أكدت العالمة المتخصصة في طب الأعصاب و الوراثة بجامعة ساوثهامبتون للعلوم الصحية والبيئية، بالمملكة المتحدة، الدكتورة أمرتيال موذيز، أن ذبابة الفاكهة «Drosophila melanogaster» ، تعد مرشحا قويا لفهم الأمراض العصبية المعقدة التي تصيب الإنسان، مثل الزهايمر وباركنسون.
وشرحت العالم في حوار خصت به النصر، أنه على خلاف ما قد يوحي به حجم الذبابة، فإنها تعد واحدة من أهم الكائنات النموذجية في علم الأحياء والوراثة العصبية.
وبحسب ما أوضحته العالمة، فإنه ومنذ أكثر من قرن، استخدمها العلماء لاكتشاف المبادئ الأساسية لعلم الوراثة، لتتحول لاحقا إلى منصة حيوية قوية تسمح بفهم آليات الأمراض على مستوى الجينات، والبروتينات، والخلايا العصبية.
وتشارك الذبابة الإنسان في نسبة كبيرة من الجينات، تصل إلى نحو 75 ٪ من الجينات المرتبطة بالأمراض البشرية، مما يجعلها نموذجا مثاليا لدراسة الأمراض وتطوير الأدوية بطرق سريعة، دقيقة ومنخفضة التكلفة.
في هذا الحوار، نسلط الضوء على كيف أسهمت هذه الذبابة، رغم بساطتها، في إعادة رسم الخريطة العصبية لفهم الزهايمر، وعلى ما تتيحه من إمكانات جديدة للبحث العلمي في كل أنحاء العالم، بما فيها إفريقيا والجزائر.
النصر: قد يتفاجأ البعض باستخدامك لذبابة الفاكهة «Drosophila melanogaster» كنموذج لدراسة مرض الزهايمر. ما الذي يجعل هذا الكائن الصغير أداة فعالة لفهم الاضطرابات العصبية المعقدة؟
امرتيال موذيز: قد يبدو غريبا للبعض أن نستخدم ذبابة الفاكهة «Drosophila melanogaster» كنموذج لدراسة أمراض معقدة مثل الزهايمر، ولكن في الحقيقة، هناك عدة أسباب قوية تجعل منها أداة نموذجية فعالة، ليس فقط لدراسة الأمراض العصبية التنكسية، بل لمعظم الأمراض البشرية. أولا هي كائن صغير وسريع النمو ودورة حياته قصيرة، ما يسمح لنا بطرح أسئلة علمية معقدة والحصول على إجابات سريعة نسبيا.
لكن الأهم من ذلك، هو أن هذا الكائن استفاد من تطور هائل في الأدوات الجينية منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي. لقد طور العلماء أدوات دقيقة للتحكم والتعديل في الجينات داخل ذبابة الفاكهة، لدرجة أن عددا من جوائز نوبل في الطب وعلم وظائف الأعضاء، تم الحصول عليها بفضل الأبحاث التي استخدمت فيها هذه الذبابة.
اليوم، تستخدم ذبابة الفاكهة بشكل متزايد في دراسة العديد من الأمراض البشرية، بما في ذلك السرطان، وأمراض القلب، والاضطرابات العصبية، لأنها تمثل نموذجا جزيئيا قويا للغاية.
الأمر الأهم أن المعلومات التي نحصل عليها من دراسة هذا الكائن غالبا ما تكون قابلة للتطبيق على الإنسان، لأن العديد من العمليات البيولوجية الأساسية مشتركة بيننا وبينها، وتم الحفاظ عليها عبر ملايين السنين من التطور.
يعني هذا أن الدروس التي نتعلمها من دراسة الجينات والعمليات البيولوجية في ذبابة الفاكهة، لها صلة مباشرة بصحة الإنسان. وبفضل هذه الأدوات والتقنيات، يمكننا الآن أن نفهم بشكل أفضل الآليات الجزيئية التي تقف وراء الأمراض البشرية، مما يفتح الباب أمام تطوير علاجات دقيقة وفعالة.
