الكتابة شفاء وداء وجواب على فقدان المحبة والسلام
في هذا الحوار، تتحدث الشاعرة والناقدة حليمة قطاي عن الشعر والنقد، وهي تقول بهذا الخصوص بأنّها تقترف (الكتابة النقدية والإبداعية) بشغف كبير، لكن الحس النقدي عندها يتفوق غالبا، فتمتهن القراءة والكتابة النقدية أكثر.قطاي تحدثت أيضا عن ديوانها الثاني «هكذا الحب يجيء» الصادر هذا العام، وعن الصوفية في نصوصها وعن توظيفها للموروث، وعن الكتابة التي تراها شفاءً وداء، وأحيانا تحس أنها تصدر عن طاقة إضافية واعية بالعالم، لا يملكها غير المبدع.
حاورتها/ نـوّارة لحــرش
  حليمة قطاي، شاعرة وباحثة، وأستاذة النقد والسيمولوجيا بجامعة الجزائر العاصمة، لها إبداعيا: «حين تنزلق المعارج إلى فيها» ديوان صادر عام 2012، «هكذا الحب يجيء» 2016، نالت عدة جوائز، من بينها جائزة رئيس الجمهورية للإبداع لعام 2010، جائزة الشعر الوطني النسوي2011، وجائزة أحسن ديوان شعري مخطوط 2013، كما لها بعض الكتب النقدية.
بين عوالم الشعر والكتابة النقدية، أين يكون انحيازك أكثـر؟  
حليمة قطاي: أظنني أقترف العالمين (الكتابة النقدية والإبداعية) بشغف كبير؛ لكن الحس النقدي عندي يتفوق غالبا، فأمتهن القراءة أكثر. أستطيع أن أقول لكِ أني أكتب لأتنفس.. الكتابة عندي ليست مهنة؛ بل استراحة محارب من جد لإرهاق الحياة؛ من ضياع القيم، من فقدان المحبة والسلام، أن تحس أكثر، أن تعي واقعك أكثر، أن تتألم أكثر وتحب أكثر.. هذه هي الكتابة وعليه فالكتابة شفاء وداء. أحيانا أحس أن الكتابة تصدر عن طاقة إضافية واعية بالعالم؛ لا يملكها غير المبدعين؛ من ابتلاهم الله بنبوة منحرفة؛ شعور أكثر وألم أكثر ووعي أكبر بما حولك.. تفريغ كلّ ذلك وشفائه بالكتابة. نحن نكتب (لنصحح شيئا ما!) لكي لا نموت!.
إذا لم تكن الكتابة مشروعا مؤسسا له فهي ضرب من العبث اللغوي
بعد ديوانك الأول «حين تنزلق المعارج إلى فيها» الصادر عام 2012، جاء ديوانك الثاني «هكذا الحب يجيء» هذا العام. ما الذي تقولينه عن هذه التجربة، إذ في الديوان الأول حضرت بعض التوابل الصوفية، وفي الديوان الثاني، حضر الحبّ وبصوفية طفيفة ربّما؟
حليمة قطاي: في الكتابة الصوفية الحب عرفاني يتوق إلى الكمال، والمجموعة الأولى (حين تنزلق المعارج..إلى فيها) ليست صوفية بحتة؛ بل يمكن أن ندمجها ضمن الصوفية الواعية والواقعية يظهر ذلك بدءً من العنوان، فالمعارج التي يرتقيها العارف اتخذت مسرى مخالفا (فم=لغة)/ الشاعرة، ولهذا لا يمكن حصر الحب في اتجاه واحد؛ في المجموعة الثانية (هكذا الحبّ يجيء..) يكمل النص مساره ليوقع العنوان قارئه في لبس التأويل وارتجاج المعنى، أن تخوض القراءة إلى دلالة الحب/ يمكن ذلك إذا اعتبرنا الإنسان والسلام والحريات والعدالة والدفاع عن الإنسانية الغائبة.. وإعادة تركيب المسلمات.. من قبيل الحب لأن هذا ما خاض فيه الديوان. أما الذي لا يعرفه قارئ المجموعة الأخيرة هو أن العنوان (هكذا الحب يجيء..) هو عنوان إحدى قصائد المجموعة الأولى؛ فالكتابة هي متوالية نصوص أو بالأحرى نص واحد متواصل، فإذا لم تكن الكتابة مشروعا مؤسسا له فهي إذ ذاك ضرب من العبث اللغوي؛ ما يعني أن الإبداع في حقيقته هو كلٌّ متكامل يستحضر بعضه ويؤازره؛ لا تستطيع أن تجد نصا سابقا لكاتب يعارض نصه اللاحق إلا إذا كان مبدعا حقيقيا. إن ما نكتبه في الحقيقة يبقى غير مكتمل وكما جاء في مفتتحة المجموعة (لا تستقيم اللغة كأنّها نحن حتى إذا ضـّاعفت خطاياها؛ اغتسلت بماء التآويل).
