أدونيــــس و العنف و الآغـــادُ المُدَندِنـــة..

العزيز أحمد ..تحية وسلام..
   مرّةً أخرى كنتُ سعيدا جدا بأن آثرتني قبل الجميع  بمقالك الهام الذي يحمل رؤيتك فيما كتبه الشاعر و المفكر أدونيس في كتابه الأخير (العنف و الإسلام).. و قد كنتُ خلال صدور الكتاب متزامنا مع ما جرى في فرنسا و الغرب عموما من أحداث لصيقة بما يحفزها من أفكار متمركزة تجد طريقها إلى التنفيذ عموما نظرا للتهيئة الخفية التي تتم عن طريق النقاش الحاد المُسهَّل وصوله عن طريق وسائل الاتصال المعاصر،..أقول ..كنت قد استمعت باهتمام كبير إلى أدونيس في هذا الجوّ المشحون و هو يعرض كتابه و يدافع عن رؤيته في أحدى الحصص الثقافية الكبرى في التلفزة الفرنسية.. و ما لاحظته هو ما يمكن أن يلمسه القارئ المتمعن العارف بالثقافة الأدونيسية من فارق بين رؤية أدونيس للعلاقة بين الإسلام و العنف وبين رؤية المثقفين الغربيين الحاضرين. و كان الأمر يبدو غريبا و متناقضا فعلا بالنظر إلى الزاوية التي ننظر منها نحن الشرقيين إلى مقولات أدونيس من جهة، و إلى الزاوية التي ينظر منها المثقفون الغربيون لأدونيس و هو يشرح الذات الشرقية المسلمة التي هي ذاته بطريقة تبدو مختلفةً عمّا يحمله هؤلاء المثقفون الغربيون من قيم معيارية عن الشرق المسلم لا يمكن لأي عبقريّ ينتمي إلى هذا الشرق أن يستوعبها حتى و لو كان أدونيس نفسه. حتى  بدا لي أن أفكار أدونيس المفعمة بالجرأة و التحدي و الاقتناع المنهجي بالحداثة الغربية الممتد على مدى أكثر من نصف قرن و الذي كان يمارسه بكل ساديّة و نرجسية على الثقافة العربية و على ثقفيها المختلفين حوله بين مدافع و معارض، لم يكن لها أيّ صدى في هذا الحوار و لا لأفكار كتابه الصادر في غمرة ما كان يجري في الغرب من انفعال كبير جراء ما أصاب الغرب من هزّات متعددة منذ مطلع هذا القرن الذي قال عنه أحد أهم مفكريه إنه «إما أن يكون دينيا أو لا يكون..».
   و لعله لذلك، و على غرار كون كتاب أدونيس قد يكون عبارة عن تسجيل موقف مثقف عربيّ علمانيّ ممّا جرى في بلد يعيش فيه منذ مدة طويلة، فإن أفكاره لم تكن لتشكّل أيّ ثقل معرفيّ وازن أو إضافة مرجعية جديدة في ميزان ما كان مفكرو الغرب يرددونه باقتناع كبير من مسلمات أضحت معروفة من ألفها إلى يائها كلما تهيأت ظروف إعادتها إلى الواجهة و تحيين إحداثياتها بسبب الاصطدام الذي عادة ما يكون مبرمجا بين قاطرة الغرب، الأكثر حداثة، المنطلقة من العدم   و المتوجهة إلى المستقبل، و قاطرة الشرق المسلم، الأكثر قدما، المنطلقة من الماضي و المتوجهة إلى العدم.
°°° °°°
   ففي حين يغفل الغرب عن خصوصية النسغ التي تحرك المسار الفكري للإنسان الشرقي و هو يصوغ وجهة نظره عمّا ينتجه واقعه من انزياحات عنفية، نجد أن أدونيس يدرج هذا النسغ في رؤيته المبنية على المعانية الواقعية التي يحتّمها الانتماء الجسدي للشرق المسلم المُنتِج للعنف بوصفه آلية دفاع عمّا يتهدّد الذات الشرقية من مخاطر عند البعض، و بوصفه آلية استغاثة للذات الشرقية عمّا يعتريها من تمزيق ممنهج من طرف الغرب نفسه عند البعض الآخر.
