تلملم الكاتبة منى بشلم في روايتها الأخيرة «بنات النار»، الصادرة عن دار رؤى فكرية للنشر والتوزيع بالجزائر شتات واقع معاصر، تغزوه التفاصيل وتتجاذبه قضايا متعددة ومتنافرة، وتتخذ من (الجزائر/ البلد) و(باريس/ العاصمة) فضاء مؤطرا لأحداث يتصدر فيها الحضور الأنثوي، ما يتوافق مع العنوان (بنات النار)، الذي يختصر معاناة الأنثى من الاحتراق.
تطل باريس في هذه الرواية، على غير عادتها، شبه خالية من الفرنسيين، فمعظم قاطنيها أجانب أو ثمرة زواج مختلط، أما صروحها ومعالمها الثقافية فقد بدت بلا وهج، في هيئة صور ساكنة تلتقطها البطلة/ الراوية سامية، وتمنحها بعضا من الحركة والمشاعر الإنسانية، عبر ما تنشره على صفحة، تعكس بافتراضيتها تراجع مكانة فرنسا الثقافية. ومع هذا تظل باريس قبلة من لا ملجأ له، يضيع فيها كل أجنبي.
أقحمت منى بشلم في خطابها قضايا متعددة، مثل حديثها عن العنصرية ومنع الحجاب والإسلاموفوبيا وزنى المحارم والمثلية.. حين تغدو معانقة الصديقة والرغبة في مواساتها شبهة من الأفضل اجتنابها.
يكشف التطرق إلى الحياة الريفية الجزائرية ما يكابده سكان الريف من معاناة، في مقابل ما ينعمون به من بساطة في العيش، بعيدا عن تعقيدات المدينة، حيث لا تزال الذكورة تراهن على سطوتها رغم المكتسبات الاجتماعية التي حازت عليها المرأة في الجزائر، هذه الأخيرة التي تعيش مرحلة انتقالية واستثنائية بعد حراك شعبي يتزامن الحديث عنه في الرواية مع تمكن سامية من الاستقرار في كنف عائلة تعيش من خيرات الأرض دون أن تقطع صلتها نهائيا بباريس.
تتعانق الفنون في هذه الرواية؛ فالموسيقى والرقص والرسم والكتابة كلّها حاضرة، وتآلفها ضمن هذا المتن منحه أبعادا فنية وجمالية مكثفة، أسهمت في تخفيف وطأة ما تبعثه العتبات الثانوية من خوف، وما ينفثه عالم السحر والشعوذة الذي يستحوذ على مسار السرد من فزع وكوابيس، وهو ما يفتح بابا واسعا أمام القراءات المتعددة للحاضر الإنساني، الذي طوّر من تمسكه بمعتقداته البدائية عبر مواقع إلكترونية تقرأ الطالع، وتعبث بعقول زائريها وحياتهم.
تتناوب شخوص الرواية على كشف هذه العوالم التي يمتزج فيها الواقعي بما هو غيبي، ويكشف السرد المتعاقب عن علاقة أخوة يطغى عليها الصّراع والغموض، تجمع ثلاث فتيات جزائريات، انتقلت اثنتان منهن إلى العيش في باريس، واختارت الثالثة وهي الكبرى أمريكا، بعد أن أخذن الشعوذة عن والدهن كبير سحرة الجزائر، الذي يتعامل مع شخصيات ذوات نفوذ وسلطة.  
حين انتقلت سامية للعيش في بيت حليمة وجدت نفسها في دوامة هذه العاصفة، التي هاجت بعد أن صارت تعمل في جمعية خيرية، فقد غدت الشكوك تمزقها حول هذه الصديقة، ثم تختار في النهاية العودة إلى الجزائر والزواج من منيب الطبيب الذي التقت به في باريس وهو بصدد التنظيم للحراك الشعبي إلى جانب صديقها رشيد وصحفي جزائري تعرفت عليه عبر صفحتها في الفايسبوك.
تشتغل الكاتبة منى بشلم في هذه الرواية على أكثر من تيمة كالحب والموت والمرأة والوطن والغربة،.. وتعتمد فنيات سردية حديثة تخرق خطية الزمن، وتلامس جوانب من السيرة الذاتية، كما تولي عناية خاصة لنظام العتبات ومساحة البياض، ويظل كسر أفق توقع القارئ أبرز ما تقوم عليه (بنات النار) بعالمها المدهش، ومنطقها الإنساني الرحب الذي يقبل القراءة المتعددة.
 د. أسماء بن عاشور 

الرجوع إلى الأعلى