«باردو» سوق الزوالية يتحدى الزمن و يسرق زبائن محلات المستورد بقسنطينة
يعبق برائحة العتيق و المستعمل، يكتسي لون النحاس و الخشب و يتحدث لغة النقش و النحت و القرع على المعادن، تنطلق من دكاكينه الصغيرة المتجاورة على طول زقاقه الطويل أصوات التجار كموسيقى يعزفها حرفيون اختاروا الرمبلي الجديد أو باردو سوقا لهم ينأون بها عن صخب المدينة الباحثة عن الحداثة، ويمارسون فيها مهنا زبائنها إما « زوالية» أو قسنطينيون يعشقون النحاس، أو باحثون عن القديم الجديد و جميل التحف.
لا يزال باردو بمحلاته 172، مركزا تجاريا و حرفيا ناشطا، و مقصدا للعديد من الزبائن الباحثين عن أي شىء و كل شىء، لأن شعار تجاره هو « كل مصنوع مبيوع»، كما اخبرونا مؤكدين بان باردو أو الرمبلي الجديد ، يحيا في الواقع و يزدهر بالرغم من أن الإشاعة تحاول في كل مرة أن تغتاله و تتنبأ بزواله كما  عبر بودينار الحاسن رئيس جمعية حرفيي النحاس بقسنطينة و المتحدث باسم تجار السوق، وهي حقيقة وقفنا عليها خلال تواجدنا هناك، فحركة البيع و الشراء لا تتوقف بدكاكينه، التي تحدت الزمن و استطاعت أن تكسب رهان الاستمرارية رغم توسع نشاط  الأجهزة و الأثاث المنزلي و الكهورمنزلي بمنطقة لوناما و انتشار ثقافة المستورد و تحديدا المنتج « التركي» في المجتمع، مع ذلك لباردو زبائن أوفياء و دائمين ميسورين و محدودي الدخل.
بعد 77سنة باردو يستعد لتصدير منتجاته الحرفية للخارج
   يعود وجود بادرو إلى سنة 1939 حيث انتقل إلى المنطقة أربعة نحاسين في البداية سلبتهم إدارة المستعمر محلاتهم بوسط المدينة فاختاروا الاستقرار بالمنطقة و مزاولة نشاطهم، و بعد سنوات ازدهر المكان و استقطب أكبر عدد من التجار و خصوصا الحرفيين ليصل عددهم اليوم إلى 172 تاجرا  من بينهم 20 حرفيا في النحاس، نجارين اثنين،  وحداد ميكانيكي و الباقي  تجار خردة و مستعمل و باعة تحف، و حسب بوصبيعات هشام حرفي نحاس قضى 30سنة في المنطقة، فإن النشاط ما ينفك يزدهر بباردو عكس ما يشاع عنه، مضيفا بأن بارود و رغم مرور السنوات إلى إنه لم يفقد يوما زبائنه بل بالعكس يستعد للانفتاح على زبائن من خارج الوطن من أمريكا و أوروبا، وذلك في إطار اتفاقية بين النحاسين و الاتحاد الأوروبي لترقية و تحسين و تسويق منتوجهم إلى الخارج.
محدثنا قال بأن الطلب على النحاس في تزايد مستمر، وأن الكثير من القسنطينيين لا زالوا يستعملون الأواني النحاسية في رمضان، و يصرون خلال كل سنة على تلميعها و تجديدها، ومنهم من يطلب أواني حسب ذوقه، كقدر الطهي مثلا و صينيات المائدة، معلقا بأن كثرة الطلب أرهقته لدرجة أنه يسابق الزمن لإرضاء زبائنه، وهم عادة من قسنطينة و ولايات الغرب و الوسط و حتى مغتربون.
و بعيدا عن أواني المطبخ باردو المصنع الرئيسي لمنارات المساجد و مصابيح الزينة، أما المنتج الأكثر طلبا كما أضاف الحرفي بودينار الحاسن ، فهو القطّار التقليدي الذي تقبل عليه القسنطينيات لتقطير الورد و الشاويات لتقدير الأعشاب الطبية، من شيح و زعتر و خزامة، إذ أن كل محل يدق تقريبا ما يقارب 50 قنطارا من النحاس في السنة لتلبية طلبات زبائنه.
