أعمال أركون مشروع غير مكتمل لأنّه طرح إشكاليات وفتح ورشات دون أن يغلقها بأجوبة نهائية
ربّما يكون مسار ترسيخ الأنسنة صعبا ويحتاج لوقت طويل ولكنّه من الضروري التنظير له وتدعيمه
في هذا الحوار، يتحدث الباحث والدكتور فارح مسرحي عن فوزه بجائزة «أركون العالمية للسلام بين الثقافات» في طبعتها لهذا العام، والتي توج بها بفضل عمله الموسوم بــ»الأنسنة أفقا للتعايش الآمن»، كما يتحدث عن أركون، وعن اشتغاله المستمر والمتواصل على فكره وأطروحاته. إذ يقول هنا أنّ ما يشده للنص الأركوني بصورة خاصة هو نوعية الأسئلة التي يطرحها. وجاء بحث أستاذ الفلسفة بجامعة باتنة الدكتور فارح مسرحي، المتوج بالجائزة، ضمن بحوثه الكثيرة في مشروع محمد أركون الفكري الفلسفي. فقد نشر في وقت سابق كتاب «المرجعية الفكرية لمشروع محمد أركون الحداثي» عن منشورات الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية العام الماضي 2015، استقصى فيه أهم جوانب مشروع أركون، وهو يعد تكملة للكِتاب الأوّل الذي نشره حول أركون ضمن منشورات الاختلاف بالجزائر والدار العربية للعلوم ببيروت 2006 وكان بعنوان «الحداثة في فكر محمد أركون»، وفيه قدم تصور الحداثة كما ينظر له أركون.
حاورته/ نوّارة لحـــرش
فزت مؤخرا بجائزة محمد أركون العالمية في طبعتها لهذا العام بعملك «الأنسنة أفقا للتعايش الآمن»، كيف تلقيت هذا الفوز، وهل كنت تتوقعه؟
فارح مسرحي: طبعا تلقيت خبر حصولي على جائزة محمد أركون 2016 بكلّ سعادة وسرور، وهو شرف كبير أحظى به بعد أن اشتغلت على نصوص أركون طيلة سنوات عديدة، ومن ثم فقد جاءت الجائزة كتتويج وتقييم لهذا العمل خاصة وأنّ قرار حصولي على هذه الجائزة كان بإجماع اللجنة المكلفة بتقييم الموضوعات المُشارِكة مثلما ذكره الإعلان المنشور على الموقع الاليكتروني لمؤسسة محمد أركون للسلام بين الثقافات. أما مسألة توقعي الفوز بالجائزة فبكلّ صراحة شاركت في المنافسة من أجل الفوز عِلمًا أنّني شاركت في الطبعة الأولى للجائزة سنة 2013 والتي فاز بها الباحث المغربي الدكتور نبيل فازيو، وكان بحثي ضمن أحسن ثلاثة بحوث مشاركة في المنافسة، ولكنني في الوقت نفسه كنت أعلم أن الفوز بالجائزة صعب بالنظر لوجود العديد من الباحثين المشتغلين على نصوص محمد أركون في الدول العربية والغربية والمنافسة مفتوحة لتقديم بحوث باللغات الثلاثة العربية، الفرنسية، الانجليزية. والحمد لله فزت بالجائزة هذا العام وأنا أعتز وأتشرف بذلك.
هل ترى أن للأنسنة في هذا الظرف العالمي المشحون والمفتوح على كلّ الاحتمالات البائسة، دورا ناجعا في التعايش الآمن حقا، أم هي لا تعدو أن تكون شعارا فلسفيا يكاد يكون مستهلكا بعيدا عن جوهر الأنسنة الحقيقي؟
فارح مسرحي: بالنظر إلى معطيات الراهن نلاحظ فعلا البعد الكبير لهذه المعطيات عن الأنسنة وعن قيّمِها، إذ يكفي أن نقرأ شريط الأخبار في أي وسيلة إعلامية حتى نتأكد من ذلك، فأغلب الأخبار تطغى عليها عناوين: العنف، الصراع، القتل، الحروب، الاستغلال، القهر.. الإنسان فعلا أصبح العدو الأوّل للإنسان فصورة الواقع فعلا قاتمة، ومع ذلك فنحن لا نملك إلا أن نتشبث بما من شأنه أن يحافظ ولو على الحد الأدنى من الأنسنة ومن القيّم المرتبطة بها، ربّما يكون مسار ترسيخ الأنسنة صعبا فعلا ويحتاج لوقت طويل ولكنّه يبقى من الضروري التنظير له وتدعيمه لأنّنا جُبلنا على البحث عما ينبغي أن يكون، كما أن الشيء الوحيد الذي يجمعنا مع غيرنا هو كوننا بشرا، فقد نختلف مع غيرنا في اللغة أو الدين أو الثقافة... ولكنّنا لا نستطيع أن نختلف معه في كونه إنسانا.
