قصيدة النثر صارت محفلا ثقافيا يستجيب لنداء لحظة الحياة العربية
في هذا الحوار، يتحدث الشاعر والكاتب ميداني بن عمر، عن «قصيدة النثر العربية المعاصرة»، وهو الموضوع الذي اختاره لأطروحة الدكتوراه التي ناقشها مؤخرا بجامعة قاصدي مرباح/ورقلة. كما يتحدث عن إشكالات تحليل الخطاب الشعري المعاصر من وجهة نظر الدرس الثقافي، وعن نظريات النقد الثقافي التي ظلمت قصيدة النثر، مشيرا في هذا المعطى إلى شحّ الدراسات حول قصيدة النثر ومقاربتها من وجهة الدرس الثقافي. بن عمر، تحدث أيضا في ذات السياق عن اختياره لهذا الموضوع الإشكالي، وعن أمور أخرى ذات صلة بقصيدة النثر وإشكالاتها، نكتشفها في هذا الحوار.
حاورته/ نـوّارة لـحــرش
ناقشتَ في الآونة الأخيرة أطروحة الدكتوراه، وكان موضوعها «قصيدة النثـر العربية المعاصرة ودراسة في الأنساق الثقافية». لماذا هذا الموضوع تحديدا، خاصة وأنّ قصيدة النـثـر قد قطعت أشواطا كبيرة واحتلت مكانتها في خارطة الشعر العربي بكثافة وامتياز؟
ميداني بن عمر: هذا صحيح، وقد مضى أكثر من نصف قرن على انبثاقها في الثقافة والأدب العربيين، وقصيدة النثر لا تزال حمّالة الحطب لنيران جدل لا يهدأ إلاّ لكي يستعر ويحتدم أوارها من جديد حول هويتها، وجنسها، وإيقاعها، ونسبها الجينيالوجي التثاقفي المجروح المطعون الأصالة، وكذا قدرتها على الصمود والنفاذ المُضني إلى مستقبلها في ثقافتنا، ومع ذلك ظلّت قصيدة النثر تنازع بقاءها، وتقاوم أنساق وأدها داخل حتمياتها واشتراطاتها التاريخية الجديدة رغم مبدأ القطيعة الحادّ الذي طبع ظهورها الأوّل داخل أروقة «مجلة شعر»، وهي تجرجر الشعريّة العربيّة كي تطأ بها تخومًا بِكرًا لم يدُر يوما في حسبانها الجمالي.
قصيدة النثر التي أزيحت إلى هامش المتن كي تتأمل برودة الموت وهي تجتاف أوصالها فيما تَوَقَّعَه لها سَدَنة النمط القديم، انتعشتْ وتأجَّج عودها واستفحل مدُّها الجمالي، واحتضن أنساقَها الشبابُ على امتداد العالم العربي، وصارت محفلا ثقافيا أثيرا يستجيب لنداء لحظة الحياة العربية الجديدة في منعطفات ثقافتها الكونية الجديدة المُشرعة على التفاعل والتعالق وحتمية العبور من الانكفاء إلى التواصل.
تُنازع بقاءها وتُقاوم أنساق الوأد داخل حتمياتها واشتراطاتها التاريخية الجديدة
لقد صنعت من الهامش مرفأ نسقيًا جديدا يؤهل كلّ ما كان مُحيَّدا، ومسكوتا عنه، ومقموعا مطموسا في الثقافة إلى البروز، والتَّمُشهد، إلى ما يمكن أن نُطلق عليه «التَّشعرن المضاد» في مقابل مصطلح عبد الله الغذامي «التّشعرن» النسقي.
