احتفت الكثير من الدول العربية منذ يومين باليوم العربي للأم في مبادرة سنوية غرضها لفت الأنظار للمكانة المركزية التي تحتلها في المنظومة الاسرية والاجتماعية وتأكيدا على حقوقها وحرصا على دوام البر لها وإضفاء مهابة تليق بمقامها مدى الحياة.
وقد كشف هذا الاحتفاء الذي شاركت فيه دول أخرى غير عربية أن احترام وتوقير الأم قيمة متفق عليها بين مختلف الشرائع والأديان والأمم والحضارات، فلم تشذ أي منها عن هذا، وبمجيء الإسلام على فترة من الرسل ومرحلة جاهلية أعاد التذكير بحقوقها ورفعها إلى مستوى الالتزامات الأدبية والمعنوية، مذكرا الابن بما عانته الأم من أجله منذ لحظة المخاض إلى لحظة الميلاد ما بعده، فقال الله تعالى: ((وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا  حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ))، ودون أن تجعل من الأم آلهة تعبد من دون الله تعالى عرض القرآن الكريم واجبات الأبناء تجاه الآباء عموما والأمهات خصوصا فقال الله تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا  [الإسراء: 23].فقد أوجب الإحسان إليهما وحرم كل ما يؤذيهما من قول أو فعل، من أذى حسي أو معنوي ولول بقول كلمة 'أف' في وجوهم، فطاعة الوالدين واجبة بل برهما واجب ويرى الفقهاء أن البر أوسع مدلولا من الطاعة، فهذه تعني التعاطي الإيجابي مع أوامرهما وتنفيذها بينما البر تنفيذ ما يرغب فيه الوالدان ولو لم يصدر منهما أمر، وهو أمر شعوري يتطلب حضورا دائما للأبناء مع الآباء والشعور بما يريدونه سواء من خلال الخبرة أو من قراءة الوجوه وتفرس الملامح، وهو ذروة التماهي النفسي لا يبلغه من كان عاقا مفرطا في حقوق والديه
ومن عظمة مكانة الأم في الإسلام أن جعلت أفضل من يستحق الصحبة في هذه الحياة، فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل: مَن أحقُّ الناس بحسن بصحبتي؟ قال: [أمك]. قيل: ثم من؟ قال: [أمك]. قيل ثم من؟ قال [أمك]. قيل ثم من؟ قال: [أبوك]. رواه البخاري، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن الكبائر، فقال: [الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس، وشهادة الزور]. رواه البخاري. ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن سَبّ الوالدين؛ فقال: [إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه]. قيل يا رسول الله! كيف يلعن الرجل والديه؟ قال: [يسُب الرجل أبا الرجل فيسبّ أباه ويسبّ أمه]. رواه البخاري
فكل عصيان لأوامر الوالدين يعد عقوقا لا يبرره الإسلام بحال؛ إلا حالة أمرهما بالشرك بالله تعالى فقط يرفض أمرهما لقوله تعالى:((وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا))، ورغم هذا ففي هذه الحال تجب المصاحبة بالمعروف؛ فمن واجبات الابن تجاه أمه، علاوة على الطاعة والبر، الحب والمودة والصدق والوفاء، ودوام إدخال الفرحة والبشرى عليها، وقد تكفي الأم ابتسامة أو هدية لتدخل على نفسها السرور، كما يجب تفقدها وزيارتهما والسؤال عن حالها وتلبية حاجاتها، والحرص على الدعاء لها حية أو ميتة، لقوله تعالى: ((وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ))، ومودة الأم ينبغي أن تكون مودة صادقة وليست مودة مصطنعة لأن للأم كما للأب شعور خاص قد يفرقون به بين ما هو صادق من المشاعر والابتسامات وما هو مصطنع !
ولا ينبغي التحجج للتقصير بتطور الحياة وكثرة الانشغالات، فالحياة المعاصرة بقدر ما شعبت الحياة بقدر ما يسرت سبل التواصل اليومي إذ يمكن لابن أن يتواصل بالصوت والصورة كل لحظة بالوالدين ليطمئن عليهما ويسال عن حاجتهما ولو كانا بعيدين عنه، وليعلم أن بر الأم طريق للسعادة وعقوقها طريق نحو الشقاء في الحياة، لقوله تعالى على لسان عبسى بن مريم: ((وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا))
 وقد أمر الشارع الحكيم الابن بالإنفاق على الأم إن احتاجت ولم يكن لها مال فيوفر لها من ماله كل ما تحتاجه من نفقة ومسكن وغير ذلك، وهذا ليس من الإحسان فقط بل واجب عيني.
ع/خ

الرجوع إلى الأعلى