الجائزة طرحت موضوعا محددا، بالبحث في كيفية الخروج عن الأسيجة الدوغمائية المغلقة، وبحثك «الأنسنة أفقا للتعايش» الذي شاركت به جاء تقريبا في السياق، هل يمكن أن تعطي بعض تفاصيل وفحوى البحث بوجه عام؟
فارح مسرحي: كما أشرتِ فقد طرحت المؤسسة موضوعا مهما جدا هذا العام وهو مرتبط أشد الارتباط بما نعيشه في الوقع وهو هذا الصراع والتنافر بين مختلف الأطراف سواء على المستوى المحلي أو الجهوي أو العالمي، والموضوع هو: كيف يمكن الخروج من السياجات الدوغمائية للمثلث الأنثروبولوجي: عنف/ مقدس/حقيقة، من خلال أعمال أركون.
وقدمت بحثا بعنوان: «الأنسنة أفقا للتعايش الآمن»، وهو يتكون من 114 صفحة وينقسم إلى مقدمة، ثلاثة محاور وخاتمة، قدمتُ في المحور الأوّل بعض التفاصيل المفاهيمية والمنهجية التي يناقش وفقها أركون جُلّ موضوعاته بما فيها موضوع البحث، خاصة إستراتيجيته المنهجية التي يدعوها بالإسلاميات التطبيقية وكيف تنفصل هذه الأخيرة عن الإسلاميات الكلاسيكية وعن رؤية غالبية المسلمين لتراثهم، ثم ناقشت في المحور الثاني نقده للوضع الراهن على المستوى الفكري طبعا من ذلك نقده للعقل الإسلامي خاصة مسألة الدوغمائية وللعقل الغربي في مسألة المركزية وفكرة التفوق، بينما طرحت في المحور الأخير مسار ومقتضيات الخروج من السياجات الدوغمائية أو هذا التنافر المتبادل بين الطرفين من خلال بيان مفهوم الأنسنة وشروطها ومزاياها.
تأتي معظم بحوثك واشتغالاتك في مشروع محمد أركون الفكري الفلسفي. ما الذي تريد إضافته في لبنة المشاريع التي تتناول فكر ومشروع أركون؟
فارح مسرحي: فعلا اشتغلت كثيرا على أعمال محمد أركون مثلما اشتغلت أيضا على غيره، وما شدني للنص الأركوني بصورة خاصة هو نوعية الأسئلة التي يطرحها، فهو يحسن أشكلة ما يبدو لنا واضحا دون أن يكون كذلك في حقيقته لأنّ البسيط أو الواضح هو ما بسطناه نحن بلغة باشلار، والواقع أكثر كثافة وتعقيدا مما نظن، قد نختلف مع أركون في آرائه وهذه مسألة طبيعية في الدرس الفلسفي ولكنّنا نجد أنفسنا متفقين معه في كون الإشكاليات التي يطرحها تحتاج فعلا لأن تطرح، وقوة المفكر أو الفيلسوف تكمن في أسئلته أكثر من إجاباته، من جهة أخرى يشدنا النص الأركوني إليه من خلال ثرائه المفاهيمي والمنهجي وأفقه الواسع حيث ينقلنا بصورة مرنة من الفكر العربي الإسلامي إلى الفكر الغربي ويجعلنا ننفتح على الكثير من الأفكار والمناهج القديمة والجديدة، فهو مفكر على التخوم كما يقول المفكر المصري حسن حنفي، وفي التخوم مكامن الحرج ومواطن الجراح وثمة الإشكاليات الحقيقية والمقارنات المفيدة والانفتاح الضروري على تجارب الآخر، النص الأركوني يخترقه خطاب عن المنهج فيه شرح وتنظير وتطبيق للعديد من المناهج الغربية وهو بذلك يقوم بنوع من الوساطة الفكرية بين الفكر الغربي والقارئ العربي وتلك مزية استفاد منها الكثير من الباحثين في الاطلاع على المناهج الغربية أو تطبيقها واكتشاف مقاربات أخرى ممكنة لموضوعات الفكر العربي الإسلامي.
