منذ بدأت محاربة التصوف دخلت الثقافة العربية الإسلامية واللغة العربية في عصر الانحطاط

حاورتها/ نوّارة لحـرش

في هذا الحوار، تتحدث الشاعرة والكاتبة ربيعة جلطي عن كتابها الشعري الجديد «النبيّة تتجلى في وضح الليل»، الصادر مؤخرا عن منشورات الاختلاف/الجزائر، وضفاف/بيروت. كما تتحدث عن كتاب «الشاهد»، وهو عبارة عن رواية سيرة ذاتية للشاعر جمال عمراني، نقلتها من الفرنسية إلى العربية ونشرتها دار المعرفة بالجزائر.

«النبيّة»، مجموعتك الشعرية الجديدة الصادرة مؤخرا، جاءت بإهداء مختلف «إلى مكتبة والدي، حديقتي الأولى». كيف تستعدين وتستحضرين الآن علاقتك بمكتبة الوالد، ذكرياتك مع الكُتب والرفوف وشغف القراءة البِكر، ما الذي بقيّ من تلك الذاكرة البعيدة؟

ربيعة جلطي: نحن، مثل أوراق بيضاء نولد، وحالما يُسمَع صوتُ صرختنا الأولى، تتدافع الأقلام بمختلف الألوان والأشكال والأحجام نحونا،هاجمة علينا، كل واحد يريد أن يوقّعَ علينا صكّ ملكيته. حسَن الحظ منا مَن يصادف ورقتَه البيضاء قلم رزين حكيم عميق، ربما كان من حُسن حظي أنا الورقة البيضاء أن كان في انتظاري والدي «علي جلطي الزرهوني» مثقف ذو شموخ ومبادئ، رزين وطني حافظ للقرآن أستاذ مزدوج اللغة وعاشق للكُتب.فتحت عيني فوجدت في البيت مكتبة كانت بمثابة حديقة مازالت فتنتُها في روحي أكثر من حدائق اللوكسمبورغ أو حدائق سويسرا، في مكتبة أبي تعرفت على عطر الورق، عتيقه وحديثه، تسلقت أشجارا عالية في حديقة الأدب والتصوف وتعرفت على أهم  الشعراء والأدباء والمتصوفة ابن عربي والتوحيدي والجاحظ وليلى الأخييلية وابن زيدون  وأهم الكُتب بالعربية والفرنسية من «ألف ليلة وليلة» حتى «أزهار الشر» لشارل بودلير.. ولأننا عموما نبني أسوار حياتنا على أرض طفولتنا فإنني أشعر أنني مدينة لأبي ولحديقته. وقليل على حديقته ذات الأوراق الثمينة والزهور التي لا تذبل أبدا، قليل على هاته الحديقة الجميلة أن أهديها كتابي الجديد «النبية».

دور «النبيّة» في الديوان، يشبه دور شهرزاد، مع اختلاف أن شهرزاد تسرد الحكايات والنبيّة تقول الشعر، حتى وهي تسرد الحكايات، تفعل بشعرية، هل كانت النبيّة بديلة لشهرزاد؟

ربيعة جلطي:جميل التقاطك هذا. فعلا فـ»النبية» تروي بالسرد حالات شعرية وبالشعر تسرد القصص، النبية شهرزاد المعاصرة أكثر تعبا مما رأته شهرزاد ألف ليلة وليلة فهي تعيش في عصر أكثر إيلاما وأعمق جرحا، فضاؤها يتجاوز ما يحدث خلف ستائر الحريم إلى ما يقع في الأركان الأربعة للكرة الأرضية لأن النبية تعيش في عصر غريب يقتتل الناس فيه على المباشر، يموتون على المباشر من الجوع والظلم والإهمال والقمع، النبية تتقصى أمور البشر والحجر والشجر تتبع عينُها الكاشفةُ أدق التفاصيل وأعمق الأحاسيس وأصغر الأشياء التي يمر بقربها الناس دون أن تراها عيونهم أو تدق لها قلوبهم ذات الإيقاع السريع.النبية ابنة هذا العصر تروي بشعرية ما يحدث فيه. النبية حفيدة شهرزاد لكن لسانها غير لسان شهرزاد وهوسها غير هوس شهرزاد بغداد.