سوق الزوالية يقصده  المرحلون الجدد من 48 ولاية
« هنا كل مصنوع مبيوع» هذا هو شعار تجار  الرمبلي كما أسر لنا رابح قوادري تاجر خردة و أثاث مستعمل، قال بأن باردو هو سوق الزاوالي الذي لا يحتكم لأي سقف محدد للأسعار، ففي هذا المكان كل شيء يباع و كل شيء يشترى، الأثاث المنزلي القديم و الأجهزة الكهرومنزلية، حتى الألعاب و تجهيزات الحمامات و المطابخ، كل ما يخطر ببال الزبون يتوفر في لمح البصر إن لم يكن موجودا في المحل الأول فهو متوفر لا محالة في المحل الثاني أو العاشر، أما الأسعار فتنطلق من 200دج الى 3 ملايين سنتيم حسب القطعة المطلوبة، وقد تتعدى ذلك بقليل إذا ما تعلق الأمر بالتحف و الأثاث الفاخر.
محدثنا أوضح بأن نشاطه مزدهر و زبائنه كثر يقصدونه من 48 ولاية بما في ذلك ولايات أقصى الجنوب، نظرا لتوفر شرطي النوع والطلب ففي دكاكين باردو فقط يمكنك شراء غرفة نوم كاملة مقابل مليوني سنتيم،أو ثلاجة جديدة نوعا ما مقابل 7000دج، لذلك فالسوق هي مقصد للعرسان و أيضا المرحلين الجدد، فحسبه جل سكان القصدير بقسنطينة ممن رحلوا نحو علي منجلي في السنوات الاخيرة أثثوا منازلهم من الرمبلي.
محدثنا قال أن الميسورين يقصدون السوق كما أضاف، بحثا عن قطع الأثاث النادرة و التحف الثمينة خصوصا خشب و أثاث « لويس16» باعتباره أصبح موضة بينهم هذه الأيام حسبه، وهي قطع لا تتوفر عادة في محلات لوناما الكبيرة و لا حتى تلك التي تبيع المستورد.
ضيق في المحلات و سعة في القلوب
خلال سنوات الاستقلال الأولى لم يكن سعر إيجار المحلات التابعة للبلدية يتعدى 3 دورو، ثم ارتفع إلى 20دج و من ثم 150دج ليصل إلى 4500دج، وهو أمر أثقل كاهل التجار و الحرفيين كما عبر عبد الرحمان شعبي نجار و صانع موائد تقليدية، قضى ما يزيد عن 70 سنة في هذه الحرفة هو وشقيقه حسن بعدما ورثا المحل عن والدهما حالهما حال جميع تجار باردو. الحرفي أشار إلى أن المشكلة لا تكمن في المبلغ في حد ذاته بل في ضيق مساحة المحلات، الأمر الذي عرقل توسعة نشاطات التجار و الحرفيين، اللذين ألفوا المكان و باتت تربطهم علاقات أخوية ببعضهم البعض و بزبائنهم أيضا، خصوصا أولائك الذين يقصدونهم من خارج قسنطينة قادمين من ميلة و شلغوم و تاجنانت و تبسة و باتنة و سكيكدة و قالمة  و وهران و حتى العاصمة، و الذين قد يفقدونهم في حال  تمسكت السلطات بقرار ترحيلهم نحو المدينة الجديدة علي منجلي كما سبق و أعلن عنه والي الولاية. محدثنا قال بأن الترحيل سيشتت الحرفيين و يقضي على آخر شريان نابض للحرف في قسنطينة، خصوصا و أن باردو كما قال، يعد همزة وصل بين الماضي و الحاضر و القديم و الجديد، وهو المكان الوحيد الذي يجتمع في محلاته الغني و الفقير، و تتجلى من خلال حرفييه صور العراقة المنعكسة على واجهة الأواني و القطع النحاسية البراقة و الجميلة.  
نور الهدى طابي

الرجوع إلى الأعلى