لم تعد مشاكل الطور الابتدائي بقسنطينة محصورة بين اهتراء سور و قدم طاولة أو عدم وصول وجبة ساخنة، فقد تسببت اختلالات التسيير و الصيانة و ما رافقها من تدهور للمؤسسات القديمة، في تحول بعض الهياكل إلى حاضنات أطفال محاطة بالأوحال و قاذورات التجارة الفوضوية، فيما صارت المراحيض الهاجس الأكبر للأولياء، بعد أن تحولت إلى مصدر للأمراض و الجرذان، و هو وضع يتقاذف مدراء المدارس و البلدية المسؤولية فيه، و دفع بقطاع التربية للتدخل في منشآت تُصرف عليها الملايير سنويا  و يفترض أنها ليست تابعة له.
تحقيق: ياسمين بوالجدري
تشهد المدارس المنتشرة عبر ولاية قسنطينة نقائص في الصيانة و التجهيز عجزت بعض البلديات عن تجاوزها بإمكانياتها المحدودة، فتحولت هذه الابتدائيات برأي الأولياء و نقابات التربية، إلى هياكل تزداد تدهورا يوما بعد يوم، و تشكل خطرا على تلاميذ يدرس العديد منهم بين جدران مهترئة و قديمة، و تحت أسقف تتسرب منها مياه الأمطار كل شتاء، و هو وضع يسوء أكثر كلما كانت المدرسة بعيدة و معزولة.
و معلوم أن التسيير المادي للمدارس الابتدائية بالجزائر، يدخل ضمن صلاحيات الجماعات المحلية، حيث تنص المادة 122 من قانون البلدية على أن هذه الأخيرة ملزمة باتخاذ كافة الإجراءات لإنجاز مؤسسات التعليم الابتدائي و صيانتها و تسيير و إنجاز المطاعم و كذا السهر على ضمان وسائل نقل للتلاميذ، لكن وزارة التربية الوطنية و بحسب أرقام كشفت عنها وزيرة القطاع، تخصص قرابة 10 ملايير دينار سنويا لانجاز و تجهيز المدارس و المطاعم و صيانتها، تضاف إليها 8 ملايير دينار لتجديد التجهيزات المدرسية و التدفئة خاصة بالبلديات التي لا تملك موارد كافية، زيادة على المساهمة في النقل المدرسي.
 القفز للخروج من المدرسة!   
و تظهر إحصائيات حصلت عليها "النصر" أن بلدية قسنطينة، مثلا، تحتوي على 133 مدرسة قرابة 60 بالمائة منها قديمة جدا و بينها ما أنجز قبل 100 سنة، و الغريب أن معظم هذه المدارس لم تخضع لعمليات صيانة كبرى، رغم الأموال التي ترصد لها سنويا في الميزانيات الأولية و الإضافية و التي تصل عادة إلى 8 ملايير سنتيم، و قد كان آخرها 5.6 مليار سنتيم أدرجت في الميزانية الأولية لهذا العام، و توزعت على تكاليف اقتناء اللوازم المدرسية و العتاد و المعدات و كذا لوازم صيانة البنايات و أعباء النقل المدرسي و المحروقات و التضامن المدرسي.
و للوقوف على ظروف تمدرس التلاميذ داخل الابتدائيات، اختارت "النصر" إجراء استطلاع ببلدية قسنطينة، بدأ من الإخوة عباس أو "وادي الحد" و هو حي شعبي تقع وسط سكناته مدارس قديمة، من بينها مدرسة "عربات" التي يكفي مشاهدتها من الخارج لمعرفة مدى تدهورها، فحتى البوابة كانت قديمة جدا و تغلق بصعوبة، بما يوحي أنها توشك على السقوط، فيما يغلُب اللون الأسود على الجدران الخارجية المتسخة و غير المطلية منذ مدة، كما كان مدخل المؤسسة يغرق في مياه الأمطار و الأوحال، و هو ما يفسره السكان بوقوعها بمكان منخفض تتجمع فيه مياه الأمطار بسبب خلل في نظام التصريف، ما أدى لتشكل برك و كتل من الأوحال، جعلت دخول المدرسة و اجتياز الطريق المقابل لها، مهمة صعبة على الأستاذة و التلاميذ.