جمال عمراني  كتب سيرته دون ادعاء البطولة

الديوان جاء على شكل قصيدة واحدة، لكن بمقاطع مختلفة ومنسابة في آن، ما رأيك؟ ولماذا اشتغلت على نص واحد وبنفس واحد؟

ربيعة جلطي:لعل طبيعة الحدث فرضت شكلها الجمالي المتمثل في مجيء النبية ولقائها بالناس، وأيضا تعدد الأصوات الجماعية والأصوات النسائية والرجالية على شكل كورال، تطرح أسئلتها الوجودية. ذلك ما تطلب تصاعد الحالة العامة مثل السلم الموسيقي، فمنذ وصول النبية ونزولها من على مركبتها البحرية التي ترفعها أربع نجمات، ومن ثم تلتقي النبية بالناس ويحدث نقاش حار وحاد ويحدث انسياب صوت النبية بالقول وكأنها في حالة استثنائية، إلى أن تودعهم ثم تعود النبية إلى المركبة ثم تغيب.كأن كِتاب النبية هو كِتاب السفر الصعب السفر قطعة العذاب في عصرنا.في كِتاب النبية كنت بين الرواية والشعر بين السرد وموسيقى المفردة.

نفحات صوفية في مقاطع «النبيّة»، حتى العنوان يحيل إلى صوفيّة ما، ما قولك؟

ربيعة جلطي: أعترف بحقيقة ما قاله النقاد في وجود الحس الصوفي في أشعاري منذ كتابي الأول المنشور في الثمانينات. ربما ذلك نتيجة تكويني وطبيعتي. الصوفية ليست حالة ذاتية فقط إنها حالة ثقافية أيضا، فالكاتب هو من يستطيع استشراف ما هو آت، الكاتب الحقيقي هو الذي يقول ما لا يقوله الآخرون. ما لا يقدرون على قوله لأسباب متعددة، والتصوف يسمح لنا بالذهاب في القول إلى الأبعد على المستوى الذات كما على المستوى العام. أعتقد شخصيا بأن التصوف كان هو المنقذ الحقيقي للثقافة العربية والإسلامية، للأسف فقد تم اغتصاب هذه الثقافة من قبل المعرفة الخارجية والمعرفة الظاهرانية التي تتعامل مع الطارئ ولا تقرأ العمق، ومنذ أن بدأت محاربة الثقافة التصوفية دخلت الثقافة العربية الإسلامية بما فيها اللغة العربية في عصر الانحطاط المستمر حتى الآن.

كثير من السرد في «النبيّة»، هذا يعني أن السرد قد أغواك حتى في حضرة الشعر، هل كنتِ واعية لكمية السرد التي كانت في ديوانك الجديد؟

ربيعة جلطي: كِتاب «النبية»تأويه شخوص عديدة ومختلفة مثلما يحدث على خشبة المسرح، فمن البديهي أن يتحدث الجميع بمستويات لغوية وجمالية مختلفة ومتباينة، نجد في الكِتاب الجملة الشعرية الأنيقة ذات الظلال الصوفية تؤاخي السؤال السردي الواضح. ونقرأ القصيدة العميقة التي لا تسلّم خواتمها بسهولة أمام صرخة وجيعة بلغة واضحة.
كتبت النبية كما تكتب أوبرا غنائية، فيها حكاية وفيها موسيقى ولكني اشتغلت أكثر على قوة الكلمة التي تمنح النص اقتصادا في الكلام وتمنحه أيضا تواترا في السرد وشهية في الحكاية. كتبت النبية وأنا أستمع إلى سمفونية بحيرة البجع، كتبت النبية تحت تأثير أوبرا عايدة التي شاهدتها أكثر من عشر مرات.

إذن أنت مدينة لبحيرة البجع ولأوبرا عايدة، وفي حال الرواية، هل يمكن لبحيرة البجع مثلا أن تشكل مناخا مساعدا للكتابة؟

ربيعة جلطي:الكتابة عندي الروائية منها والشعرية لا تنبع إلا من معايشة اجتماعية ووجدانية حقيقية يفور لها دمك أو دمعك، أما المعارف والتجارب والمشاعر التي يكتنزها العقل وتتخمر في الحواس من خلال القراءة أو السفر أو المشاهدة أو السماع، فهي تجعل المبدع في رأيي أكثر فهمًا وإدراكا لما يدور حوله،بينه وبين حبيبه أو في شارعه أووطنه أوقارته أوفي العالم أو الكون.فحينماحضرتُ»بحيرة البجع» بالأوبرا بباريس منذ فترة لم يكن الجمال المهيب بكل منابعه وحده الذي أسرني، ولكن شخصيةالساحر الشرير الذي يكره الحب والذي تسبب حقده في النهاية الدرامية للعاشقين كما تخيلها تشايكوفسكي وكما تخيلها آخرون بعده جعلتني أفكر في السحرة الأشرارالذين عندنا، سحَرتُنا نحن لا يحولون الشعوب إلى بجع راقص في النهار وإلى بشر في الليل،ولكن إلى شياطين تقتل بَعضها بعضا في الليل والنهار، وفي فتن ترقق بعضها بعضا.الشخصية الشعرية «النبية» تحدث الناس عن فلسفة الحب فتحاول من خلال المشاهد المركزة التي تلتقطها عن الواقع وتلونها أن يتغلغل صوتها ونور عينيها إلى قلوب المستمعين لها فتضيؤها.

