على مدى القرون الثلاثة الماضية ما تزال الكثير من نساء بعض أعراش القبائل محرومات من الميراث بسبب وثيقة اجتماعية تعود إلى سنة 1749 صدرت عن قبيلة بني بترون تضمنت حرمانا صريحا للأنثى من الميراث، ومما جاء فيها: "أن الميراث وشفعة الحبس وشفعة البنات والأخوات واليتامى وصداق المرأة إن طلقها زوجها أو مات، مسقط في بني بترون ومن اتصل معهم.. وبإسقاط الميراث وشفعة الحبس وشفعة البنات والاخوات واليتامى وصداق المرأة إن طلقها زوجها أو مات" وبرروا ذلك بحكم العادة والعرف بدل الشرع والقانون، وحذروا مخالفة الوثيقة بلعنة الله بالذل والفقر والجوع والاهانة في زماننا وزمان ذريته أو ذرية ذريته خلفا عن سلف.
وكان واجبا على كل مسلم غيور بعد الاستقلال أن يبادر إلى إسقاط هذا العرف الفاسد المخالف للشرع وإعادة حق الأنثى المسلوب تحت تلك المبررات التاريخية، لكن العرف لما يزل مستحكما، بل امتد للكثير من مناطق الجزائر، بما فيها كبرى المدن كالعاصمة وعنابة وسكيكدة وغيرها، حيث ما يزال الأشقاء يزدرون شقيقاتهم ويحرمونهن من الميراث المقرر لهن شرعا؛ لاعتقادهم أن المال سلالة المال ونسبه ذكوري وفي بيت الذكور يبقى.
والغريب أن الكثير من الأصوات النسائية والحقوقية تغض الطرف عن هذا الحيف التاريخي والظلم الاجتماعي، وتنسى في خضم الجدل انتهاكات حقوق المرأة في قضايا أخرى، وتوجه سهام النقد لما قرره الإسلام للأنثى من نصيب مع شقيقها الذكر، فكلما فتح نقاش قانوني أودستوري يتعلق بالمساواة بين الجنسين والمناصفة بينهما إلا وبادر البعض إلى إحياء النقاش المثير حول أنصبة الميراث التي أوردها القرآن الكريم مفصلة مرتبة فأعطى الله تعالى بنفسه نصيب كل وارث تحقيقا للعدل والمصلحة عاجلا وآجلا.؛ فيدعي هؤلاء أخذا بظاهر النصوص وبترا لها عن سياقها داخل المنظومة التشريعية الكلية أن الإسلام لم ينصف المرأة، فجعل نصيبها النصف من نصيب الرجل، وقد يكون كافيا للرد على هؤلاء بالقول أن قضية الميراث لا نقاض فيها؛ لأن النص المؤسس لها قطعي الثبوت والدلالة، والذي قسم التركة هو الله تعال نفسه؛ لكن الأمر يحتاج للكشف عن بعض النقاط بعيدا عن كل تعصب.
يعرف المؤرخون وعلماء الاجتماع أن المرأة عشية مجيء الإسلام لم تكن تحظى بمكان اجتماعية راقية في التراتبية الاجتماعية سياسيا أو ماديا، ولئن تبوأت إحداهن مكانة راقية في بعض الفترات فإن ذلك شكل نشازا في مجتمع ذكوري تجرأ فيه البعض ليس فقط على حرمان المرأة من الميراث بل على توريثها للورثة مع العبيد والأنعام والأموال؛ حين شُيئت وأفقدها ذاك المجتمع إنسانيتها؛ ولم يكن وضعها هذا قاصرا على القبائل العربية بل يكاد يكون عرفا عالميا كرسته بعض الأديان المحرفة التي حملتها وزر الخطيئة الأولى، والفلسفات البشرية المتأثرة بمحيطها التاريخي، لم تبرأ من لوثتها فلسفة أفلاطون وجمهوريته، فعندما يجيء الإسلام في لحظة تاريخية كهذه ويعيد للمرأة إنسانيتها ويخصص لها نصيبا من الميراث تضاهي به الرجل الذكر؛ فإن هذا وبغض النظر عن قيمة ما فرض لها من الميراث يعد طفرة في تاريخ الشرائع وقانونا جد متقدم تخطى الأعراف والأنساق الاجتماعية والتراتبية الأرثوذوكسية المكرسة تاريخيا. فمن لغو الكلام وجور الحكم الإدعاء بأن الإسلام ظلم المرأة في الميراث؛ لأن المنهج العلمي التقييمي يحاكم الأفكار والشرائع للخطة ميلادها التاريخية ومحيطها الاجتماعي الذي نمت فيه.
إن الفقهاء المسلمين بعيدا عن أساليب التبرير التي يلجأ إليها الكثير أحصوا قرابة الأربعين حالة من حالات الميراث ووجدوا أن أربع حالات فقط تأخذ فيها الأنثى نصف ما يأخذه الذكر، وباقي الحالات تأخذ فيها الأنثى أكبر منها أو يساوي نصيب الذكر، فكيف يقال هكذا دون تمحيص إن المرأة تأخذ نصف ما يأخذه الرجل؟
إن ما يكثر حوله الجدل عادة ويتخفى تحته بعض الداعين للمساواة المطلقة بين الجنسين بنظرة قسرية تتجاهل تباين الطبيعتين نفسيا وفيزيولوجيا هو ميراث الأبناء والبنات من أبيهم، فيدعون أن الإسلام أعطى للأنثى نصف ما أعطاه لأخيها الذكر، وهذا بزعمهم ظلم، تعالى الشرع عما يصفون.
وهذه النظرة تعد نظرة مبتورة عن سياق التشريع العام ومنظومته الاجتماعية، ذلك أن الابن وإن بدا أنه أخذ الضعف إلا أن الشرع كلفه بقضية النفقة الأسرية، فالابن مطالب شرعا بالنفقة على كل أفراد العائلة من ذوي القرابة والأرحام، إذا ما افتقروا إليه بدءا بالوالدين أبا وأما وانتهاء ببنات العم وبنات الأشقاء ومرورا بالشقيقات والأشقاء، بينما لا تطالب أخته الأنثى بأي نفقة على هؤلاء، لأن الإسلام كفل لها حق النفقة بنتا وأختا وزوجة وبنت أخ وبنت عم، فهل يعد الشرع جائرا إن أعطى لأخيها ضعف ما ترث هي مقابل ما كلفه من تكاليف؟
صحيح أن الكثير من البنات أصبحن يعلن عائلاتهن وأزواجهن، ولكن هذا عرف ومعروف وإحسان منهن وليس واجبا، ويمكن للأب في حياته أن يعطي ما شاء لهن من المال وتمليكهن عقارا أو منقولا تعويضا عما أنفقن عليه أو أحسن به، كما يمكن للشقيق أن يتنازل لشقيقته عن نصيبه أو يسويها معها إن رأى في ذلك تعويضا لها، ولكن كل هذا لا يكون قاعدة عامة مطردة بل حالات تبقى ضمن نطاقها.وكل اجتهاد في مفاهيم النص المؤسس للميراث يجب أن يخضع لمعايير موضوعية بعيدا عن كل أيديولوجية دينية أو سياسية، من قبل علماء ذوي ثقة يحرصون على التمسك بالنص بقدر حرصهم على الانفتاح به على المحيط الاجتماعي التاريخي، وحري بمن يتصدى للدفاع عن حقوق المرأة في هذه المرحلة، الذود عنها في قضايا أهم لما تزل محرومة منها سياسية واجتماعية واقتصاديةحتى تسهم في صيرورة المجتمع.

الرجوع إلى الأعلى