تعرف مصالح الاستعجالات الطبية و الجراحية بمختلف مستشفيات ولاية قسنطينة، تزايدا غير مسبوق لظاهرة الاعتداءات على الأطقم الطبية المناوبة ليلا، و ذلك من طرف عائلات و مرافقي المرضى، الذين خرجت علاقتهم بالطبيب عن إطارها المألوف و حوّلت الاستعجالات إلى «أماكن خطر» لم تتمكن الإدارات من احتوائها لحفظ كرامة «الحكيم».

روبورتاج: عبد الله بودبابة
اعتداء عون أمن على طبيب بمستشفى الخروب، ضرب طبيبة بإحدى مصالح المستشفى الجامعي و الاعتداء لفظيا على أخرى.. هي عينات بسيطة من حوادث تتكرر بمستشفيات قسنطينة بلغ  بعضها أروقة العدالة فيما يبقى معظمها في مذكرة العاملين بالقطاع الصحي الذي تحولت مرافقه إلى ساحات لمعارك  تختلف أسبابها و الأطراف المعنية بها  من حالة إلى أخرى، لكن تبقى نتائجها تحت عنوان عريض هو العنف.
 للإقتراب من محيط الظاهرة والتعرف على أسبابها دخلت النصر الجانب الخفي من يوميات وليالي العاملين بالمستشفى الجامعي ابن باديس،  حيث زرنا مصلحتي الاستعجالات الطبية و الجراحية، و كانت البداية بالاستعجالات الطبية القريبة من الباب الرئيسي، فحوالي الساعة الثامنة ليلا، كان عون الحراسة مرتديا زي العمل يقف بالمدخل و يسند ظهره إلى الباب متأملا حركة المركبات بالخارج، و كأنه غير مهتم بالوافدين إلى المصلحة، مكتفيا بالرد على الاستفسارات التي توجه له من بعض أهالي المرضى، و بالداخل كانت المقاعد الطويلة المتلاصقة بقاعة الانتظار مشغولة بما يقارب 10 مرضى، كل واحد منهم مرفوق بأزيد من شخص ينتظرون الدور للمعاينة الطبية، وسط تذمّر بعضهم بسبب عدم تنظيم العملية، التي أوكلت لممرضة فقط كانت تخرج كل فترة لتسأل عن صاحب الدور، و هو وضع استمر لحوالي 45 دقيقة، مع تزايد في عدد الوافدين و بطئ مغادرة الموجودين.
أوليـاء يهينـون الأطبـاء و يتدخلـون في عملهـم
قبل مغادرتنا المصلحة كان لنا حديث مع أحد الممرضين دون أن نكشف له عن هويتنا، حيث أكد لنا أن المصلحة المذكورة تعتبر آمنة بعض الشيء بالنسبة للعاملين بها، مقارنة مع مصلحة الاستعجالات الجراحية، لأن أغلب الوافدين إليها عائلات، كما أنها قريبة من مركز الشرطة و على مرأى من عناصر الأمن، و هو ما يفسر حسبه تواجد عون أمن وحيد، يطلب الدعم في حال وقوع أي طارئ. كما أضاف محدثنا أن أغلب الحوادث المتعلقة بالاعتداء على الأطقم العاملة بالمصلحة لفظية، تحدث بسبب تدخل مرافقي المرضى في عمل الأطباء، و رفضهم للتشخيص، مستذكرا أنه في أحد الأيام، ظل مرافق مريضة يلح على منح زوجته حقنة مسكنة رغم معارضة الطبيبة، حيث دخل معها في مناوشات كلامية، مهددا إياها بمتابعتها قضائيا بسبب اعتقاده أنها لم تقم بواجبها على أكمل وجه. حوالي الساعة التاسعة مساء غادرنا المصلحة المذكورة صوب الاستعجالات الجراحية عبر مصلحة الجراحة العامة.. حيث مررنا على البوابة الرئيسية للمستشفى التي كان يقف عندها 5 أعوان أمن، دون أن يمنعنا أحد، ثم استعملنا السلالم و الممرات الداخلية التي كانت خالية و دون حراسة، و بدخول الاستعجالات الجراحية لاحظنا أن الهدوء يعم المكان، فيما كان عونا أمن يتبادلان أطراف الحديث و هما جالسين على مقاعد الانتظار، قرب غرف المعاينة المغلقة، أما في الخارج فقد كان الظلام مخيما، باستثناء مصابيح قليلة قرب المدخل، حيث مكثنا بالمصلحة حوالي نصف ساعة نراقب الوضع في انتظار أي جديد، غير أن السكون وحده كان حاضرا، قبل أن نغادرها.
