« جول فيـري» .. ذاكــرة قسـنطينــة التعليميـة التـي تنـام  على ضريح  سيدي الجليس
متربعة وسط حي سيدي جليس العريق بقلب قسنطينة، مزينة بهندستها نهج بيطاط معمر الذي لا يزال محافظا على أصالته و بناياته القديمة بأبواها الخشبية الموروثة عن الفترة الاستعمارية، التي لا تزال شامخة محافظة على معالمها و الأيادي الحديدية المعلقة بها، و أرضيته المفترشة بالحجارة الطبيعية التي تعيد المتجول فوقها لسنوات مضت، هي مدرسة « جول فيري» سابقا ، و متوسطة محند ولد علي  حاليا، المشيدة من قبل المستعمر الفرنسي فوق ضريح الولي الصالح سيدي جليس، و التي تعتبر من أبرز المعالم الشاهدة على ما اقترفه المستعمر الفرنسي .
استطلاع أسماء بوقرن
نسوة يمارسن طقوسهن بالمتوسطة تبركا بسيدي جليس
متوسطة محند العربي ولد علي حاليا و مدرسة « جول فيري» إبان الاستعمار الفرنسي، تقع بساحة سيدي جليس وسط مدينة قسنطينة، و قد بناها الفرنسيون سنة 1851 ، في إطار بناء  مؤسسات تعليمية في الجزائر لدعم سياستهم الاستيطانية بنشر لغتهم و دينهم، و كانت تحتوي على الطورين الابتدائي و المتوسط معا، لتصبح حصنا للجزائر و معقلا حقيقيا للثوار، و قد اختير لها بعد الاستقلال اسم الشهيد محند العربي ولد علي الذي التحق بصفوف جيش التحرير الوطني، بعد تخرجه من المدرسة العليا للهندسة المعمارية بالعاصمة و إضراب الطلبة الجزائريين سنة 1956، ليسقط في ميدان الشرف سنة 1959.
 و يعتبر من أبرز الشخصيات الثورية الذين درسوا بمدرسة جيل فيري التي حملت اسمه لاحقا، و شيدت على ضريح سيدي جليس، و قد أكد لنا سكان الحي و موظفون قدامى بالمدرسة، بأنها كانت عبارة عن زاوية للولي الصالح سيدي جليس و قام المستعمر بتهديمها، لأنها كانت تقدم فيها دروسا في الدين الإسلامي، و ذلك بغية طمس هوية الشعب الجزائري، و تم تشييد مكانها هذه المدرسة، تاركا دليلا على وجود قبر سيدي جليس بها، و ذلك في الطابق الأسفل للمؤسسة، حيث شاهدنا أثناء جولتنا في المؤسسة التعليمية فتحة صغيرة في أسفل الجدار مغطاة بلوحة خشبية، يقال بأن ضريح سيدي جليس يوجد تحتها، غير أننا لم نتمكن من رؤية الضريح، فخلف اللوحة الخشبية مساحة صغيرة مبلطة و بها ثقب صغير أسود ، يدل على وضع الشموع به. و علمنا من العمال بأن نساء مسنات، يترددن على ذلك المكان برفقة بناتهن و حفيداتهن أحيانا، و يقمن بطقوس عديدة و من بينها إشعال الشموع، تبركا بالولي الصالح.
شخصيات سياسية و ثورية و أدباء مروا من هنا