ما هي أوجه التشابه الجينية أو الجزيئية الأساسية بين ذبابة الفاكهة والإنسان، والتي تتيح إجراء هذا النوع من الأبحاث التطبيقية؟
لا يعرف كثير من الناس أن حوالي 75 ٪ من الجينات والبروتينات المرتبطة بالأمراض البشرية لها نظائر أو ما يعرف بـ»الأرثولوجات» «orthologs» في ذبابة الفاكهة.
وهذا يعني أن العديد من البروتينات التي تسبب أو تشارك في الأمراض لدى الإنسان، لها نسخ مشابهة جدا في هذا الكائن البسيط.
75 بالمئة من الجينات والبروتينات
المرتبطة بالأمراض البشرية لها نظائر
في ذباب الفاكهة
وبفضل هذا التشابه الكبير، يمكننا دراسة وظيفة الجين أو البروتين في نظام بسيط مثل ذبابة الفاكهة، ثم نسقط تلك النتائج على الكائن البشري الأكثر تعقيدا.
وهذا ما يجعل Drosophila نموذجا فعالا في الأبحاث التطبيقية، لأنها تتيح لنا فهم آليات الأمراض في بيئة جزيئية واضحة، ومن ثم ترجمة تلك المعلومات لفهم الأمراض عند الإنسان.
بعبارة أخرى، كلما فهمنا كيف يعمل الجين أو البروتين في ذبابة الفاكهة، نستطيع أن نبني عليه فهما أعمق لكيفية عمله أو اختلاله في الإنسان، وبالتالي نقترب أكثر من فهم أسباب المرض وطرق معالجته.
مقارنة بالنماذج الحيوانية المعتمدة على القوارض، ما هي المزايا المحددة التي تقدمها ذبابة الفاكهة «Drosophila» في دراسة الآليات المسببة لمرض الزهايمر؟
هناك فرقان أساسيان يجعلان من ذبابة الفاكهة نموذجا مميزا مقارنة بالقوارض مثل الفئران. أولا، دورة حياة ذبابة الفاكهة قصيرة جدا فهي تعيش حوالي 40 يوما فقط، في حين أن الفأر أو الجرذ قد يعيش نحو سنتين.
هذا يعني أنك في نموذج القوارض تحتاج إلى وقت طويل جدا لدراسة التغيرات المرتبطة بالعمر أو تطور الأمراض العصبية التنكسية مثل الزهايمر، في حين يمكنك الحصول على بيانات كاملة في فترة قصيرة جدا باستخدام ذبابة الفاكهة. ثانيا، وربما الأهم، هو أن ذبابة الفاكهة تعد من أكثر الكائنات الحية تطورا من حيث الأدوات الجينية المتوفرة.
لا توجد أي كائنات نموذجية أخرى تمتلك ترسانة أدوات جزيئية وجينية بهذا العمق والدقة. يمكنك تعديل الجينات، تشغيلها أو تعطيلها، ومتابعة تأثيرها بدقة عالية، وهو ما لا يزال أكثر تعقيدا أو محدودا نوعا ما في نماذج القوارض
أضف إلى ذلك، أن أبحاث ذبابة الفاكهة منخفضة التكلفة بشكل كبير مقارنة بأبحاث الفئران. فتجربة واحدة باستخدام القوارض قد تكلف أكثر من 100 ضعف ما تكلفه التجربة نفسها على ذبابة الفاكهة، هذا إذا أمكن تنفيذها أصلا بنفس التفاصيل.
وبالتالي، فإن Drosophila ليست فقط أسرع وأسهل في الاستخدام، بل أيضا أكثر كفاءة من حيث الوقت والمال في دراسة الأمراض المعقدة مثل الزهايمر.
