته في السنوات الأربع الأخيرة، حسبه،  بعدما دخلت قنوات الطبخ على يوتيوب و التلفاز  منازل الجزائريين، مضيفا بأن ميزة توابل محله، تكمن في كونها طازجة و هي في الغالب قادمة من الجنوب الجزائري، أو من تونس، و تباع جنبا إلى جنب مع الأواني الفخارية التي تحفظ النكهات جيدا.
الخلطات موضة رائجة
و «راس الحانوت» التوليفة السحرية الأشهر
من جانبه قال توفيق، تاجر بهارات بسوق الإخوة بطو، بأن بورصة التوابل مستقرة ولا تتغير إلا نادرا ، باستثناء الزعفران الذي يبقى مفقودا في السوق و يبلغ سعر الكيلوغرام الواحد منه 40 ألف دج تقريبا، فإن باقي الأنواع الأخرى موجودة و مطلوبة و أسعارها جد مقبولة، فمثلا يقدر كيلوغرام من الفلفلين الأسود أو الأبيض بـ 1800دج،  1200دج لكيلوغرام  الفلفل الأحمر و الكروية و رأس الحانوت و الكسبر و حبة حلاوة و الكروية، و 600 دج لكيلوغرام السمسم  «الجلجلانية». و لعل موضة السنتين الأخيرتين، كما قال البائع، هي الخلطات المتعددة الخاصة بتحضير أطباق معينة، والتي تلقى رواجا كبيرا و تعتبر الأكثر طلبا في رمضان، على غرار  خلطة التتبيل الخاصة بتحضير الشاورما و « طاجين الزيتون» و الكسكسي و السمك في الفرن و الملوخية و غير ذلك، أما أكثر توليفة توابل شهرة و طلبا و استخداما، فهي خلطة رأس الحانوت، مع أو دون الفلفل الأحمر، وذلك على اعتبار أنها ذات نكهة قوية و مألوفة.                     ه/ط

الرجوع إلى الأعلى