الصادق جون ماسبيف، طبيب فرنسي انحاز للقضية الجزائرية
يجهل الكثيرون سيرة جون ماسبيف الطبيب الفرنسي الذي تبنى الثورة التحريرية و ناهض نظام بلده الاستعماري، و سجن لأجل ذلك طيلة سنوات، لكن إيمانه بعدالة القضية الجزائرية، جعله يفضل الانضمام إلى صفوف المجاهدين، كما رفض مغادرة التراب الجزائري بعد الاستقلال، حبا و حرصا على مواصلة النضال، لكن هذه المرة لأجل المنظومة الصحية و بشكل خاص في مجال طب العمل و الضمان الاجتماعي.
جون ماسبيف الفرنسي (1908-1985) الذي أطلق اسمه أمس على قاعة المحاضرات بالصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وكالة قسنطينة، تخليدا لروحه، كأب مؤسس للضمان الاجتماعي في الجزائر، و الذي نظم حوله أول يوم علمي و طبي بمدينة الجسر العتيق بحضور طلبته و أصدقائه الذين قدموا شهادات حية عن شخصه، امتنانا لجهوده و تضحياته الكثيرة، هو الذي اختار الجزائر بلدا و قضية، و كافح لتحررّها و سجن لأجلها، و واصل نضاله حتى بعد الاستقلال، لكن هذه المرة من أجل بناء منظومة صحية تلائم تضحيات شعب عانى ويلات الاستعمار  طيلة أكثر من قرن.
الرجل الذي اختار مناهضة نظام بلده المستبد، ولد بمنطقة "لاروشيل"أين درس إلى غاية 1921،سنة مجيئه إلى الجزائر، أين التحق بالمتوسطة الاستعمارية بالبليدة، ثم ثانوية بيغو بالعاصمة التي واصل بها دراساته العليا في مجال الطب إلى غاية 1933، السنة التي استدعي فيه لواجب الخدمة العسكرية بمدينة ليون الفرنسية، قبل عودته إلى الجزائر في سنة 1935 لتقديم رسالة تخرجه في الطب و التي تناول فيها محور" الطب و المرأة بشرق البحر المتوّسط العتيق"، مقتحما بفضلها غمار الاحترافية كطبيب خاص بولاية تنس، أين اشتدت رابطة الصداقة و الألفة بينه و بين الجزائريين، و عايش عن قرب معاناتهم من وحشية الاستعمار، فتبنى القضية الجزائرية منذ البداية، برفضه الانخراط في كتيبة المحاربين الفرنسيين عام1940، فتم استبعاده إلى منطقة ورقلة.
الفرنسي اختار النضال في صفوف الجزائريين
الصادق ماسبيف الذي انخرط في الحركة التحررية الجزائرية، و ساهم في نقل الأسلحة سرا، تم القبض عليه عام 1956 و سجن بقصر البوخاري، قبل تحويله إلى سجن البليدة، ثم الأصنام، إلى غاية محاكمته في السنة الموالية بالمحكمة العسكرية، أين صدر في حقه حكما بالسجن و الأعمال الشاقة لمدة 20 سنة، حيث تم تحويله من سجن الحراش، نحو سجن بوميت بمارسيليا، فسجن كازابيوندا بكوريسكا، إلى غاية إطلاق سراحه عام 1962، حيث لم يتأخر عن زيارة الجزائر من جديد، بعد أشهر قليلة من استنشاقه هواء الحرية، حيث عاد في شهر جوان، أين تم تعيينه كطبيب بالنيابة  بمركز صحي بمنطقة أريس، قضى فيه 13شهرا، تمكن خلالها من تأسيس مدرسة لمساعدي الممرضين، قبل أن يتم تنصيبه كمدير مقاطعة للصحة بقسنطينة في جويلية 1963.
الطبيب المثابر مثل الجزائر في الملتقى الدولي المنظم من قبل منظمة الصحة العالمية عام 1964 بالاتحاد السوفياتي.