أيضا، كأنك أردت أن يكون هذا الديوان، مناسبة لاشتباك الشعر بالسرد، أو فرصة للتوأمة بينهما؟

ربيعة جلطي: السرد في كِتاب النبية مؤثث للشعر. الرواية لا تكون مشهية إلا إذا نهضت من رحم الشعر والشعر لن يكون مدهشا إلا إذا حمل في خطابه حكاية الكون بكل غموضه وبكل سحره، فكما  نحتاج في الرواية أحيانا للحالة الشعرية كي تسند السرد وتلون الحكاية فإن الشعر أيضا يحتاج لممرات سردية، ففي كِتاب النبية يمثل السرد جسورا صغيرة تربط بين المراحل المختلفة.أسرّإليك أنني أحب الشعر اليوناني كثيرا، فالملاحم التي تحكي ما لا ينسى حملها الشعر، الشعر الذي كتب الإلياذة قادر أن يكتب السرد على طريقته الخاصة، والنبية هي من سلالات شعر الإلياذة في علاقته بالسرد والحكاية والتاريخ والإنسان.

«النبيّة» تستعرض ما يحدث في الوطن العربي، كما تحكي عن الإنسان وأحلامه وخيباته وآماله العالقة في حلقه، وفي أفقه المسدود، هل ترين أن للشعر من دور يمكن أن يلعبه في حياة الفرد وحتى الشعوب؟

ربيعة جلطي: إن الشعر هو أساس الفنون جميعها ومنها فنون القول. الشعر غائب في حياتنا مع الأسف. إنه المصل السحري ضد كل ما نعيشه في زمننا من كراهية وحقد وعنف وفراغ عاطفي. هؤلاء الذين يزرعون الموت والكراهية في كل شيء وفي كل مكان لم يجعلهم أحديتعلمون الشعر ويقرأونه ويحفظونه ويفهمون مراميه وأسراره وظلاله، لذلك فليس سرا أن يكبروا بقلوب جافة بلا رحمة ولا خفقان، ونفوس مريضة عنيفة بلا جمال، كارهة للبشر والحجر والشجر والمخلوقات جميعا. دور الأولياء والمدارس والمؤسسات التربوية الحكومية والخاصة أن تُعلم الصغار الشعر،لأن الشعر صنو الحب وصون الحرية، الشعر المقروء والمسموع والمرئي، الشعر الذي بين دفات الكُتب وعلى خشبات المسارح وفي قاعات السينما وفي معارض اللوحات وفي الحقول والجبال، الشعر الذي يسكن العين والقلب فيمتلئ كون الرائي بالضوء والجمال والحب واحترام الآخر وقبول اختياراته المختلفة.نعم الشعر ينقصنا، ينقص البشرٓالشعرُ،منلايحبالشعرلايحبالشعب.

أيضا صدر لك كِتاب «الشاهد»، وهو ترجمة من الفرنسية إلى العربية، لرواية سيرة ذاتية للشاعر جمال عمراني، ما الذي شدك لترجمته؟

ربيعة جلطي:صدرت ترجمتي للرواية السيرذاتية للشاعر والروائي والمناضل الجزائري جمال عمراني بعنوان «الشاهد» شدني صدقه وتواضعه وهو يتحدث عن تجربته، لم يؤلّه نفسه ولم يدّع البطولات بكل أنواعها، فقط وصف ذاك الفتى اليافع الذي كانه وهو يمد خطوته نحو الحياة فإذا به يجد نفسه في مواجهة آلة الاستعمار الطاحنة. ولأنه يتوق للحرية وينشدها فقد وقف مع قضية شعبه.فعلى الرغم من المآسي التي عاشها هو وعاشتها عائلته أثناء الثورة ضد الاستعمار إلا أنه في اعترافه كشرط للرواية السيرذاتية قال إن ما حدث من تعذيب وسجن وقتل وتهجير لم يحدث له ولعائلته فقط بل لكثير من العائلات الجزائريات.هذه الرواية أثرت في كثيرا كانت مركزة جدا بحيث أن جمال عمراني قال ما قل ودل، ماكان يمكن لغيره أن يرويه في مئات الصفحات.تشعر أن  الجملة في «الشاهد» لجمال عمراني لها قيمتها التاريخية والنفسية والجمالية والنضالية، «الشاهد» رواية كاتب معطوب نفسيا، على الجزائريين قراءتها وكذلك الأمر على جميع المدافعين على الحرية وإنسانية الإنسان وكرامته، إنها رواية الفرد العاري أمام قوة لا تقهر.

