أنجب عشرة أبناء ليعيش حياة التشرد
على سرير بإحدى مستشفيات قسنطينة، يستيقظ لليوم الثامن في حجرة موحشة لا تدبّ فيها الحركة إلا عند دخول المرضى و الطاقم الطبي.. ينظر من حوله علّه يجد زوجته أو أحد أبنائه العشرة، فيخيب ظنه مرة أخرى و يتسع الألم في قلبه.. يُحاول أن ينهض ليبحث عنهم، فيتذكر أن أطرافه السفلى عاجزة عن الحركة منذ سنوات.. هو مقتطف من يوميات شيخ انقلبت حياته فجأة، بعد طرد عائلته من شقة كانوا يقطنون بها و تحوّله، في رمشة عين، إلى شخص دون مأوى قد ينتهي به المطاف في دار العجزة..
بدأت معاناة الشيخ في 21 أوت الماضي، عندما تم طرده و أفراد عائلته بالقوة العمومية من منزل بعد سنوات من النزاعات القضائية مع ديوان «أوبيجي»، الذي اتهمهم بشغل شقة تقع بالمدينة الجديدة علي منجلي بطريقة غير قانونية، في ذلك يوم المشؤوم خرجت الأم و أبناؤها مكرهين من المنزل، و معهم الشيخ المُقعد، و قد تنقل الجميع باتجاه وجهة أخرى تأويهم باستثناء الأب المسكين، الذي تدخلت مصالح الحماية المدنية بناء على طلب من الأمن، من أجل نقله لمستشفى علي منجلي، حيث وصل هناك في حالة يرثى لها مثلما قال لنا ممرضون، كما كان وضعه الصحي غير مستقر، على اعتبار أنه مريض قلب و سكري.
استقبلت مصلحة الاستعجالات الشيخ المُقعد، و اعتقد الأطباء و الممرضون حينها أن مكوثه هناك لن يزيد عن ساعتين بعد الاطمئنان على صحته، لكن الساعات مرّت و مضى معها أزيد من أسبوع دون أن يأتي أفراد عائلته لأخذه، و هو ما دفع بإدارة المستشفى لمراسلة مصالح الأمن و الحماية المدنية و النشاط الاجتماعي من أجل التدخل لنقل الرجل لأسرته، أو إلى ديار الرحمة و العجزة إن تطّلب الأمر، لكن أي من هذه الجهات لم تتدخل، تقول المديرة بالنيابة لمستشفى علي منجلي للنصر.
كل من في المستشفى استغرب كثيرا لحالة الرجل، ليس لأن مدة إقامته طالت و لا لكونه يمكث بمصلحة الاستعجالات رغم أن حالته الصحية مستقرة، بل لأنه أب لعشرة أبناء لم يأت منهم طيلة تلك الفترة، سوى شاب زار والده، ثم غادر دون أن يصطحبه، و هو ما دفع بإدارة المستشفى إلى مواصلة التكفل بالشيخ من باب الإنسانية، حيث تطوع أعوان أمن و منظفات و ممرضات لتغيير حفاظاته و أخذه للاستحمام، بل و حلق لحيته و تغيير ملابسه و حتى إخراجه للتنزه في بهو المستشفى حتى لا يشعر بالملل، مع استمرار الأطباء في مراقبة حالته الصحية رغم أنها مستقرة.
النصر و بمجرد سماعها بقصة الأب، تنقلت إلى مستشفى الدكتور بن شريف بالمدينة الجديدة علي منجلي، و هناك وجدنا رجلا ليس كبيرا كثيرا في السن علمنا أن عمره 62 سنة، حيث كان مستلقيا بجسمه الهزيل و تقاسيم وجهه الحزينة التي ملأتها التجاعيد، على سرير خصص له في مصلحة الاستعجالات، قبل أن نُعرّف بهويتنا راقبنا من بعيد كيف كان الممرضون و أعوان الأمن يعاملونه بلطف و صبر كبير ذلك الشيخ الذي كان يناديهم في كل مرة من أجل طلب الأكل أو تغيير حفاظاته أو إخراجه للتنزه، لتلقى طلباته الاستجابة و يقابلهم بالدعاء لهم، فالجميع كان متعاطفا معه لحالته التي تدمي القلوب.
اقتربنا من الشيخ و أخبرناه أننا قدمنا لكي نسمع قصته و ننقلها للقراء بعد الإفصاح عن هويتنا، فقبل دون تردد و راح بمرارة و حسرة يروي للنصر كيف تم طرده و أفراد عائلته من شقة عاشوا بها لـ 18 سنة و يعترف أنه احتلها بعد أن ضاقت به شقة بثلاث غرف كان قد رحل إليها من حي سيدي جليس بالمدينة القديمة بقسنطينة، حيث انتقل إلى شقة بعدد غرف أكبر تسع زوجته و أبناءه العشرة كانت حينها فارغة، لكن ذلك تم بناء على موافقة يقول أنه تلقاها آنذاك من أحد مسؤولي ديوان الترقية و التسيير العقاري، بعد أن حصل على شهادة طبية تظهر خطورة السكن بتلك الشقة على صحته، بسبب الرطوبة و نقص فتحات التهوئة، و هي موافقة لم تشفع له بعد كل تلك السنوات.
قال لنا الشيخ متألما و عيناه مُغرورقتان بالدموع، «لدي 10 أبناء منهم 7 ذكور و 3 إناث لا أدري أين.. لقد كنا عائلة سعيدة، وكنت أشتغل صائغيا». و بعاطفة أب يحاول التماس الأعذار لفلذات كبده أضاف الرجل «أعلم أن أبنائي لم يجدوا مكانا يأخذونني إليه بعد طردنا، لذلك لم يأتوا لأخذي».. عندما علم أن إدارة المستشفى راسلت مديرية النشاط الاجتماعي من أجل التكفل به و أخذه إلى إحدى دور الرعاية، سكت لبرهة فأحسسنا و كأنه استرجع للحظات شريط حياته التي قد تنتهي به في ديار العجزة، ثم انفجر باكيا وسط تأثر جميع الحاضرين بمصلحة الاستعجالات «هل سأبقى في دار العجزة حتى أموت!»، لم نجد كيف نواسي الأب و هو يذرف الدموع بحرقة و حاولنا طمأنته بأن أبناءه سيأتون لأخذه، فقال لنا أنه واثق بأن زوجته و أحد أبنائه، الذي سيأتي من خارج الوطن ليقضي عيد الأضحى بالجزائر، سيزورانه و يأخذانه.. تركنا الشيخ مع آماله و غادرنا المستشفى و كلنا أمل في لمّ شمل أسرة يعيش ربّها حياة التشرد!                         ياسمين.ب

الرجوع إلى الأعلى