   و لعل في هذا الفارق ما يجعل أدونيس أقلّ حدّة في الوقوف ضد الشرق المسلم بوصفه مُنتِجًا للعنف من وجهة الغرب، وما يجعله في الوقت نفسه أكثر حدّة في الهجوم على الشرق المسلم في ما يعتبره مؤسسة دينية متمركزة إيديولوجيًّا لم يعد حراكُها الاجتماعي متزامنا مع ما تقدمه الحداثة الإنسانية من فتوحات تتجاوز الطرح المغلق الذي تعوّدت عليه الشعوب الشرقية الرافضة لكل محاولة تواصلٍ مع الآخر داخل الكينونة الإنسانية الجامعة. و لعل هذا كذلك ما يجعل أدونيس في وضعية المنزلة بين المنزلتين في موقفه العام الذي يدعو له منذ أكثر من نصف قرن من الزمن الحداثي المتروك جانبا من طرف من يعتبرهم مُعيقي حركة الاندراج في التاريخ و هم ممثلو التيارات المحافظة سواء في العالم الإسلامي أو العالم الغربيّ بمختلف أشكالها حتى و إن تلبست هذه الحركات بما يشبه الأقنعة الحداثية المزيفة.
   لم يكن لشاعرٍ و مفكرٍ مثل أدونيس ألا يكون غير متحسّس لمقدار الخطر الداهم على الغرب بوصفه بيتا للحداثة كما يعايشها يوميا و هو يتماهى مع اللحظة الغربية الحساسة المصابة في بؤرة نرجسيتها المتعالية و الراغبة كعادتها في انقضاضٍ أعنف من العنف نفسه في الثأر لأناها المتضخمة  بدكِّ معاقل الفكرة المُولّْدة للعنف بوصفه ردّة فعل إيديولوجية متمركزة هي الأخرى على ما تعانيه الذات الشرقية من استلاب ليس أقل منه التخلف و الجهل والانقياد المزروع في أعضاء ذات مترهلة لم تترك لها الأنظمة الدكتاتورية التي أنتجتها الدولة المابعدكولونيلية المنتهية الصلاحية بفعل الفشل الذّريع في فهم العصر و في فهم آليات الاندراج فيه أية فرصة لإيجاد طرق كفيلة بحفظ الذات من أي تمزق حداثيّ بإمكانه أن يعيدها إلى أخطر مما كانت عليه و هي ترزح تحت نير الاستعمار.
°°° °°°
   لقد حاول أدونيس أن يقول في نهاية الأمر إن الغرب نفسه كثيرا ما كان مشاركا بطريقة       أو بأخرى في صناعة هذا العنف عن طريق تهيئة الظروف التاريخية التي تنتجه عن طريق التواطؤ مع أنظمة دكتاتورية هشّة لم يكن هدفها غير البقاء في السلطة و ممارسة التلفيقية التي هي جدار عازل بين الإنسان الشرقي و بين التحديث الكفيل بنزع الغطاء التقديسي عن المأثورات الدينية بوصفها مغلقاتٍ ضد تنويرية و قلاعا حصينة فارغة من حراسها الحقيقيين. و هذه فكرة لا يخالفه فيها أحد نظرا لصحتها نظريا و واقعيا. لقد أنتج الغرب في نظر أدونيس حُرّاسا شِدادا غِلاظا لهذه القلاع ما انفكوا يقفون حجر عثرة في وجه كلّ المشاريع التنويرية التي حاولت أن تواجه واقع الإنسان الشرقي المسلم بوضع تناقضاته التاريخية و الاجتماعية في ميزان العصر الذي لا يزن بغير قيراط العقل و العلم و العمل. و لعلها القيم الغائبة تماما عن واقع الإنسان الشرقي، و عن وعيه، و ربما عن لاوعيه كذلك.