شاهدنا تلاميذ "عربات" و هم يقفزون بشكل جماعي لدى الخروج من المدرسة في الفترة الصباحية، لكن أجسادهم الصغيرة لم تكن قادرة على تجاوز كل ترك البرك باستعمال الألواح الخشبية و العجلات التي لجأ المواطنون لوضعها، فتلطخت ثيابهم و مآزرهم بالأوحال، في مشهد تعوّد عليه الأطفال رغم قساوته، و يقول السكان أنه دفعهم لمراسلة مصالح البلدية و "سياكو" عدة مرات، للمطالبة بإصلاح نظام صرف مياه الأمطار و تعبيد المدخل على الأقل، غير أن التدخلات تكون في كل مرة "ترقيعية"، ما اضطرهم، في كثير من الأحيان، للاستعانة بالخواص و بإمكانياتهم لإصلاح المسلك و لو بشكل مؤقت.
عندما تأخذ البطاطا مكان الدروس!
توجهنا بعد ذلك صوب مدرستي بوالصوف و رابعة العدوية، اللتين تقعان أيضا بحي وادي الحد و لا يفصل بينهما سوى سور صغير، و اللافت هنا أن معاناة التلاميذ لا تتوقف عند تردي الطرقات القريبة من مؤسساتهم و امتلائها بالأوحال و الغبار، فوسط كل ذلك الضجيج الذي يميز الأحياء الشعبية، تحولت الأسوار الخارجية للمدرستين إلى مكان لنصب طاولات التجارة الفوضوية المعبأة بالخضر و الفواكه و حتى باللحوم و الدجاج الحي.. كل ذلك قرب هيكلين تربويين يدرس بهما عشرات التلاميذ، و أكثر ما يثير الاستغراب أن البعض لم يترددوا في ركن مركباتهم ببوابة مدرسة رابعة العدوية، إلى درجة أن التلاميذ وجدوا صعوبة في الخروج منها دفعة واحدة.
اقتربت "النصر" من بعض التلاميذ و تحدثت إليهم قليلا عن ظروف الدراسة، و قد كانت إجاباتهم صادمة.. حيث أكدوا أن ضجيج الباعة الجالسين أسفل نوافذ المدرسة يكاد لا يتوقف، فأصبح سماع عبارة "بطاطا.. بطاطا" و غيرها من العبارات، خلال الحصة الدراسية، أمرا معتادا، إلى درجة أن بعضهم قالوا أن الصوت المرتفع الصادر من الشارع صار لا يزعجهم!.. كما التقينا بأولياء كانوا في انتظار خروج التلاميذ، حيث لم يخفوا استياءهم مما يحصل و ذكروا بأن الأطفال يعودون للمنزل ملطخين بالأوساخ، و يضطرون للمشي على الطريق، لأن رصيف مدرستهم احتله الباعة، و هو ما كان سببا في تعرض العديد منهم لحوادث مرور، فيما علّق أحد الأولياء قائلا "أتساءل لمذا لا تتدخل الجهات المعنية لطرد هؤلاء الباعة، إلا عندما تحول المدرستان لمركزي اقتراع خلال الانتخابات!".
و بحي دقسي عبد السلام، اضطرت إدارة مدرسة أبو عبيدة بن الجراح، لغلق بعض المراحيض و المطعم المدرسي منذ حوالي سنة، خوفا على صحة التلاميذ بسبب انتشار الجرذان بداخلها، حيث قال لنا أولياء التقينا بهم قرب بوابة المؤسسة، أنه و زيادة على "حرمان" أبنائهم من الوجبات، صار التلاميذ يخشون استعمال دورات المياه بعد حادثة تعرض تلميذ لعضة جرذ عندما كان بداخلها، إلى درجة أن بعضهم أصبح يتبول على نفسه، فيما ينتظر الكثيرون الوصول للمنازل من أجل قضاء حاجتهم، أما الأكثر شجاعة فيضطرون لاستعمال هذه المرافق بعد إحداث ضجيج و الضرب بأرجلهم لكي تفرّ الجرذان.