نفهم من هذا أنّ قصيدة النثـر، كانت بمثابة الحادثة الثقافية في المشهد الشعري العربي؟
ميداني بن عمر: تماما، فقصيدة النثر لم تكن مجرّد إزاحة جمالية، أو تعديلا إيقاعيا في (جوقة) الفحول التاريخية العريقة، إنّها كذلك، وأكثر من كلّ ذلك، إنّها حادثة ثقافية تأتي بالتناغم مع عِدة تغيُّرات، ونوازل نسقية تعتور بنية الثقافة العربية وهي تمتحن استحقاقاتها التاريخية الحاسمة وجدارتها للحضور في المحفل الكوني المفتوح. لذا بدت لغتها الشعرية فاضحة، صادمة وفجة، وموجعة وهي تُسائل السائد، وتُخلخل تمركُزات المألوف. وسيتضح لنا توصيفُها بالحادثة الثقافية أكثر حين نقارن موقفها بموقف الثقافة العربية من شعر التفعيلة، أو مما يصطلح عليه مؤرخو الشعر العربي الحديث بـ«الحداثة الأولى» التي تمّ امتصاصها وقبولها، والتطبيع معها دون مغالبة بيِّنة من أنصار المتن الأصيل. وقد أثبتت الأيّام أنّ روّاد هذه الحداثة انقلبوا على أعقابهم فيما بعد، وحملوا لواء النسق التاريخي بحماسة أشد من حماسة حُماة حُمى أنماط الآباء.. هكذا يبدو لنا أن الجرح الذي خلفته قصيدة النثر في اللحم الحيّ للثقافة العربية أعمق وأبعد غورا من حروق الأوشام الجمالية التي لفحت جلدها عبر «حداثة التفعيلة.«
كانت المسافة بين ظهور قصيدة التفعيلة وقصيدة النثـر، مسافة إشكالية وشائكة. ما الذي يمكن أن تقوله في هذا السياق؟
ميداني بن عمر: إنّ المسافة الزمنية بين ظهور قصيدة التفعيلة بشكلها المُكتمل تنظيرا وتجريبا (1947)، وانبثاق قصيدة النثر عبر جماعة «شعر» العام 1957، ببيروت المدينة الكوسموبوليتية المُختلفة والمفتوحة والمؤهلة لرعاية أيّ وثبة نسقيّة ثقافية مضادّة ومحتملة، هي عشر سنوات –فقط- كانت حافلة أيضا بوقائع تاريخية واجتماعية –كحركات التحرر ورهانات العرب الخائبة بعد الحرب العالمية الثانية وانعكاساتها على النُخب وباقي الشعوب، وكذا النكبة الكبرى المُتمثلة في سقوط فلسطين، واهتزاز الثوابت الوطنية والتاريخية بعد انكفاء تجربة الكفاح المسلح الوطني ما نتج عنها تفتت الأيديولوجيات وتراجعها وتخبطها، واستفحال أزمة الديمقراطية، وغياب المُثل وفقدان النموذج القيادي وبالتالي انكسار رموز البطريركية السلطوية وتهاوي نُصب الفحولة السياسوية المعاصرة- من جهة، ومن جهة أخرى بروز مظاهر التحديث المتوّجس منذ الاحتكاك بالاستعمار، وانتشار الطباعة، وازدهار وسائل التواصل، وظهور المُدن والحواضر العربية الجديدة وغيرها... فمن شأن كلّ هذا وذاك أن يرُجّ، ويُتعتِعَ الجهاز النسقيّ الثقافي العربي ما سيُلقي بظلاله على عِدة منظومات ثقافية وأهمها الشعر؛ الذي يُشكل العلبة السوداء التي حفظت الجينات النسقية للثقافة العربية ردحا من الزمن.

عشر سنوات فقط هي المسافة الزمنية بين الهزتين التحديثيتين التي شهدها تاريخ  الشعر العربي لتتتالى عبرها التجارب وتتوالى وتتعدّد المنابر والبرامج الجمالية الشعرية عبر قوالب وأنماط بثٍّ مختلف ومتجدد.