   إن أدونيس، في هذه الحالة، يحاول أن يسجل هدفا في مرمى الممارسة الثقافية الغربية المتناقضة مع نفسها في مواجهة نفسها بالأسئلة الحقيقية التي لا تريد أن تجيب عنها في علاقتها مع الشرق المسلم و مع الإسلام خاصة نظرا لغلبة المنطق المصلحي البرغماتي على المنطق التنويري الطلائعيّ الذي يطبع مواقف العديد من مثقفي الغرب الإنسانيين. لكن هل يصب هذا الهدف في مصلحة الإنسان الشرقي المسلم أم في مصلحة رؤية أدونيس الحداثية التي ما انفك يرددها منذ أكثر من نصف قرن من الزمن؟ و هل كان أدونيس فعلا يدافع عن الذات الشرقية المسلمة التي ينتمي إليها تاريخيا و جسديا، و هو يضع الإسلام بوصفه دينا سماويا يؤطر المرجعيات الروحية و الهوياتية لأكثر من ملياري مسلم موزعين على قارات الأرض الخمس بما يحملونه من خصوصيات و من تناقضات و من تواريخ مشتركة و غير مشتركة، في مواجهة ظاهرة وجودية هي العنف تتعدى مفاهيم الارتباط بالزمان و بالمكان و بالأعراق لتصبح خاصيّة إنسانية محضة مرتبطة بالذات الإنسانية و هي تواجه معوقات الوجود و تسقط في الأغلال الشيطانية و في أدران ما تنتجه من تبعات متخذةً لذلك أقنعةً  و أساليبَ و طرائقَ متجددةً بتجدّد الأحقاب و الأنظمة و متماهيةً معها تماهيا مصلحيا؟ أم أن أدونيس كان يدافع، في نهاية الأمر، عن وجهة نظره حول الدين و دوره في بناء مجتمعات متخلفة لا تنتج في نظره غير العنف الذي يجب الرجوع إلى تفكيك حقيقته و فهمها بالرجوع إلى نزع قناع القدسية الدينية عن وجه الإنسان الشرقي المسلم و وضع مكتنزاته الروحية تحت مجهر التاريخانية من أجل استجلاء ما يكتنف الذات الشرقية من عنف مضمر و تحييده، من ثمّة، عن واقع الإنسان المسلم لكي يستطيع الدخول في آنية العصر بما هي حداثة لحظية يومية لا يهمّها النظر إلى الوراء، أو الرجوع إلى الماضي، أو التغني بأمجاد الآباء و الأجداد؟
    و لعل في بعض هذا ما يمكن استخلاصه من محاولة أدونيس ربط العنف بالإسلام من خلال محاولته التركيز على فكرة الدين بوصفها المُثَوِّرَ الحقيقي لكلّ سلفية تدميرية تختفي بموجبها كل عقلانية بناءة، و المثبط الحقيقي لكل عقلانية أندلسية تنفتح بموجبها كل السلفيات النصيّة الحَرْفية على الآغاد المُدندِنة.
°°° °°°
  لقد أغفل العديد من رواد الحداثة التنويريين العرب خاصّة، و منهم أدونيس بالذات، حلقةً هامةً وخطيرةً من مسار تحقيق الحداثة المتنوّرة في واقع الإنسان الغربي  حين رجوعهم إلى عصر التنوير الغربي بوصفه سبيلا وحيدا للخلاص من التخلف و الدخول في عصر الحداثة لأنه الأنموذج التطبيقي الوحيد الذي لا يزال يمدّنا بصلاحية منهجه في الديمومة الحداثية من خلال قدرته على ضمان استمراره في الزمن و سيرورته في الذوات المتشظية لأفراده إلى اليوم.  غير أن الحداثيين العرب ينسون أو يتناسون في الوقت نفسه أن ما أنتجه عصر التنوير- و لا أتحدث هنا عن عصر الانحطاط القروسطي الغربي- من عنف خلال قرونه الطويلة و المريرة (16-19)التي تم من خلالها وضع اليد التنويرية على الذات الغربية بكل ما تحمله من تاريخ لا يمكن أن يضاهيه بأية حال من الأحوال ما يحدث اليوم من عنف يراد له أن يُلصق بصفة جذرية ونهائية بدين واحد هو الإسلام، و بإنسان واحد هو المسلم، و بذات واحدة هي الذات الشرقية التي تنتج اليوم، كما الأمس و قبلهما، من التخلف بقدر ما تنتج من العنف، و من اليأس يقدر ما تنتج من الأمل.