اتجهنا بعد ذلك نحو مصلحة الاستعجالات بمستشفى الدكتور بن شريف بالمدينة الجديدة علي منجلي، أين قمنا بجولة استطلاعية ليلا، فحوالي الساعة العاشرة مساء دخلنا الباب الرئيسي للمستشفى الذي كان يحرسه 3 أعوان أمن، ثم اتجهنا نحو مصلحة الاستعجالات الطبية الذي كان بداخلها عونا أمن آخرين تابعين للمستشفى، وإلى جانبهما شرطي من الأمن الحضري الأول بيده جهاز اتصال لا سلكي، لكي يستخدمه في حال استلزم الأمر لطلب الدعم، أو لوصول أي جريح تعرض لاعتداء.
جلسنا على المقاعد المقابلة لمكتب المعاينات الطبية و قاعة العلاج في انتظار دورنا، حيث كانت المصلحة تعج بالمرضى القادمين من مختلف الوحدات الجوارية بعلي منجلي، أغلبهم من كبار السن، الجو العام بدا لنا هادئا، و الكل ينتظر دوره في صمت، بقينا على هذا الحال حوالي نصف ساعة تقريبا، و بعد مدة قصيرة، كسرت إحدى الطبيبات الرتابة التي كانت تعيشها قاعة الانتظار، و بدأت بسرد تعرضها للسب من قبل ولي طفلة قبل دخولنا بدقائق، حيث أكدت لأعوان الأمن  الداخلي أنها تعمدت تفادي رفع شكوى أو إبلاغهم بالمشكلة، لكون الحادث أصبح عاديا بالنسبة إليها و يتكرر كل مناوبة تقريبا، و لو أنها كانت تتكلم بحرقة.
اغتنمنا فرصة دخول الطبيبة إلى قاعة العلاج بمفردها، حيث التحقنا بها و عرفنا عن هويتنا، ما جعلها تصطحبنا إلى مكتب المعاينات الطبية أين كانت تتواجد معها طبيبتان ، و عند استفسارنا عن الحادثة التي وقعت ضحيتها، صرّحت أن وليا أحضر ابنته في التاسعة من العمر لإجراء فحص بسبب إصابتها بالتهاب اللوزتين، حيث أصر على أن تتفرغ الطبيبة لابنته فقط، رغم أنها كانت مشغولة، مضيفة أنها عاينت الطفلة، غير أنه لم يهضم الانتظار أكثر ما جعله يوجه لها سيلا من الشتائم، متهما إياها بالتقصير وعدم القيام بعملها.
و أضافت الطبيبة أن الأطقم الطبية العاملة ليلا تعاني كثيرا من نقص الأمن وغياب الحماية اللازمة، بسبب نقص في عدد الحراس يقابله تزايد أعداد المعتدين، كما أن الأطباء خاصة النساء منهم يتعاملون يوميا مع مخمورين و أشخاص يحملون أسلحة بيضاء، ما يجعل التفاهم معهم أمرا في غاية الصعوبة، حيث يضطرون إلى مسايرتهم و منحهم أي مهدئ من أجل تفادي وقوع أي مشكل.

