أسعار رمزية تحوّل "أطباء الزوالية" إلى وجهة أولى للمرضى   
كسر عدد من الأطباء الخواص بولاية قسنطينة قاعدة الأسعار المبالغ فيها   مفضلين العمل بمنطق اجتماعي  رفع من مكانتهم في المجتمع وحولهم إلى وجهة أولى لمئات المرضى الذين يرون فيهم حالات استثنائية و فرصة للهروب من مخالب جشع بدأ يتفشى في مهنة نبيلة كالطب.. و مهما اختلفت أسباب كل طبيب بين وصية أب وتطبيق للقانون وسر يحتفظ به صاحبه، إلا أن هذه الفئة تصنع الحدث في الوسط الطبي بأسعارها التي لا تتعدى 600 دج، وعياداتها المتواضعة والواقعة في نقاط محجوبة عن الأنظار إلا أنه من السهل الوصول إليها بسبب شهرة
 ما يسمون ب"أطباء الزوالية".
النصر حاولت  الإقتراب من عالم من يرون في الطب مهمة إنسانية ووقفت على عيادات قديمة وغير مجهزة تعج بمرضى يقصدونها من كل مكان في قسنطينة وخارجها هروبا من دفع  مبالغ قد تصل أربعة أضعاف ما يدفعونه في أماكن أخرى.  لم نجد صعوبة في الوصول إلى عيادات هؤلاء الأطباء الذين شاع عنهم بأنهم يقومون بذلك امتثالا لوصايا من أوليائهم، لأنهم يتمتعون بشعبية كبيرة، و حتى تلك العيادات الكائنة بالأحياء السكنية ذات البنايات المتداخلة، كان من السهل الوصول إليها لأن كل السكان و حتى المارة سمعوا عنها و يعرفونها.
500دج لفحص شامل مع كشف بالأشعة
بداية استطلاعنا كانت من وسط مدينة الخروب، أين سمعنا عن طبيب عام يقصده المرضى منذ تسعينات القرن الماضي، بسبب تسعيرات فحوصاته المنخفضة و التي قال بعض المرضى الذين تحدثنا إليهم بقاعة الانتظار، ممن تعوّدوا على زيارة هذا الطبيب، أنها انتقلت من 100 دج طيلة التسعينات، إلى  200 دج عام 2001، ثم ارتفعت إلى 300 عام 2014، قبل أن تتبعها زيادة طفيفة عام 2015، لتصل في بداية العام الجاري إلى 500 دج، و هو ما اعتبره الكثيرون سعرا رمزيا، مقارنة بما هو مسجل لدى باقي الأطباء، حيث تتراوح تكاليف الفحوصات العادية بين 1200 دج و  2000 دج، حسب التخصصات.
و قد تعكس الأسعار سر الإقبال الكبير الذي تشهده عيادات من يطلق عليهم البعض اسم "أطباء الزوالية"، في إشارة إلى ذوي الدخل المحدود  و المعوزين، الفئة الأكثر ترددا عليهم، و هو ما وقفنا عليه، بعد زيارتنا لعدد من العيادات بكل من بلدية قسنطينة، الخروب و زيغود يوسف، أين وجدنا عددا كبيرا من المرضى من مختلف الفئات العمرية، بدءا بحديثي الولادة و الرضع، وصولا إلى المسنين، مثلما لاحظناه بعيادة الخروب التي تفاجأنا و نحن نقصد مكتب الممرضة، من جلوس هذه الأخيرة بغرفة أشبه بقبو تملؤه قطع الخشب و الأدوات المستعملة في أشغال ترميم تخضع لها العيادة منذ فترة، حسب الممرضة التي يبدو أن تقشف الطبيب حرمها من العمل في مكتب مجهز  على غرار العيادات الأخرى.
و خلال انتظارنا وصول الطبيب، علمنا من المرضى بأن هذا الأخير يعمل من الساعة الثامنة و النصف إلى غاية الرابعة مساء، و أشاد الجميع بسمعته الطيّبة و نجاعة تشخيصه للأمراض و علاجها، حيث ذكرت إحدى النساء التي أحضرت ابنها الذي كان يعاني من حمى شديدة، بأنها كانت تعالج عند ذات الطبيب منذ كانت في عمر طفلها، أي سبع سنوات، و هي اليوم في الأربعين من العمر و لا تزال تزوره، كلما استدعى الأمر ذلك مع أطفالها.
و تشابهت إجابات من سألناهم عن سر عدم اهتمامهم بظروف الاستقبال، علما و أن هؤلاء يجلسون على مقاعد من الاسمنت على شاكلة ما كان موجودا بالعيادات العمومية القديمة، و التي لم يعد لها وجود اليوم، حيث أكدوا بأنهم لا يبالون بذلك، طالما أن السعر يروقهم و العلاج يأتي مفعوله.
و قد حاولنا التحدث إلى الطبيب، لكنه رفض بحجة أن ما يقوم به "لوجه الله" و لا يريد الحديث عن الأمر، لا مع الصحافة و لا مع جهة أخرى، مثلما أخبرتنا الممرضة التي طلبت منا عدم الإلحاح لأن ذلك لن يجدي نفعا،
غادرنا المكان المليء بالغبار و الذي لا يوحي بأنه عيادة طبيب، تاركين عدد من التلاميذ الذين جاءوا بحثا عن شهادة مرضية لتبرير غيابهم عن المدرسة.