كتابك «المرجعية الفكرية لمشروع محمد أركون الحداثي»، يتناول بشكل مستفيض فكر أركون. من أي منطلق تفضل أن تتناول أركون وفكره، وهل الأركونية حقا مشروع لم يكتمل؟
فارح مسرحي: كِتاب «المرجعية الفكرية لمشروع أركون الحداثي» هو في الأصل أطروحتي للدكتوراه التي ناقشتها سنة 2011 بجامعة باتنة ونشرتها ككِتاب مع الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية، وهو في الحقيقة تكملة للكِتاب الأوّل الذي نشرته حول أركون ضمن منشورات الاختلاف بالجزائر والدار العربية للعلوم ببيروت 2006 وكان بعنوان «الحداثة في فكر محمد أركون»، ففي هذا الأخير حاولت تقديم تصور الحداثة كما ينظر له أركون، أمّا في الكِتاب الثاني فقد حاولت استقصاء مصادر هذا التصور وعلاقاته الممكنة مع الفكر العربي الإسلامي والفكر الغربي خاصة أعمال بعض المستشرقين ثم أبعاد هذا المشروع على المستوى الفكري والسياسي والاجتماعي، وإمكانيات تطبيقه والعوائق التي تعترضه وكذا الإشكاليات التي يطرحها سواء على مستوى المفاهيم أو المناهج أو النتائج. وكما ذكرتِ في سؤالك فأعمال أركون يمكن أن توصف بالمشروع غير المكتمل أو حتى الذي لا يكتمل أبدا، لأنّه طرح إشكاليات كثيرة وفتح ورشات عديدة دون أن يغلقها بأجوبة نهائية فكأنّه قدم مسارات وأدوات بحثية تنتظر من يطبقها ويثريها ويطورها حتى تؤتي أكلها ولو بعد حين.
كواحد من المشتغلين على فكر أركون، كيف ترى أعماله في سياق الفكر الفلسفي العربي، وأين تكمن أو ما مدى أهميتها بالنسبة للتعددية الثقافية؟
فارح مسرحي: يبقى بالتأكيد المشروع الذي تركه أركون واحدا من المشاريع الفكرية المهمة على الساحة العربية على غرار ما تركه محمد عابد الجابري ونصر حامد أبو زيد أو أعمال عبد الله العروي أو حسن حنفي وغيرهم كثير، فأعمال أركون تحتل مكانة مهمة ضمن هذه المشاريع، ربّما تأخرت قليلا معرفتنا بما يكتبه خاصة وأنّه يكتب بغير العربية ولكن الآن أصبحت الكثير من أفكاره متداولة على نطاق لا بأس به بين الباحثين خاصة في دول شمال إفريقيا. وأهميته تتجلى في اتصاله المباشر بالفكر الغربي واحتكاكه بالعديد من المفكرين الفرنسيين خاصة وتوظيفه لمناهجهم في دراسة التراث والتاريخ الإسلاميين، وهذا ما ينتج دراسات أو رؤى مغايرة لما هو مألوف.   
بعد 7 سنوات من غياب أركون، إلا أنّ هناك شبه سوء لقراءة وعقلية التفكير عند أركون، لماذا برأيك ظلّ أركون في العالم العربي يُقرأ بسوء وبتحاليل نقدية ظالمة؟
فارح مسرحي: قد يكون هذا الحكم صحيحا إلى حد ما في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات من القرن الماضي مع بداية ترجمة أعمال أركون إلى اللغة العربية واصطدام القارئ العربي بالكم الهائل من المصطلحات غير المألوفة لديه خاصة إذا تعلق الأمر بموضوعات التراث الإسلامي، وحتى مترجم أركون الأستاذ هاشم صالح يعترف بأنّ الترجمات الأولى التي أنجزها لأعمال أركون لم تكن سهلة النفاذ لعقل القارئ العربي... ولكن الآن أعتقد أنّ فكر أركون أصبح متداولا بصورة مقبولة لدى الكثير من الدوائر الثقافية، والدليل على ذلك وجود عدد كبير من الرسائل والأطروحات الجامعية حول فكره في الجزائر والمغرب وتونس ومصر ولبنان وإيران وفرنسا وألمانيا... وهناك كثير من الكتب والمقالات التي صدرت في السنوات الأخيرة حول أعمال محمد أركون، وبالتأكيد تبقى بعض الدوائر التي لا تتفق معه وهذا أمر طبيعي جدا شرط أن يكون هذا الاختلاف أو النقد موضوعيان محتكمان إلى النصوص والأفكار، بعيدا عن أسلحة التبديع والتكفير والإقصاء دون حتى الاطلاع على كتبه.