استعجـالات تحـت رحمـة المخمـوريـن
و من أكثر الاعتداءات بشاعة و التي ارتكبت في حق الأطباء العاملين على مستوى مصلحة الاستعجالات الطبية، ما شهده مستشفى الخروب محمد بوضياف بتاريخ 12 نوفمبر الماضي، عندما تعرض طبيب بمصلحة الاستعجالات للضرب المبرح بواسطة عصا خشبية على يد عون أمن، ما تسبب له في إصابات بالغة استدعت إخضاعه للجراحة بمصلحة الأعصاب، كما حصل على شهادة عجز بـ 15 يوما قدمت له من قبل الطبيب الشرعي.
وعقب نشر صورة الضحية على مواقع التواصل الاجتماعي، و تضامن زملائه معه، أوفدت وزارة الصحة لجنة تحقيق مكونة من 4 مفتشين للاستماع إلى شهادات كافة العمال و الأطباء، كما قامت الإدارة بفصل عون الأمن تلقائيا دون انتظار قرار العدالة، بسبب خطورة الحادثة، حيث أدانت محكمة الخروب المتهم بجنحة الضرب و الجرح العمدي و عاقبته بـ 18 شهرا حبسا نافذا وغرامة مالية.
وبتاريخ 30 نوفمبر 2014 تعرضت طبيبة داخلية بمصلحة أمراض الأنف، الأذن والحنجرة تدعى «س.ه» إلى الضرب من قبل شخص كان يرافق والده المريض، و ذلك بركلة على مستوى البطن أسقطتها أرضا وسط وابل من الشتائم و العبارات النابية، كما اتهمها الفاعل بالتقصير وعدم القيام بواجبها، قبل تدخل أعوان الأمن بتوقيف المعني و تحويله إلى مركز الشرطة بالمستشفى.
كما تعرض طبيب مقيم بمصلحة أمراض الأطفال بالمستشفى الجامعي قبل سنة تقريبا، لاعتداء من قبل قريب طفلة كانت تتلقى العلاج بالمصلحة، و قد قام الجاني حسب ما أكده الضحية بتجاهل تعليمات الفريق الطبي و أصر على التواجد داخل غرفة العلاج إلى جانب الطفلة، قبل أن يعتدي على الطبيب المناوب بضربة على الرأس و يركله ما تسبب في سقوطه أرضا، ليقوم بعدها الضحية بإيداع شكوى لدى مصالح الأمن.
و يتذكر عشرات الأطباء بالمستشفى الجامعي ابن باديس حادثة محاولة الاعتداء على الطاقم الطبي بمصلحة الاستعجالات الجراحية وأعمال تخريب صيف 2012، وذلك عقب وفاة شاب أثناء إجراء عملية جراحية، حيث قام حوالي 40 شخصا مخمورا، بتحطيم نوافذ المصلحة و بعض التجهيزات الطبية، بعد أن تم إعلامهم بوفاة صديقهم داخل غرفة العمليات، حيث تحولت المصلحة إلى ساحة حرب بعد اتهامهم للأطباء بالتسبب في وفاة الشاب، ليضطر الفريق الطبي يومها للاختباء داخل غرفة التعقيم لتفادي الاعتداء. من جهتهم طالب أطباء مستشفى البير خلال لقاء جمعهم بالإدارة الصيف الماضي، بتوفير الأمن بسبب الاعتداءات التي يتعرضون لها بشكل يومي من قبل أقرباء المرضى و مرافقيهم، حيث أكد ممثل عن السلك الطبي العامل بالمؤسسة الاستشفائية وقتها، أن الأطباء يعملون تحت ضغط نفسي كبير بسبب عدم التزام الموجودين بمصلحة الاستعجالات بأوامر الأطباء، وافتقادهم لثقافة التعامل، وهو نفس التصور الذي أكدته الإدارة.