حراس و أولياء يتطوعون لتنظيف المراحيض
و لا يختلف الوضع كثيرا بمدرسة بن عياش عمر الواقعة بين عمارات حي ساقية سيدي يوسف "لابوم"، لكن سبب عدم دخول التلاميذ إلى المراحيض هذه المرة ليس الجرذان، بل غياب المياه و انبعاث الروائح الكريهة منها، و هو ما أثار مخاوف من احتمال انتقال الأمراض المعدية للأطفال، اشترك في استشعار خطرها أولياء التلاميذ، بعد أن صار نقص النظافة داخل دورات المياه الهاجس الأكبر بالنسبة لهم، ما دفع بالبعض للتطوع، بجلب المياه لانقطاعها عن بعض المدارس.
و رغم أن الجهات المسؤولة بالبلديات تؤكد أنها تحرص على توظيف عاملة نظافة على الأقل لكل مؤسسة، يلاحظ أن العديد من المراحيض داخل المدارس لا تنظف بالشكل المطلوب، لتتحول إلى بؤر للأوساخ و القاذورات التي تصل روائحها الكريهة إلى غاية الأقسام، بحيث اكتسى لون جدرانها و بلاطها السواد من شدة الاتساخ و تبيّن لـ "النصر" لدى دخول بعضها بمساعدة الأولياء، توقف الصنابير و انكسار القنوات، ما أدى لتدفق المياه بشكل عشوائي و اختلاطها بالفضلات، في منظر يثير الاشمئزاز و يدفع للتساؤل عن مدى قدرة أطفال لا تتعدى أعمارهم 11 سنة، على تحمل كل ذلك.
من جهة أخرى، يطرح مدراء بعض المدارس إشكالية نقص الأمن، التي كانت، حسبهم، سببا في سرقة عدة تجهيزات نتيجة عدم توظيف حراس ليليين، كما يتهمون البلدية بـ "التقصير" في تزويد مؤسساتهم بالعتاد و التجهيزات اللازمة، و بعدم التدخل بالشكل الكافي للقيام بعمليات الصيانة، ما اضطر ببعضهم لـ "صرف الأموال من جيوبهم" و أحيانا للاستعانة بأولياء التلاميذ، متسائلين عن مصير الأموال التي تصرف سنويا على أنها مخصصة لصيانة المدارس، و لا يخفي المدراء رغبتهم في إلحاق المدارس بمديرية التربية، بعد أن لاحظوا "الهوة الكبيرة" بينهم و بين المتوسطات و الثانويات التي تحظى بامتيازات "أكبر بكثير".
 كما يشتكي بعض حراس المدارس من "ثقل" المهام الموكلة إليهم، رغم أنها ليست من صلاحياتهم، فقد يتحولون، حسب ما تقتضيه الظروف، إلى كهربائيين و منظفين و حتى لعمال ترصيص و بستانيين، لغياب عمال بلديين متخصصين في ذلك، عكس ما هو معمول به بالنسبة للمؤسسات التابعة لقطاع التربية.
"تراكم المشاكل و محدودية الميزانية زادا من متاعب البلدية"
و أقر مصدر مسؤول من بلدية قسنطينة، فضل عدم ذكر اسمه، أن مصالحه تواجه بالفعل صعوبات في التكفل بالمدارس الابتدائية، لأن الميزانيات التي ترصد لها "لا تكفي" لتغطية جميع النقائص المسجلة، ما يقتضي العمل "حسب الأولويات"، لكنه تحدث عن ضعف في التنسيق بين الأطراف المتدخلة في هذه الهياكل، فكثيرا ما يحدث أن تتدخل جهة لإصلاح خلل ما داخل مدرسة، لتكتشف أن العملية قد تمت من طرف مصلحة أخرى، و هو ما يؤثر على المؤسسات التربوية التي هي في أمس الحاجة لذلك، و يستوجب استحداث مؤسسة بلدية لتسيير المدارس.
و حمّل مصدرنا المسؤولية فيما يحصل لبعض مدراء الطور الابتدائي "غير المتحكمين" في عملهم، بحيث لا يحرصون، حسبه، على تبليغ البلدية عند كل مشكلة، ما يؤدي إلى تراكم النقائص بما يصعّب من حلها دفعة واحدة، رغم أن مصالح البلدية تتدخل "فورا" عقب تلقي أية شكوى من هؤلاء المدراء، و ذهب المسؤول إلى أبعد من ذلك بالحديث عن مدراء يعاملون الحراس كـ "خدم" و عن آخرين حولوا عاملات النظافة إلى سكريتيرات رغم أن ذلك ممنوع قانونا.                           