بالمناسبة الديوان «هكذا الحبّ يجيء»، بدأ بجملة «لا تستقيم اللغة، كأنها خطايانا. حتى إذا ضّاعفت زلاّتها، اغتسلت بماء التآويل»، لماذا هذا المدخل؟، كأنك تلوحين إلى شيء ما أو تفسرين للقاريء قبل أن يدخل النص؟
حليمة قطاي: وحده التأويل يفتح أبواب الحرية للغة، ولقارئه، وحده يتفتح نزق السكينة عند الكاتب، لو استقامت اللغة ما كان الإبداع، ولو بقيت ثابتة دون زلات لكانت الكتابة مجرّد حروف أبجدية لا تتغير. تعبّر اللغة عن حريتنا وحاجتنا إلى التمرد وقلب الجاهز، لم تكن المفتتحة توجيها للقارئ بقدر ما هي إيذان له بأحقية التحرر والتأويل في النص.
الديوان قدم له الكاتب السعيد بوطاجين، وكانت مقدمة احتفت بنصوصك بشكل كبير، هل كنت حريصة على أن يقدمك بوطاجين؟، أيضا هل ترين أنّه من المهم أن تصدر الأعمال الأدبية بمقدمات وقراءات مفتاحية تحتفي بالنص والكاتب معا؟
حليمة قطاي: التقديم اليوم من العتبات التي تضيف إلى النص؛ وهو نص موازي قراءةً؛ يروج للكتاب ويضيف لقيمته، وهو من التقاليد المعروفة أدبيا، قرأ الأستاذ الدكتور سعيد بوطاجين المجموعة إثر تحكيمه في لجنة قراءة جائزة لقبش لأحسن مخطوط شعري عام 2013، وأبدى إعجابه بتميز النص وكانت الثنائية: النص والقراءة. وأعترف أنّه أبهرني بقراءته المتميزة وقد أخرج إلى العالم خفايا طيات النصوص واستلهم ما كنت أقوله واعية في نصوص تخرج في لحظة لا وعي.. ومن لا يكون حريصا على مثل قراءه الناقد سعيد بوطاجين.
في نصوص الديوان يحضر الحبّ والجسد، وتحضر معاناة الإنسان، خاصة معاناة الإنسان السوري، هل تؤمنين بدور الشعر في إيصال صوت الإنسان ومعاناته؟
حليمة قطاي: ما الشعر إن لم يكن صوت الإنسان وقد جعلت أقانيمه عند الفلاسفة والشعراء على حد سواء هي الكون والإنسان والموت، نعم على الشاعر أن يكون القديس والعربيد، الطفل والمرأة، الجامح الزنديق، والمخبت المنيب، الحر والعبد.. أختار أن أكتب عن جدل الذات والآخر عن الإيديولوجيات؛ عن تناحر السياسات؛ وعن ضياع السلام.. عن افتقاد الــ(أنا) في متاهات النهايات، نهاية الإنسان والمقدس التاريخ  والشعر والفلسفة... وحتى الهويات.. أعتقدني أكتب  الإنسان. ليست الكتابة تخييلا فقط، الكتابة مستنقع فظيع من الوعي الواخز والمؤلم.
مع كلّ الصرعات التكنولوجية المتسارعة، هل تؤمنين بأنّ للشعر وظيفة في هذا العالم؟
حليمة قطاي: لا، لا أومن بوظيفة الشعر في زمن العبودية التكنولوجية التي صارت أمرا  واقعا على رأي الروائي ألوكس هكسلي. وأعتبر رأيي رغم قساوته واقعيا جدا، إلا باستحداث طريقتين كقناة لرسالة الشعر إلى الآخر: أولاهما: استحداث آلية تأدية الشعر/النص المؤدى. لأنّي أرى أن القصيدة هي خطاب يحتاج ميكانيزماته ليستوفى فهمه؛ الأقرب إلى جعل النصوص تفاعلية كاستحداث مسمى القصيدة/كليب.. ذلك أن بعض النصوص الجيدة تفقد قيمتها ودورها بتأديتها السيئة أو بتلقيها مكتوبة فقط، وعلى العكس نصوص كثيرة سيئة رفع من قيمتها الأداء. وهو ما يمكن تسميته مسرحة النصوص ويحدث ذلك بتخصيص قناة للشعر مثلا كوسيط للمتفاعلين. أو ثانيا: بالكتابة الجماهيرية، واعتقد هذا سبب نجاح ظاهرة الجخ الشعرية.
تقولين في قصيدة «وهم التآويل»: «نحن تهمتنا البلاهة والـ»بلاغة»، برأيك متى تنتهي تهمة البلاهة لتبدأ تهمة البلاغة؟
حليمة قطاي: عندما تتوقف الفتوى الباطلة، ويخرس انحراف التأوّل المفرط في كلّ مقدس يعتبره الجميع ملكا له!!.