البحث انقسم إلى ثلاثة محاور مستوحاة من منهج أركون نفسه الذي عالج به العديد من الموضوعات، وهي: «الزحزحة، الاختراق والتجاوز»، ما يمكن القول أنّه/أي البحث، يعالج المحاور من منهج الحالة نفسه، أو منهج الأصل أوّلا وأخيرا أي من منهج «الفكر الأركوني»؟
فارح مسرحي: الموضوع كما يُقال هو الذي يحدد المنهج المناسب وفرض منهج معين على الموضوع قد ينحرف بالبحث إلى ما لا يناسبه وهذا بفعل ما يتسرب مع ذلك المنهج من محددات إيديولوجية، لأنّ هذا الأخير غير بريء تماما، بالنسبة لي في الغالب أميل إلى الاشتغال على الموضوعات وفق ثلاثيات قد تشكل تتبعا تاريخيا لقضية معينة: «قبل/ مع/ بعد»، أو قد تكون طرحا مغايرا لقضية معينة فنكون ملزمين بتقديم تصور عن الموضوع كما هو معروف، ثم نقد هذا التصور وأخيرا تقديم البديل أو التصور الجديد، وفي حالة هذا البحث الذي قدمته، والذي هو مرتبط بأعمال أركون، فقد كان من الضروري توضيح المنهج أو أدوات البحث التي يعتمدها أركون والتي ستحدد مجال رؤيته للموضوع وهذا مضمون المحور الأوّل، ثم موقفه مما هو سائد سواء في الفكر العربي أو الغربي، من منطلق أنّه ناقد للجهتين ويحاول أن يقدم رؤية مغايرة لما هو سائد، رؤية تتجاوز نقائص الرؤى الموجودة والمتنافرة فيما بينها هذا في المحور الثاني، وأخيرا لابدّ من تقديم معالم هذه الرؤية وشروط تجسيدها على مختلف المستويات، لذلك جاء البحث في ثلاثة محاور وهي كما قلتِ مُحاكية لطريقته في الاشتغال على مختلف الموضوعات والتي تمر عبر ثلاث لحظات هي: الزحزحة / الاختراق / التجاوز.
يأتي المحور الثالث للحديث عن البديل أو المخرج الذي يقترحه أركون للخروج من الصراع والعنف، والذي يتلخص في مفهوم الأنسنة بما يقتضيه من شروط سياسية واجتماعية وثقافية، كالمواطنة والديمقراطية وتفعيل المجتمع المدني. ألا ترى أنّ هذا الخروج لم يعد ممكنا بيسر في ظل ما يحدث من انتكاسات على عدة أصعدة في عالمنا العربي؟
فارح مسرحي: الخروج من الوضع المزري الذي نحياه مسألة صعبة فعلا، ولكنّها ليست بالمستحيلة، وهذا الخروج لا ينجز بين عشية وضحاها، بل يتطلب وقتا قد يكون طويلا، وإرادة ووعيا فرديين وجماعيين، فكلّ شروط الأنسنة هي مشاريع تنجز بالتدريج: الحرية، المواطنة، أو الديمقراطية أو مؤسسات المجتمع المدني أو ما يُسمى بالأطر الاجتماعية المحبذة للمعرفة كلّها مسارات معقدة وصعبة التأسيس والتفعيل، وهي مسارات لا تنتهي أبدا لأنّها لا تتحقق دفعة واحدة ولا يمكن استيرادها أو ضخها عبر وسائل الإعلام فينتهي الأمر، وإنّما تتأسس بالتدريج ويتم إثراءها وتعديلها في كلّ مرّة.

الرجوع إلى الأعلى