حقيقة زيارات رؤساء فرنسا إلى الجزائر المستقلة كانت دوما حدثا متميّزا و لم تكن زيارات عادية، بل هي محطات محاطة بملفات خلافية مزمنة يزيدها سخونة على ضفتي المتوسط، ذلك السجال السياسي و الإعلامي المتشنج حول قضايا الذاكرة و حوادث التاريخ
و أثرهما على مستقبل العلاقات بين البلدين.
و زيارة الرئيس إيمانويل ماكرون اليوم لا تشذّ عن هذه القاعدة التي لم يستطع الطرف الفرنسي أن يتخلص منها طوال نصف قرن من الزمن و يتجاوزها بشجاعة لبناء علاقات تعاون و صداقة على أساس احترام المشاعر
 و جبر الخواطر و ترميم أواصر الثقة و إظهار النوايا الحسنة، و في النهاية التعامل مع الطرف الجزائري على أنه بلد مستقل غير منقوص الأهلية و الحقوق.
و مع أن ضيف الجزائر اليوم يستقبل في إطار زيارة دولة تم ترتيبها بعناية منذ اعتلاء هذا الشاب قصر الإليزيه، فإن الجزائريين لا يتوهّمون كثيرا و لا ينتظرون شيئا كبيرا على لسان ماكرون الفيلسوف الذي قدم نفسه على أنه الرئيس الفرنسي الأقل تمسكا بالتاريخ الاستعماري الأسود لبلاده بل يتنكر له.
الأكيد أن مستقبِلي " صديق الجزائر" يعلمون جيّدا أن إيمانويل ماكرون الرئيس الفرنسي الآن لم يعد هو نفسه ذلك الشاب الذي خطب ودّ الجزائر عندما كان يحلم بالجلوس على الكرسي الذي جلست عليه شخصيات سياسية نادرة مثل دوغول و ديستان و متيران و شيراك.
و قد اتضح أن رئيس فرنسا الجديد صعب عليه التخلي كلية عن إرث سابقيه و لا يريد أن يتقدم خطوة أخرى، بل أنه لم يعد يظهر أي حماسة للحديث عن ملف الماضي الاستعماري لبلاده.
العالم كله تابع تصريحات و معاملات رئيس فرنسا و هو يزور مؤخرا دولة بوركينافاسو في إطار الجولة التقليدية لرؤساء فرنسا لتفقد مستعمراتها القديمة، أين أحرجته طالبة و هي تطلب منه إدانة صريحة للظاهرة الاستعمارية.
خطوة ماكرون الأولى بتوصيف ما ارتكبه الاستعمار الفرنسي في الجزائر بأنه جريمة ضد الإنسانية و كفى، لم تعد كافية و هي تحصيل حاصل، فلم يعد بوسع أي فرنسي عاقل أن يفتخر بالمجازر و المذابح التي ارتكبها الجنود الفرنسيون في المستعمرات القديمة و من بينها الجزائر.
الجزائر و هي تستقبل دائما ضيوفها الفرنسيين بحفاوة بالغة و خاصة الرؤساء منهم، لم تستجد يوما الاعتذار و لم تشترط الاعتراف بالجرائم الاستعمارية، بل تركت الطرف الفرنسي لتحكيم ضميره الجمعي و مساءلة ماضيه غير المجيد، و ما إذا كان بالإمكان حقيقة إقامة مصالحة حقيقية و بناء علاقات ثقة، في حالة الاستمرار في إنكار التاريخ و رفض الاعتذار.
و في انتظار الاعتذار تبقى العلاقات الجزائرية الفرنسية خاضعة للمد أحيانا و للجزر أحيانا أخرى، على أمل تجسيد دعوة المصالحة التاريخية المفتوحة التي وجّهها الرئيس بوتفليقة إلى الصاعد الجديد على عرش فرنسا.
زيارة ماكرون اليوم قد تكون مثل سابقاتها مع الرؤساء السابقين من الناحية البروتوكولية، أو التوقيع على بروتوكولات اتفاقيات و صفقات و رفع بعض الصعوبات التي تعترض ملفات التعاون التجاري و الاقتصادي و حتى الثقافي
و القنصلي، و لكنها تحتفظ بطرح سؤال جوهري على ضيف لا عذر له بعدم الإجابة عليه و هو هل يعتذر أم لا يعتذر للجزائريين؟.
الذين يصرّون على مطلب الاعتذار على حق لأنهم يواصلون معركتهم إلى النهاية لدحض الظاهرة الاستعمارية و الوقوف في وجه   "النيوكولونيالية" التي تتخذ أشكالا ملتوية و طرقا ماكرة لإخضاع الشعوب المستضعفة
و تجريدها من خيراتها بالضبط كما كان يفعل الاستعمار القديم.
النصر

الرجوع إلى الأعلى