وماذا عن تحليل الخطاب الشعري المعاصر من وجهة نظر الدرس الثقافي دائما؟
ميداني بن عمر: أفردتُ في دراستي جزءا هاما من عرضها لتحليل الخطاب الشعري المعاصر من وجهة نظر الدرس الثقافي النقدي الذي يتغيا دائما الحفر والتأويل والتقويض والتأثيل للوقائع والعلامات الدالة في الخِطاب دون الاكتفاء بالوقوف عند بعدها الجمالي المخادع عادة. أيضا تحدثت من جهة أخرى عن أهمية الدراسات النسقية التحليلية الثقافية في مقاربة ظاهرة شعرية مثيرة للجدل كقصيدة النثر في منظومتنا الثقافية العربيّة باعتبار أنّ الدرس الثقافي التحليلي قد يسعفنا في الوصول إلى نتائج مختلفة تتواءم والموقع المختلف الذي تعتمل داخله قصيدة النثر في النسيج الجنساني الأدبي العربي أكثر من المناهج الجمالية الأدبية الشكلانية التي لا تخلو طروحاتها المعيارية –إلى الآن- من تعسف وأحكام قيمة تصادر على المطلوب من هذا الجنس، فتنتهي أحيانا إلى آفاق مقطوعة أو نتائج تجانب تطلعاتها الجمالية المختلفة، وهي تتسع وتمتد وتكتسِحُ إبداعا وتلقيا.
الشائع أنّ نظريات النقد الثقافي ظلمت قصيدة النثـر، وربّما بعض الأدب حين زجت به في خانة التوصيفات والتصنيفات. ما رأيك؟
ميداني بن عمر: لقد رَكَحتْ تصوراتنا إلى هذا الموضوع بالذات من خلال استشعارنا للخوف الذي يداهم الأدب من آخر ما صارت إليه نظريات النقد الثقافي الراهنة حتى أمست تتحدث عن موت الأدب كما ذهب إليه «ألفين كرنان» و»ثيري اغلتون» وهو ما حدا بتودوروف إلى أن دق الناقوس في كتابه «الأدب في خطر»، أحسسنا حينئذ أن بعض قراءات النقد الثقافي قد تظلم بعض الأدب حين تصفه بالنخبوية والرجعية والأكاديمية المتعالية وحمّال أنساق قاتلة وقبيحة بعد أن لمسنا أن معظم الدراسات النقدية التي قرأت قصيدة النثر قرأتها بوصفها حادثة أدبية جمالية وتندر –أو تعدم إن جمح بنا الشَّطط- الدراسات النقدية التي قرأتها بوصفها حدثا ثقافيا بالأساس، وبوصفها تحوّلا في النسق الحضاري والثقافي بدءا من رؤية الذات لذاتها، ولتقلبات الفعل الثقافي ضدّ أنساقه. فالقراءات التي تتعاطى معها بوصفها أثرا جماليا لا تخلو من مواقف مسبقة، وانتظارات قيمية جاهزة تُجحف وتُحيف بجماليات هذا الجنس المُبتكر لمعاييره، والواثب أبدا فوق مقاماته التخييلية الناجزة، بعكس القراءة الثقافية التي تتمثل أيّ صيرورة جمالية تؤول إليها قصيدة النثر داخل إحداثيات سياقاتها الحادثة. وهو ما يبرر لنا، ربّما، شُحَّ المشاريع النقدية التي تنبري لدارسة قصيدة النثر وبالأخص من منظور التحليل الثقافي أمام تراكم هذه المتون وتراصفها في رفوف المشهد الثقافي العربي الراهن، على غرار ما فعله الباحث السعودي محمد عبد الله الغذامي وهو يتناول حادثة قصيدة التفعيلة النازكية بوصفها فعلا تأنيثيا ثقافيا بالأساس في كتابه «تأنيث القصيدة والقارئ المختلف»، وعلى غرار دراسة جميل عبد الحميد، نحو تحليل أدبي ثقافي «تجربة نقدية في قصيدة النثر وخطاب الأغنية». وقد حاولت هذه الدراسة أن تكسر الانغلاق الذي وقعت فيه البنيوية وكلّ تحليل أدبي تقوقع داخل النص ليتسع التحليل للبعدين الأدبي والثقافي، وهو بحث ثري وقيم.
وعلى غرار كِتاب «ضد الذاكرة، شعرية قصيدة النثر» للباحث السعودي «محمد العباس»، وهو على درجة عالية من الأهمية في هذا الصدد. وقد حاول أن يقرأ قصيدة النثر بوصفها منشطا جماليا قطائعيا بامتياز خالصا في نهايات كلّ فصوله، ذاهبا إلى أنّ معضلة قصيدة النثر الراهنة من معضلة تلقيها أو ذائقتها المحاصرة على حد وصفه، لكنّه لم يقارب قصيدة النثر نسقيًا في مواجهة أنساق الشعر العربي والثقافة العربية عامة.