مدرسة محند العربي ولد علي، تعتبر نقطة انطلاق المشوار التعليمي لعدد كبير من الشخصيات السياسية و التاريخية و الثورية و حتى الأدباء  و ألمع نجوم الموسيقى القسنطينية ، لتصبح أسماؤهم لصيقة بها، و من بينهم أحد أعضاء مجموعة 22 المفجرة للثورة و ثالث رئيس للجزائري بعد الاستقلال رابح بيطاط، و الأديب مالك حداد، بالإضافة إلى شخصيات تاريخية  كبلقاسم طاطاش و عبد السلام الدقسي و توفيق خزندار، و كذا أطباء لامعين، على غرار الدكتور بن شريف، و عميد المالوف القسنطيني محمد الطاهر الفرقاني و أسماء أخرى.
 بناية شامخة لم تلمسها يد الترميم
سلكنا نهج بيطاط معمر بحي سيدي جليس العريق الذي لا تزال دكاكينه المختصة في تصليح الساعات شامخة بديكورها التقليدي الجميل ، متجهين إلى مدرسة   ولد علي، الكائنة على بعد نحو 4 أمتار من منبع المياه الذي يقصده كل زائر لقسنطينة لشرب مائه العذب و الاغتسال ، دخلنا من بابها الصغير، حاملين في ذاكرتنا اسمها القديم الذي اشتهرت به، آملين أن نغادرها محملين برصيد من المعلومات التاريخية عن هذه المؤسسة ذات الهندسة الفرنسية، و التي يخيل لك عند مشاهدتها من الخارج أنها مجرد بناية عادية، غير أنها تخفي وراء أسوارها المتينة 14 قسما و مخبرين و مكتبة مجاورة لمكتب المدير و قاعة للأستاذة تطل على  فناء صغير شبيه بوسط الدار التقليدي، و جميعها لا تزال تحافظ على معالمها و على الفسيفساء التي تزين الجدران على جانبي سلالمها، بالرغم من مرور 116 سنة على تشييدها.
و اللافت أن البناية لم تخضع لأية عملية ترميم و لا تزال صامدة و شامخة و لم يتهدم أي جزء منها، ما عدا بعض التشققات الخفيفة بحواف  سلالمها، بالرغم من تعاقب الأجيال عليها، و زاد عنصر النظافة و الاهتمام بنباتات الزينة، حيث وجدنا أروقتها الواسعة مزينة بمزهريات مليئة بالورود و النباتات الطبيعية، و لاحظنا بأن فناءها و أقسامها نظيفة جدا  تنبعث منها رائحة النباتات العطرة.
جدير بالذكر بأن زيارتنا لهذه المؤسسة كان دون ترتيب أو تحديد موعد مسبق، و قد لفت انتباهنا الهدوء الذي يخيم عليها، نظرا لتقلص عدد التلاميذ بها ، بعد أن خضعت أحياء وسط المدينة لعمليات ترحيل متتالية، ليصبح، حسب مدير المتوسطة عبد الهادي شطاح، 215 تلميذا يؤطرهم 20 أستاذا، بعد أن كان يفوق 800 تلميذ.دخلنا قاعة الأرشيف، فوجدنا أرضيتها و رفوفها مليئة بالغبار و كأنها مهجورة، لكننا كنا نأمل أن نعثر داخل العلب المتواجدة بها على كنوز من المعلومات تروي حكاية من  تعاقبوا على أقسامها، من أجانب و جزائريين، لكننا فوجئنا بخلو الأرشيف من وثائق و مراجع، تسلط الضوء على تاريخ المؤسسة و من تعاقب على إدارتها من فرنسيين و جزائريين، و تجعلنا نتأكد من أسماء الشخصيات التي مرت بها .

بعد ساعة من البحث داخل العلب غير المنظمة و غير الموسومة ، وجدنا وثيقة صغيرة صدرت عن إدارة المدرسة سنة 1961 مصادق عليه من قبل مفتش التربية و نائب عميد الجامعة الفرنسي آندري جاكن، حول إحياء عيد الشباب يومي 3 و 4 جوان 1961 ، فيما لم نتمكن من إيجاد مخلفات المستعمر الفرنسي من مجلدات و كتب ، ما عدا بعض الصور الجماعية للتلاميذ الذين درسوا بها.كما عثرنا بقاعة الأرشيف على وثائق إدارية  مدفونة في علب تحت غبار، حالها كحال مجموعة كبيرة من الصور التي تعود لسنوات عديدة، و قالت لنا إحدى الموظفات ،  بأن أرشيف المدرسة تم نقله إلى مؤسسة بن باديس، بعد أن تحولت المؤسسة إلى متوسطة .
 الحنين يعيد فرنسيين إلى المكان
و أخبرنا موظفون بالمؤسسة بأنها محج للفرنسيين الذين درسوا بها ، إذ يستقبلون بين الحين و الآخر فرنسيين يقولون بأنهم قدموا إليها  لتذكر طفولتهم و أقسامهم ،  حيث يتجولون بين أروقتها و الدموع تملأ عيونهم، و أضافوا في سياق آخر، بأن المؤسسة كانت تخصص بعد الاستقلال، فضاء للحرف اليدوية و كانت أمام بوابتها الرئيسية طاولات الحلويات التقليدية التي تشتهر بها قسنطينة مثل الكاوكوية و النوقة و غيرهما ، و كان التلاميذ يساعدون أصحاب هذه الطاولات في جمع الحلوى في أكياس بلاستيكية قبل عرضها للبيع.
المؤسسة مهددة بالانزلاق
لدى دخولنا المؤسسة، لاحظنا وجود تسرب كبير للمياه أمام الباب الرئيسي الذي يستعمله التلاميذ و عمال المؤسسة، و يمتد على طول الممر، و بعد استفسارنا عن ذلك ، علمنا من الموظفين بأن هناك عطب في القناة الرئيسية للمياه منذ نحو 10 أشهر، و قد اتصل المدير السابق للمؤسسة الطاهر حراث مرات عديدة بشركة المياه و التطهير « سياكو» لإصلاح العطب، إلا أنه لم يتم ذلك  ، و هو ما أكده مدير المتوسطة الحالي عبد الهادي شطاح ، الذي قال لنا بأنه اتصل هو الآخر بذات المصالح عديد المرات دون جدوى، مشيرا إلى أن ذلك يشكل خطرا كبيرا على أساس المؤسسة ، إذ أنه لاحظ وجود انزلاق في مدخل المؤسسة ، أين يتجمع التلاميذ قبل دخولهم ، و هو ما لاحظناه خلال زيارتنا، فيما حاولنا الاتصال بـ» سياكو» غير أنه تعذر علينا ذلك.                                           
  أ ب

الرجوع إلى الأعلى