الطبيـب المقيـم.. أول ضحايـا للعنـف
الأمين العام لنقابة الأطباء المقيمين بالمستشفى الجامعي ابن باديس الدكتور إبراهيم بوذراع، أكد في تصريح للنصر أن ظروف العمل بمصلحتي الاستعجالات الطبية والجراحية غير ملائمة، بدليل أن الأطقم الطبية تعمل تحت ضغط كبير و خطر التعرض للاعتداءات بشكل مستمر، معتبرا أن العنف اللفظي أصبح أمرا مألوفا لدى أغلبية الأطباء المقيمين الذين يعتبرون أول الضحايا، لأن هذه الفئة هي التي تضمن المناوبة، و أضاف محدثنا أن نقص أعوان الأمن و غياب التنظيم لمصالح الاستقبال يزيد من تعقيد الأمور، حيث يصبح الطبيب مجبرا على القيام بمهام ليست من اختصاصه، مؤكدا أن مطلب توفير الأمن يعد أهم نقطة تحرص النقابة عليها في اجتماعاتها المتكررة مع إدارة المستشفى الجامعي.
و يعتبر مرافقو المرضى المتهم الأول في قضايا الاعتداءات على الأطقم الطبية أثناء أدائهم لعملهم حسب ما أكده محدثنا، الذي أوضح أن غياب ثقافة العلاج لدى الجزائريين يزيد من تفاقم الوضع، خصوصا أن أغلب القادمين إلى المستشفى لا يعترفون بنظام الأولوية و بالحالات الاستعجالية، و هو ما يولد في كثير من الأحيان مناوشات بين المتواجدين داخل قاعة الانتظار و القائمين على تنظيم الدخول إلى قاعة المعاينات. و اعتبر محدثنا أن هندسة المستشفى الجامعي تزيد من تعقيد الوضع، حيث غالبا ما تتم عملية توجيه المريض من الاستعجالات الطبية نحو المصلحة المختصة، بطريقة عشوائية و دون مراقبة أو تأطير، كما أن بعد المسافة بين المصلحتين و إمكانية توجيه المريض نحو أكثر من مصلحة يتسبب في تذمر لدى المريض و مرافقيه، يتحمله الطبيب في آخر المطاف، مضيفا أن نقابة الأطباء اقترحت عدة مرات إعادة النظر في موقع مصلحة الاستعجالات الطبية و توسيعها لتشمل مصالح مختصة، حتى لا يضطر المواطن للتنقل بين المصالح.  فيما يؤكد المواطنون أن ردود  أفعالهم عنيفة نتيجة ما يلاقونه من تجاهل و انتقد من تحدثنا إليهم في مختلف المصالح سيما بمستشفى علي منجلي والمستشفى الجامعي ما يسموه بالمعاملة السيئة و التماطل في التكفل بالحالات، و اعترف شاب أنه خرج عن صوابه عند مرافقة والدته إلى مصلحة الاستعجالات لأنها كانت تتألم بينما دخلت ممرضات وطبيبة في نقاش حول موضوع شخصي، وقالت لنا سيدة أنها تشاجرت مع أعوان أمن لأنهم تأخروا في فتح الباب، بينما إتهم مريض وجدناه بمستشفى علي منجلي الطواقم العاملة ليلا بأنها غير قادرة على ضبط النفس وتفهم ردة فعل أولياء المرضى في الحالات الحرجة مشيرا أنه من الطبيعي أن يغضب مرافق المريض وهو يراه يتعذب ومن غير المنطقي أن يرد على ذلك الغضب بغضب أكبر ويرى أن الحل هو  التكوين والتقليل من توظيف شباب في مواقع تشهد احتكاكات كبيرة بالمواطنين.  و بين مختلف الروايات يبقى كل طرف يقذف الكرة في مرمى الآخر وهو ما لا يمكنه حجب حقيقة المعارك الدائرة خصوصا بالفترة الليلية داخل المرافق الصحية.

الرجوع إلى الأعلى