كشفت غزوة بدر أن النصر من عند الله تعالى؛ فهو وحده الذي يمنحه لمن يشاء ويصرفه عمن يشاء؛ ذلك لأن المنطق العددي وقتئذ كان يرجح كفة قريش للانتصار في المعركة؛ لما لها من أفضلية عددية، حيث بلغ عدد جنودها ثلاثة أضعاف عدد جند المسلمين، لكن لأن الله تعالى حكم وقال: ((وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10))) [الأنفال]؛ فإن منطق العدد المادي لم يعد هو المعيار الوحيد لترجيح الانتصار في المعارك؛ فحين تكون إرادة الله تعالى تتجلى سنته في المجتمعات ((كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249))) [البقرة].
 وتجسيدا لهذه السنّة انتصر المسلمون في بدر وهم اٌقلية عددية، فمنّ الله تعالى عليهم بهذا النصر فقال: ((وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123))) [آل عمران]، فانتصر 314 مقاتلا من المسلمين على قابة 1000 مقاتل من المشركين فقتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين، ولذلك فإن المسلمين مطالبون بالاعتقاد أن النصر لا يتحقق بمجرد تكثير سواد الجند وتعزيز عتاد الجيش بل بالثقة أولا في نصر الله تعالى واستمداده منه؛ ولا أدل على ذلك مما وقع هنا ووقع مثيله في تاريخ المسلمين، وعلى غرار ما وقع في ثورة التحرير الجزائرية؛ فقد كانت الكفة ترجح عدديا وماديا الجيش الفرنسي للانتصار؛ لكن إيمان المجاهدين بنصر الله تعالى والتحام الشعب بهم حقق لهم نصرا تاريخيا لم يشهده المسلمون منذ قرون.
لكن النصر وإن كان من عند الله تعالى إلا أنه لا يعني أن يتواكل المسلمون ويذهبون لمواجهة عدوهم بصدور عارية وأيد خاوية، بل لا بد قبل ذلك من تقديم أسباب لهذا النصر أمر بها الله تعالى في آيات كثرة، منها:
(أولا). إعداد العدة البشرية والمادية للمعركة؛ لقوله تعالى: (( وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)))، ولكل عصر ما يتطلبه من جند وأسلحة وعتاد تسخر من أجله الأموال، والمسلمون مطالبون في كل عصر أن يكونوا في مستوى تحديات ذاك العصر وفي مستوى أقوى الأمم تسليحا، فلا يكتفوا بأقل عتاد بل يبذلوا قصارى جهدهم وأموالهم في إعداد العدة للقتال في أي ظرف؛ بل إن الاستعداد للحرب حرب، والاستعداد للحرب تحقيق للسلام، وبعد إعداد العدة واستفراغ الجهد في ذلك يأتي مدد الله تعالى ليكمل النقص إن وجد؛ لذلك قال الله تعالى: ((إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9))) [الأنفال].
(ثانيها). الالتزام ببعض شروط النصر أثناء المعركة؛ جمعها قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ  وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47))) [الأنفال]
فمن شروط ذلك الثبات في المعركة وعدم الفرار عند لقاء العدو أو التولي يوم الزحف لأن هذا من الكبائر، ومن شأنه إدخال الشك والريبة والانشقاق في الجيش وتثبيط عزيمته، وبث روح الانهزام في صفوف أفراده؛ وكذا ذكر الله تعالى لأن المؤمن يعتقد ما سبق تقريره أن النصر من عند الله تعالى وحده، فلا يغفل عن هذه الحقيقة قيد أنملة، وقد غفل بعض المسلمين عن هذه الحقيقة يوم حنين حين ركنوا إلى قوة عددهم فانهزموا فقال الله تعالى: (( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26))،وكذا طاعة الله ورسوله، وطاعة الله تعالى هنا بالتزام حدوده وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بالتزام أوامره لاسيما اثناء المعركة باعتباره قائدا لها.
ومن شروط النصر أيضا: عدم التنازع لأن التنازع يعني الفرقة وذهاب القوة والانهزام أمام العدو، والفشل في تحقيق النصر الذي هو غاية المعركة، فالمسلمون تجتمع كلمتهم ويقاتلون صفا واحدا متينا، كما قال الله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ (4))) [الصف]، ففي التنازع ذهاب للجيش؛ بل ذهاب للدولة كلها؛ ولذلك قال بعض المفسرين إن المراد بقوله تعالى: ((وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)) أي تذهب دولتكم، وكذا والصبر؛ لأن النصر صبر ساعة كما يقال؛ فالمعركة فتنة تتطلب نفسا طويلا وجلدا وصبرا على مشاقها وعدم الاستسلام أو التراخي حتى يتحقق النصر، والجيش الأكثر صبرا هو الذي يحقق النصر في نهاية المطاف، ولذلك أمر الله تعالى بها المؤمنين، والإخلاص وعدم الرياء والكبرياء لأن ذاك من عادة غير المسلم الذي يبتغي الجهاد في سبيل الله تعالى؛ لإعلاء كلمة الله؛ ولذلك جاء في الحديث: عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: (سُئِلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَنْ الرَّجُلِ: يُقَاتِلُ شَجَاعَةً، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً، وَيُقَاتِلُ رِيَاءً، أَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ الله؟ فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ الله هِيَ الْعُلْيَا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ الله) [متفق عليه]
فهذه هي أهم شروط النصر، التي ينبغي تحقيقها ثم التوكل على الله تعالى الذي بيده النصر، وقد استوفى المؤمنون هذه الشروط في بدر فانتصروا؛ لكنهم تراخوا عنها في غزوة أحد وتركوا بعضها فانهزموا فلم يتصفوا به، لأن أي شرط يتأخر منذر بالخسران؛ فقال الله تعالى مخاطبا المؤمنين المنهزمين في أحد: ((وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا و َمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ (152))) [آل عمران]، فقد بين لهم أن من أسباب الانهزام في تلك المعركة التنازع ترك الطاعة والصبر والثبات والإخلاص ، وهو درس للمسلمين في كل عصر؛ لكي يحافظوا على شروط النصر في معاركهم العسكرية والحضارية.
ع/خ

الرجوع إلى الأعلى