الكتابة عندي لا تنبع من معايشة اجتماعية

كيف اقتربتِ من عوالمه، ماذا أضافت لك، وأي أثر تركته فيك؟

ربيعة جلطي: تألمت كثيرا وأنا أترجم رواية «الشاهد»، أحيانا كنت أتوقف فترة لما فيها من مواقف عنيفة ومحزنة، الذي يجعل الحدث أكثر تأثيرا هو أنك تعرفين أن الحدث ليس من نسيج الخيال وإنما من حياة هذا الذي يقص عليك معاناة عائلة واجهت الاستعمار وتشتتها بين السجن والقتل تحت التعذيب والهجرة، وأنت تقرئين رواية جمال عمراني تؤثر فيك العفوية والشفافية بحيث أنه لا يختار الإيجابيات فقط بل إنه يقول كل شيء حتى الأخطاء فتشعر أن سيرته الذاتية تتنفس الصدق فتشعر أنه بذلك وربما دون قصد مباشر فهو يساهم في كتابة تاريخ وطنه وشعبه دون ادعاء، أنها كتابة الصدق، والصدق لا يكتبه إلا جريء وجمال عمراني كان مثقفا جريئا.

قلتِ: «على كل من ينوي كتابة سيرته الذاتية أن يقرأ هذه الرواية الجريئة»، أين تكمن جرأتها تحديدا، وأكثر ما شدك في تفاصيلها؟

ربيعة جلطي: كتابة السيرة الذاتية تتطلب الصدق والجرأة، غالبية من كتبوا سيرهم الذاتية قدموا أنفسهم كأبطال خرافيين أو كملائكة، الكتابة السيروية عند العرب هي كتابة متطهرة وطهرانية، لذا ليست لنا سيرة ذاتية حتى الآن، لنا مذكرات وهناك فرق ما بين السيرة الذاتية والمذكرات.

أيضا،صدرت لك مؤخرا رواية «الذروة» عن دار الحكمة بالجزائر، بعد طبعتها الأولى التي صدرت عن دار الآداب ببيروت في2010، ماذا تقولين وأنت تحتفلين في نفس الوقت بالشعر «النبية» والرواية «الذروة» والترجمة «الشاهد»؟

ربيعة جلطي:أولا بكثير من الاعتزاز قدمت كتابي الشعري «النبية» لقرائي،ولأنني أحترم ذوق قرائي فقد أحبوه بدورهم ومازلت كل يوم أستقبل الرسائل منهم عبر وسائط الاتصال الحديثة وغير الحديثة يعبرون عن بهجتهم بما وجدوه فيه من المستجدات الجمالية والفكرية وكثيرا ما يدور حوار حول المنحى الفلسفي لبعض النصوص في الكِتاب وعن الشخصية المركزية «النبية» وإمكانية انتقال الكِتاب إلى خشبة المسرح.
ثانيا أسعدني أن القراء والباحثين والطلبة في الجزائر الذين كانوا يبحثون بشق الأنفس عن رواية «الذروة» الصادرة سنة 2010 ببيروت عن الآداب، ودار ويدور حولها حديث متشعب، أصبح اقتناؤها سهلا في مكتبات الجزائر من خلال دار الحكمة التي أعادت طباعتها بأناقة.
ثالثا بالنسبة لترجمتي من الفرنسية إلى العربية. للرواية السيرذاتية «الشاهد» لجمال عمراني الشاعر الجزائري والروائي والمناضل الثقافي فإنها حدث أعتز به جدا، وإنه تمرين في الإيثار الثقافي والأدبي لتقديم الآخر على النفس، خاصة وأن هذا الآخر هو جمال عمراني كاتب جزائري كبير،ولقد أسبقتُ الترجمة بدراسة أكاديمية عن الرواية شملها الكِتاب. ولأنني كائن لا يعيش إلا في مياه اللغة، فإن الشعر كما الرواية كما الترجمة، محيطات هادرة قابلة لحياة ذات المعنى.

الرجوع إلى الأعلى