   لقد تحقّقت الحداثة الغربية على أعتاب أزمنة كاملة من الآلام المكتومة للشعوب الغربية المصطلية بنيران القهر و الاستغلال و الظلم و «الحقرة» و هضم الحقوق و لجم الحريات و محق الهويات        و قتل المختلف و التنكيل بالغريب. و كلّ ذلك بما كان يحمله السيف التنويريّ من سلطان نافذ في يدّ بورجوازية متوحشة وُلدت من بين ظهرانيّ إقطاعيّة متورّمة بسوط الاسنغلال و أرسطوقراطية متعجرفة كانت تُعجَبُ بفخامة كاتدرائيات و قصور القرون الوسطى و تأمر اليد الحديدية المتألّهة بمحق من بناها من عمال الطبقات المسحوقة حدّ الغبار تحت وطأة سوط رأسمالِ و سلطة الممالك المتقاتلة فيما بينها تارة، والمتحالفة فيما بينها تارة أخرى في عصر التنوير الحامل لمقولات كوبيرنيك و فولتير و غاليليو و ديكارت و غيرهم أكثر مما كانت عليه في عصر الانحطاط ، ممّا أدّى إلى سطوة المرجعيات العقلانية المتعالية التي لم تترك للذات الغربية المحتقرة أيّ منفذ لأي نفَسٍ مكظوم. ناهيك عن عنف الحروب الممتد على مدى قرون طويلة من زمن التنوير الذي نتوق نحن الشرقيين إلى الرجوع إليه، و الذي ولّده الاستعمار الغربي الناشئ من فائض قيمة ما أنتجه التصنيع المتسارع للثورة الصناعية من تراكم مهّد في نهاية الأمر لاختفاء مفهوم أساسيّ لم يغادر الذات الغربية منذ العصر اليوناني، وهو مفهوم الشعوب بما هي حراك تاريخيّ صانع للمستقبل ممّا أدى إلى اختفاء إمكانية ثورتها على الأنظمة و دخولها النهائي في منطق « ميتافيزيقا الجلاد»  التي أدت إلى تكميم قدرات الشعوب الغربية في الثورة على واقعها تحت طائلة المقولة التنويرية المصبوغة بالتعالي العرقي و بالتميز الحضاري التي  لا يزال الغرب المتسلّط يتخذها مطيّةً لتحقيق أهدافه إلى اليوم.
    و لقد تمّ نقل هذا المفهوم من الغرب إلى الشرق عن طريق التوسيع من رقعة الجغرافيا بوصفها سندا وجوديا للمركزية الغربية لبسط نفوذها الفلسفي و المعرفي و الحضاري على العالم كلّه. و لم يعد التاريخ، من يومها، إلاّ أداةً هشّة و مزيّفة في يد الأوليغارشيا المتنورة تصنعه كيفما تشاء وفق نظرتها المتعالية و تكتبه وفق ما تشاء حسب متطلباتها المصلحية. لقد تمّ تحييد الشعوب التي تحولت بناءً على كل ذلك إلى آلة مُنتِجة تارَةً في مصنع الرأسمالية المُستغِل، و تارةً في مصنع الاشتراكية المُستغَلّ، و تارةً أخرى في مصنع التعليب العولميّ و في علب التركيب عن بعدٍ لحداثةِ الـ»سامبول» المحروسة تحت غطاء الاستثمار المُربح في المستعمرات القديمة.
°°°°  °°°°
    لا أخفيك صديقي العزيز أحمد أنه ليحزنني حقّا أن يتبدى لي – و أتمنى أن أكون مخطئا- هذا الفاصل الرهيب المقدّر بالمسافات الضوئية بين المقولة التنويرية الحداثية عموما و الأدونيسية خصوصا، كما تتجلى لنا في واقعنا المرير، و بين واقعنا المرير نفسه و ما يحمله من خيبات تُكذّب الخطاب النظري مهما كانت توجهاته و تضرب به عرض الحائط بالنظر إلى ما يحمله من تصورات هي أبعد ما تكون عن الواقع. و لعلني لست وحدي في حمل هذه المقاربة عن مثقف كبير بدرجة أدونيس. و هذا ما يجعلني أتيقن من أن ثمة فارقا موجودٌ فعلا بين المقولة الأدونيسية و واقع الإنسان الشرقي المسلم. و هو الفارق الذي لا يريد أن يستوعبه المفكر التنويري في البلاد الشرقية المسلمة عموما و ليس أدونيس وحده. إنها مسئولية على درجة كبيرة من الخطورة بالنظر إلى ما تتعرض له هذه الذات من محق منهجيّ لا تزيده المقولات التنويرية، بما هي عليه من تعالٍ و ابتعادٍ و تَفَنُّجٍ، إلا اصطلاءً بظلم ذوي القربى .من كينونته تماما كما لجأت إليه شعوب أخرى تحت إيديولوجيات أخرى،      و تحت مسميّات أخرى، و تحت سماءات تؤمن بآلهة أخرى. و أنت هنا،أستاذ أحمد، لا تنصف أدونيس من نفسه وحسب، وإنما تنصف الحقيقة التاريخية المبنية على عقلانية الطرح الذي لا يخون الذات بالادعاء بأنها على حقّ مطلق، و لا يخونها مرّة أخرى بالادعاء بأنها على باطل مطلق.
عبد القادر رابحي/ سعيدة: 01/05/2016            


          

الرجوع إلى الأعلى