و يرى السيد بوهالي محمد مدير التربية بولاية قسنطينة، أن البلديات "مقصرة" ليس في صيانة المدارس و تجهيزها فحسب، بل حتى في الجانب البشري، بحيث سجلت مصالحه نقصا في اليد العاملة من حراس و منظفات، إلى درجة أن هناك مدارس لا تتوفر على حراس ليليين، بما يشكل خطرا كبيرا على العتاد و التجهيزات و حتى على التلاميذ أنفسهم، و قد دفع هذا الوضع بمديرية التربية، حسب المسؤول، إلى التدخل بـ "إمكانياتها المتوفرة" و في مواضع محددة، مع الحرص الدائم على توفير التدفئة.
وزيرة التربية الوطنية كانت صريحة في ردها مؤخرا على برلمانيين حول مطلب تسيير دائرتها الوزارية للمدارس، حيث قالت أن عمل مصالحها يقتصر على الجانب البيداغوجي، و بأن قانون البلدية الذي يحدد المسؤولية ما بين وزارتي الداخلية و التربية الوطنية "لا يسمح لها بالتدخل أكثر"، و أضافت بن غبريط أن "المحافظة على المدرسة ليست مسؤولية الإدارة وحدها"، لكنها وعدت بفتح ملف توظيف حراس المدارس، بعد اكتشاف حالات مسبوقين وظفوا بالتعاقد في إطار الشبكة الاجتماعية، كما تعهدت في إحدى زياراتها لقسنطينة، ردا على سؤال "النصر" حول إمكانية إلحاق المدارس بوزارة التربية، برفع اقتراح للداخلية باستحداث ديوان لما بين البلديات للخدمات المدرسية، يخضع للتسيير المباشر من طرف رؤساء الدوائر و ليس من دائرتها الوزارية.
نقابة "أسانتيو": إلحاق المدارس بوزارة التربية صار ضروريا
تؤكد النقابة الوطنية لعمال التربية ضرورة إلحاق المدارس بوزارة التربية الوطنية، باعتماد نظام المأمن، الذي يتمثل في تحويل المدرسة إلى ملحقة تخضع في تسييرها لإدارة الثانوية أو المتوسطة القريبة منها، و بالتالي لتسيير مباشر من مديريات التربية الوطنية، و هو حل سبق و عرضته النقابة على الوزارة، لكن هذه الأخيرة رفضته، لعدم وجود ثانويات و إكماليات بالأساس داخل المداشر و المناطق النائية.
و أكد السيد داود يزيد أمين وطني بالنقابة في اتصال بـ "النصر"، أن استمرار تبعية المدارس من ناحية التسيير للجماعات المحلية، سيطيل من معاناة التلاميذ داخل الابتدائيات، بسبب عجز البلديات عن صيانتها و حتى عن إنجازها في الآجال المطلوبة، حيث كثيرا ما تتحجج بأن الميزانيات غير كافية للتكفل بكل المدارس، ما يضطرها، كما أضاف، للعمل بمنطق الأولوية حسب درجة تضرر كل مؤسسة.
و يتخوف السيد داود من تأثيرات الأزمة الاقتصادية التي تشهدها البلاد على تلميذ الابتدائي، على اعتبار أن سياسية التقشف بدأت تفرض تخفيض الاعتمادات المالية الممنوحة للبلديات، ما يعني أن ما ستخصصه هذه الأخيرة للمدارس سينكمش هو الآخر، و بالتالي سيستمر التلميذ في الدراسة داخل أقسام تنعدم فيها التدفئة و لتناول وجبة غير كاملة، و هي كلها عوامل يرى محدثنا أنها تؤثر حتما على الشق البيداغوجي و تحيل، حسبه، إلى التساؤل عن مصير التلاميذ الذين يدرسون بمناطق نائية، تعرف في الأصل نقائص بالجملة.

الرجوع إلى الأعلى