ماسبيف الذي اختار قسنطينة لإقامة دائمة له و لأسرته الصغيرة منذ 1965 بعد تنصيبه كطبيب استشاري بالضمان الاجتماعي، عمل كل ما في وسعه لترسيخ أخلاقيات مهنة طب العمل و الضمان الاجتماعي، معتبرا ذلك واجبا عليه أن يؤديه، و لا يزال طلبته يتذكرون إلى اليوم، مقولته" من قام بواجبه، يجب ألا يعتبر نفسه مضحيا"، إشارة إلى وجوب أداء الواجب على أحسن وجه و بإتقان.
الحديث عن مسيرة الرجل تتطلّب صفحات و صفحات حول انجازاته و نشاطاته العديدة ، لأجل النهوض بالمنظومة الصحية التي كتب عنها الكثير و دوّن بشأنها العديد من الملاحظات المهمة التي كانت بمثابة منارة اهتدى بها من حملوا المشعل بعده في مجال طب العمل و الضمان الاجتماعي.
الطبيب و الأستاذ الذي كرّس وقته لتعليم أجيال من الأطباء  بكلية الطب بقسنطينة، تخصص طب العمل منذ سنة 1971 ، لم يتخل عن أبحاثه و إصدار مؤلفات علمية و طبية ساهمت بشكل كبير في تجسيد مشروع فتح قسم طب العمل عام 1975 ثم الطب الاجتماعي، قبل أن يشتد عليه المرض و تضطر إحدى بناته لنقله إلى فرنسا لأجل العلاج، بعد معاناته من داء السرطان، لكنه فضل العودة إلى أرضه و أهله الذين اختار دينهم الإسلامي دينا له، و يموت و يدفن في الأرض التي اختار أن تكون مثواه الأخير بمقبرة المسلمين، أين يرقد بسلام، و قد عبقت سيرته بتضحيات، ستبقى منقوشة في ذاكرة الجزائريين إلى الأبد.
شهادات مشرفة عن الأب المؤسس للضمان الاجتماعي
بقدر إخلاصه في نقل الحقائق و ملاحظاته المهمة و الجادة في مجال عمله، و كذا عما عايشه خلال الثورة التحريرية، بقدر إخلاص طلبته و أصدقائه لذاكرته، حيث ذكر بعض طلبته و أصدقائه من الأطباء المعروفين بقسنطينة خصاله و قدموا شهادات مشرّفة عنه، كالبروفيسور زغيلش، رئيس الأطباء بمصلحة علم الأوبئة و الطب الوقائي بالمستشفى الجامعي ابن باديس، الذي قال "أدركت مع الوقت، بأن الرجل، كان مفكرا و حثنا على التفكير في بلدنا".
و من جهته عبّر البروفيسور حداد عن تأثره بماسبيف، بالقول "الوقاية لا يمكنها التكيّف مع "البريكولاج"و الارتجال، و إلا دفعنا ثمن ذلك غاليا في ما بعد".
البروفيسور عواطي هو الآخر أثنى كثيرا على الرجل و وصفه بالجدي و الصارم و العادل في آن واحد.
و نفس الشيء تقريبا أشار إليه البروفيسور أبركان الذي ذكر بمقولته الشهيرة "من قدم واجبا يجب ألا  يعتبر نفسه مضحيا"، مشيرا إلى سر تمسكه بإطلاق اسم ماسبيف على المركز  الصحي البلدي بالخروب.
 و كان الطبيب الراحل قد كرّس الوقت الكافي لنقل شهادات حية و ووقائع عايشها بنفسه طيلة إقامته بالجزائر و نضاله في صفوف الجزائريين، و من بينها لقائه بمانديلا الجزائر: "سي محمد سعيد مازوزي" الذي قضى 17سنة وراء القضبان و الذي كتب عنه بإسهاب في مذكراته الخاصة.
للإشارة تم عرض فيلم عن الطبيب الراحل تضمن شهادات حية لابنته آمال و بعض من عرفوه، بالإضافة إلى تلخيص لأهم المحطات في حياة الرجل و بشكل خاص نشاطه النضالي و المهني.                              

مريم.ب

الرجوع إلى الأعلى