طبيب عيون متخصص في تحرير شهادات لرخص السياقة
وجهتنا الثانية كانت حي الدقسي أين سمعنا عن طبيب مختص في طب العيون و الذي بمجرّد وصولنا إلى مدخل الحي من جهة الكيلومتر الرابع، اتضح بأن اسمه أشهر من نار على علم، فوصلنا بكل سهولة إلى عيادته رغم أنها تقع بين عمارات متداخلة، و حال ولوجنا العيادة، لفت انتباهنا لافتة على يمين الباب، كتب عليها بالفرنسية"ميدسان دو زيو" بدل "أوفتالمولوغ"، كما هو شائع، بأغلب العيادات المتخصصة في طب العيون، و إن كانت العبارة مستعملة بالخارج، لكنها تبقى تثير فضول كل من قصد هذه العيادة، التي ما إن طرقنا بابها حتى فتح لنا شخص يرتدي قبعة رياضية، ظننا في البداية أنه مريض تطوع  لفتح الباب، لكن بسؤاله لنا عن سبب زيارتنا، أدركنا أننا أمام الطبيب نفسه و الذي كان يبدي انزعاجه و عدم تقبله لغير المرضى و يطلب من المرافقين لهم الانتظار خارجا.
الطبيب لم يمانع في الإجابة على أسئلتنا و أخبرنا بأن سر تخفيضه لتسعيرة الفحص راجع لاحترامه للقوانين، بالإضافة إلى تأثره بالأطباء الذين ساهموا في تكوينه و الذين كانوا يحثون على الجانب الإنساني، و يحذرون من تحويل هذه المهنة النبيلة إلى مهنة تجارية، بحثا عن الكسب السريع و الثراء.
و اعتبر محدثنا تسعيرته التي لا تتجاوز  600 دج كافية، للحصول على فحص و علاج جيّد، مشيرا إلى جشع بعض الأطباء الذين رفعوا تكاليف الفحص العادي إلى الضعف، و أرجع سبب إصرار بعض الأطباء على كسر التسعيرات إلى القناعة و الإيمان بنبل مهنتهم، كما قال.
و لم يخف ذات الطبيب بأن أكثر من يقصدون عيادته لا يعانون مشاكل في النظر و إنما يأتون لأجل الحصول على شهادات طبية يحتاجونها لإعداد ملفات خاصة و على رأسها ملف السياقة. و لم يختلف وضع العيادة الثانية عن الأولى التي زرناها بمدينة الخروب، حيث كانت قاعتا الانتظار الخاصة بالنساء و الرجال ضيقتين، متداخلتين و مجهزتين بكراس قديمة.
طبيب عام يداوم بعد السادسة مساء
الوجهة الثالثة كانت بلدية زيغود يوسف، حيث علمنا من بعض المواطنين أن الطبيب الذي قصدناه لا يعمل إلا في الفترة المسائية، ابتداء من الساعة السابعة مساء و إلى غاية التاسعة ليلا،كأنه طبيب مناوب، مؤكدين بأن عيادة هذا الأخير تشهد طوابير طويلة،لاسيما في فصل الصيف، حيث يعمل إلى ساعات متأخرة من الليل. أما بخصوص الخدمات فيرى البعض أنها لا ترقى إلى ما هو موجود بالعيادات التي تفرض تسعيرات مرتفعة، فيما اعتبرها البعض الآخر لا تختلف عنها في شيء. و ذكر أحد هؤلاء الأطباء بأن تسعيرتهم حتى و إن لم تعفهم تماما من الضرائب، فقد خففت منها و هو ما حفزهم على الإبقاء على تلك الأسعار المنخفضة. و إن كان عدد الأطباء الذين كسروا تسعيرات الفحوصات الطبية قليل، فقد أثاروا  غضب و انتقاد بعض زملائهم،كما لم ينج البعض من مكائد و محاولات تشويه السمعة، من قبل من يعتبرونهم منافسين حقيقيين لهم.
 مجلس أخلاقيات الطب  
لا وجود لأسعار موّحدة منذ السبعينات
أكد ممثل مجلس أخلاقيات مهنة الطب بناحية قسنطينة، الدكتور عمر بوشاقور، بأن القطاع الخاص يشهد  حالة من الفوضى، في ما يخص تكاليف الفحص و العلاج، و ذلك منذ فترة طويلة تزيد عن الأربعين سنة، حيث لا توجد تسعيرة موّحدة، بالنسبة للأطباء الخواص، سواء في طب العام أو الاختصاص، رغم مطالبة عمادة و مجالس أخلاقيات مهنة الطب بذلك، مؤكدا بأنه لا يوجد قانون واضح في هذا الإطار، عدا قانون 05/85 الذي يعتبر قديما جدا و لا يواكب التغيرات التي شهدتها المهنة، ما ساهم في خلق فوضى الأسعار  وتفاوت من عيادة إلى أخرى، مشددا على ضرورة وضع اتفاقية، بمساهمة مختلف الشركاء من أطباء و ممثلي المرضى و صندوق الضمان الاجتماعي و مديرية الصحة و الوصاية، لوضع حد للتجاوزات التي أدخلت المهنة في منافسات غير مشروعة، ، لما ينجم عنها من فقدان الثقة بين الأطباء من جهة، و تشوّيه لسمعة البعض و قد يتهمون بالتحايل على مرضاهم، لأن زملاءهم يعملون بنصف التسعيرة.
مريم/ب

الرجوع إلى الأعلى