من جهة أخرى، ألا ترى أنّ الدراسات حول قصيدة النثـر ومقاربتها من وجهة الدرس الثقافي، تظلّ بشكل ما قليلة أو شحيحة؟
ميداني بن عمر: هذا صحيح. أجل، تظلّ الدراسات التي تقارب قصيدة النثر من وجهة نظر الدرس الثقافي في عالمنا العربي شحيحة على الرغم من الموقف النسقي الثقافي المحتدم الذي يسيج إحداثيات قصيدة النثر في فضاء ثقافتنا العربية.
ولقد ارتأيت لموضوع الدراسة التي أنجزتها خطة افتراضية تُعلِّم دربنا الإشكالي نحو الوصول إلى آفاق ما نتغياه من هذا المشروع الذي تفرع إلى ثلاثة فصول. ففي الفصل الأوّل الذي وسمته بـــ»قصيدة النثر وروافد تخلُّقها»، وضعتُ في حيّزه سردٌ لسيرة قصيدة النثر وسياقات تخلقها في جسد الثقافة العربية، والروافد الثقافية التي أسهمت في انبثاقها، ومن ثَمَّ الحديث عن احتدام السجال حول تلقيها، وقبولها من عدمه في ثقافتنا وما يقف خلف ذلك من أنساق سوسيو ثقافية تحكم هذه المواقف من تلك.
لم تكن مجرّد إزاحة جمالية، إنّها أيضا حادثة ثقافية
أمّا الفصل الثاني «مدارات التجاوز ومقامات الذات»، فكان فيه كشفٌ للانعطافات النسقية التي قطعتها قصيدة النثر بالشعر العربي إزاء أنساقه القديمة، وحديث عن تحولات مقامات الذات المبدعة تبعا لمآلات أنساق الثقافة العربية.
في حين الفصل الثالث «قصيدة النثر النسوية وتأنيث النسق الفحولي»، فقد أفردته لتأنيث أنساق الشعر العربي من خلال قصيدة النثر، وعلاقة ذلك بانعتاق الصوت الشعري النسوي المعاصر، وكذا حديث عن الحوافز النسقية التي تقف وراء كلّ ذلك.
وما هي أهم النتائج التي خلصت إليها؟
ميداني بن عمر: لقد خلصت إلى نتائج عامة، اختصرت ما استطعت تقطيره من عصارة هذا الجهد، بعد أن حاولتُ جهدي وبذلتُ في ذلك مكابدات قرائية واستقصائية من أجل رأب هذه الشروخ الحيرى بسبب من جِدة هذا الموضوع وحداثة عهده بالنقد العربي، وبالتالي ندرة المشاريع النقدية الدارسة لقصيدة النثر العربية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فقد واجه بحثي ندرةً في المدونات الشعرية العربية عامة،  والجزائرية، خاصة، والمنشورة في مطبوعات على الرغم من كثرة أسمائهم (هن) في الساحة الثقافية وفي منابر الملتقيات؛ فأغلبهم يفضل النشر في الصحف أو النشر الإلكتروني الذي نحمد –بعد الله- آلاءَه ليلا ونهارا، إذ أنّه الواسطة الوحيدة التي رممت جزءا كبيرا من هياكل الدراسة، حيث أُتيح لي التواصلُ مع من أعرف منهم ومَكَّنوني من الحصول على مجاميعهم الشعرية، وكذا دراسات نقدية تتصالب مع محاور مبحثي، إنْ عبر البريد العادي، أو عبر البريد الافتراضي، في نسخ ضوئية متطابقة (pdf)، ما أعطى دفعا قويا لقراءتي وأخرجني من مأزق قلة المؤونة العلمية، وعوز ذات اليد من المادة المصدرية الرئيسة.
ن.ل

الرجوع إلى الأعلى