هل يمكنك تلخيص أبرز النتائج التي توصل إليها فريقك فيما يتعلق بالمسارات الجزيئية المرتبطة بمرض الزهايمر؟
من بين أهم الاكتشافات الحديثة التي توصلنا إليها، أننا حددنا تغيرا مهما يحدث في بروتين تاو Tau الموجود في دماغ الإنسان، وهو أحد البروتينات المرتبطة بشكل وثيق بتطور المرض. هذا التغير يجعل البروتين يتحول إلى شكل سام وخطير على الخلايا العصبية.
لكن ما قمنا به هو أننا نمذجنا هذا البروتين داخل ذبابة الفاكهة، وتمكنا من تحديد جزء معين داخل بنية البروتين هو المسؤول عن هذا السمية. وعندما قمنا بحذف هذا الجزء «أو المجال» من البروتين جينيا داخل دماغ الذبابة، لاحظنا أن البروتين لم يعد ساما، بل أصبح غير ضار.
بناء على هذه النتائج، يعمل فريقنا الآن على تطوير أدوية تحاكي تأثير الحذف الجيني لذلك الجزء من بروتين تاو.
والهدف من ذلك هو التحقق مما إذا كان من الممكن منع السمية العصبية لدى الإنسان بنفس الطريقة، أي من خلال استهداف هذا الجزء المحدد من البروتين، دون الحاجة لتعديله وراثيا.
هذا الاكتشاف يمنحنا نموذجا جديدا لفهم كيفية تحول بروتين تاو إلى عامل مرضي في الدماغ، ويفتح الباب أمام تدخلات علاجية أكثر دقة، قد تساعد على منع أو إبطاء تطور مرض الزهايمر لدى المرضى.
عنوان مداخلتك يتضمن عبارة «من المختبر إلى سرير المريض» إلى أي مدى اقتربت اكتشافاتكم من التطبيقات السريرية أو العلاجية الفعلية؟
أحد أبرز الأدوية التي وصفناها خلال أبحاثنا هو دواء خاضع حاليا للعلاج الكيميائي التجريبي «chemotherapeutic drug»، وقد أثبت فعاليته بشكل واضح في نماذج ذبابة الفاكهة المصابة بأعراض تشبه أعراض مرض الزهايمر. بعد ذلك، أظهرت التجارب على نماذج القوارض أيضا نتائج إيجابية، ومن ثم تم الانتقال إلى تجارب سريرية مبكرة على البشر.
وقد أظهرت هذه التجارب تحسنا ملحوظا في المزاج والأداء الإدراكي لدى الأشخاص في المراحل الأولى من المرض، مما يدل على إمكانية تأثير هذا الدواء على الأعراض المبكرة للزهايمر.
من جهة أخرى، هناك الآن شركات تعمل على تقييم إمكانية تطبيق نفس الدواء في المراحل المتأخرة من المرض، وهو مجال لا يزال تحت الدراسة والتطوير.
كما اكتشفنا مؤخرا دواء جديدا، وقد نشرت نتائج البحث العام الماضي، وهو دواء يعمل على منع تكدس بروتين Tau من خلال منع تجمعاته المرضية.
وقد أثبت هذا الدواء فعاليته في نماذج ذبابة الفاكهة، وكذلك في أنظمة خلوية بشرية، ونحن حاليا نستكشف فرص التعاون مع شركات خاصة لأخذ هذا المركب إلى مستوى التطبيق السريري.
نقوم بإجراء نماذج لعلاجات
تساعد على إبطاء
و منع تطور المرض
ورغم أننا لم نصل بعد إلى المرحلة النهائية من الانتقال الكامل إلى المرضى، إلا أننا نبحث بجدية عن شراكات صناعية تساعدنا على نقل هذا الدواء من المختبر إلى العيادة.
كيف تساهم دراساتكم في فهم دور تكدس بروتين «تاو» في تطور مرض الزهايمر؟ وكيف يتطور هذا الفهم علميا ؟
عندما ينظر العلماء إلى دماغ شخص مصاب بمرض الزهايمر، فإن ما يرونه أشبه بـ»صورة نهائية» أو حجر قبر صامت أي أن الدماغ في تلك المرحلة يظهر التلف، لكن لا يخبرنا كيف وصل الشخص إلى هذه الحالة المرضية، ولا عن الآليات التي أدت إلى هذا التدهور العصبي.
ما تتيحه دراساتنا، من خلال نماذج حية مثل ذبابة الفاكهة، هو فرصة نادرة لدراسة تطور المرض من بدايته كيف يبدأ بروتين «تاو» كبروتين طبيعي، ثم كيف يتغير شكله ويبدأ في التكدس بطريقة غير طبيعية تؤدي إلى إلحاق الضرر بالخلايا العصبية.
من خلال هذه الدراسات، تمكنا من تتبع المراحل التدريجية التي يتحول فيها تاو إلى عنصر سام، وملاحظة كيف تبدأ الخلايا العصبية أولا بفقدان وظيفتها، قبل أن تموت في المراحل المتقدمة.
هذا النوع من الأبحاث يمكننا من تطوير مؤشرات بيولوجية «biomarkers» دقيقة، يمكن استخدامها في المستقبل للكشف عن المرض في مراحله المبكرة جدا، أي في الوقت الذي تبدأ فيه الذاكرة بالاختلال، لكن قبل أن تبدأ الخلايا العصبية بالموت.
وبناء على هذا الفهم التدريجي، نستطيع تحديد النوافذ الزمنية المناسبة للتدخل العلاجي، سواء عبر الأدوية أو الوقاية، قبل أن يتفاقم المرض. بفضل النماذج الحيوية المتاحة لدينا، أصبح بإمكاننا اليوم دراسة تطور المرض من حالته الطبيعية إلى الحالة المرضية بعمق، ورصد متى وأين تبدأ الخلايا العصبية بالتأثر، مما يفتح الطريق نحو فهم أعمق، وتدخلات علاجية أكثر دقة.
كيف تقيمون إمكانات الدول الإفريقية، وخصوصا الجزائر، في الإسهام في أبحاث علوم الأعصاب والوراثة العصبية؟
للأسف، مرض الخرف لم يعد مشكلة تخص الغرب فقط، بل أصبح تحديا صحيا عالميا يمتد إلى جميع القارات، بما في ذلك إفريقيا. ومع سعي المجتمعات للعيش لفترات أطول، تزداد الحاجة إلى إيجاد حلول علمية مبتكرة لمواجهة الأمراض المرتبطة بالتقدم في السن، مثل مرض الزهايمر.
في هذا السياق، أعتقد أن هناك فرصا واعدة للتعاون البحثي مع العديد من الدول، بما في ذلك دول القارة الإفريقية والجزائر بشكل خاص. فالمسألة لا تتعلق فقط بالتكنولوجيا أو التمويل، بل أيضا بالتنوع الثقافي والبيئي والجيني، وهو ما قد يوفر زوايا جديدة لفهم المرض.
هناك مثلا دروس قيمة يمكن استخلاصها من أنماط الحياة في بعض المجتمعات الإفريقية، والتي قد تكون مرتبطة بانخفاض نسبي في معدلات الإصابة بهذه الأمراض.
من المهم جدا أن ندرس هذه الأنماط ونفهم الآليات البيولوجية التي قد تفسر ذلك.
إن تعزيز البحث العلمي في الجزائر والدول الإفريقية، خصوصا في مجالات علوم الأعصاب والوراثة العصبية، ليس مجرد فرصة، بل ضرورة علمية عالمية، لأن التنوع في النماذج والسكان والتجارب يثري الفهم ويعجل في الوصول إلى حلول أكثر شمولية وفاعلية.
حاورتها : لينة دلول