في الديوان حضر الهايكو بخجل، وكأنكِ أردت فقط التجريب فيه وكفى. هل هذا صحيح؟
حليمة قطاي: لا، مطلقا، ما استخدمته ليس هو الهايكو، لأنّي لا أومن بالهايكو جهازا عبر نصيا، لنقل ما أريده، لقد استخدمت الومضة وهو ما عرفه العرب وهذا ما أعمل عليه أحيانا للمزاوجة بين التكثيف الإستعاري الذي تطلقه اللغة أحيانا وبين طول النص الذي تحتاجه مواضيع أخرى وأحيانا النص هو يتوقف من ذاته ولا يسمح بالزيادة، أما عن الهايكو فهذه التقنية في الكتابة دخيلة وهذا الاصطلاح ولد في مشتل بعيد عن نمط الكتابة العربية وليس هذا عيبه الوحيد، إنّما من يستخدمه الآن يستخدمه خاطئا  وبعيوب، تحرم هذا المصطلح دلالته الرمزية التي بني لأجلها، (الاختصار، البساطة، الترميز، الحقل المعجمي الواحد، الصورة المكثفة والمقطعة_17 مقطعا صوتيا_ ورسم هذه المقاطع إلى5/7/5 وإلا لما اعتبر هايكو، وأعتقد أنه ليس هناك عربي التزم بذلك. لا أذكر إلا اسمين من الجزائر اعتقدهما أبدعا في لي عنق الهايك هما الشاعران لخضر بركة وعاشور فني. وهذا ما حصل مع قصيدة النثر حين كان في الأصل منبتها غربيا، ثم تجاوزها روادها، ليهلهلها الشعراء العرب ويجعلون مقاسها عربيا بـــــ»السيف»، رغم أن (لاطاي فرونساز والعقلية عربية).
الشعر صوت الإنسان ونحن بحاجة إلى فهم الوجود بالشعر
في قصيدة «ولم تكن بشرا سويَّا»، كان هناك تناص مع النص القرآني، أو هناك نوع من الاتكاء على النص القرآني. ما رأيك؟
حليمة قطاي: تجدينني أستخدم الموروث بكثرة داخل النص ليس هذا نوعا من التناص إنّما هو (اقتناص) للحظة الغائبة للفائت لكتابة الموروث والمقدس والجمعي بما يلائم فرادتنا حاضرنا ووعينا ومشاكلنا، إنّه تطويع له وقلب للمفاهيم التي تعيش فينا منذ زمن كمسلمات.. نعيد مساءلتها ولم لا ينسف أحدنا الآخر ويعلن عيشه بقوته. هذه الرؤى التي تعد خرقا للجاهز ليس من أجل الاختلاف فحسب بل تجاوزا للمنظور اليقيني للأشياء والموضوعات. لتفهمي هذا عودي إلى تقديم الدكتور سعيد بوطاجين. هناك جهد ومحاولات مضنية لاستقلالية الذات عن الجماعة عن النموذج والمرجع.. ولا أعتقد أن هناك شاعرا طوع موروثه، ونموذجه ثابته ومقدسه ونسفه في ذات اللحظة كما فعلت، لقد استفدت من كلّ الأنساق التي تحيط بالنص، محاولة بناء معرفة جديدة الأصل فيها اللغة بتجاوزاتها وعدو لها.
أيضا وظفت مصطلحات ومفاهيم فلسفية في قصيدة «وإنّي وإنك، أيسٌ وليسْ»، يعني وظفت «الأيس والليس» وهما: الوجود والعدم، هل نصوص الوجود والعدم تحتاج برأيك إلى توظيف بعض المصطلحات والمفاهيم الفلسفية؟
حليمة قطاي: لقد ذكرت لك مسبقا حاجة النص كنسق مغلق ومفتوح إلى ما حوله فهو يولد من مجموع التداخلات السابقة واللاحقة بغيره، عليه أن يستوعب حاضره وماضيه، ثم عليه أن يكون هو، رؤيا العالم كما تحدث لوكاتش، لا أومن بالنص الذي يكون مجرّد فرقعات صوتيه منتظمة فلا يعنى صاحبه سوى بالوزن والقافية، وعلى النقيض أكفر بحداثة النص الذي لا يرى في تحرره سوى مجازات التناقض وبنائه على السردنة والنثرية الطاغية، والمفارقات المتنافرة، حتى إبليس لا يستطيع جمع شمل تناقضها. النص عندي سلطته المعرفة والدهشة في آن، وعلى الشعر والفلسفة حمل الفلاسفة حقيقة فهم الوجود يقول هيدغر في قراءته لشعر هيلدرن: الشعر موقظ للحلم، وما وراء الواقع في مواجهة الواقع الذي اعتقدنا الاطمئنان إليه، وينتفض غادمير (من ذا الذي يريد فصل الشعر عن الفلسفة)؟!. نحن بحاجة إلى فهم الوجود بالشعر، وقد كان نيتشه شاعرا، وأغلب ما وصلنا عنه فلسفة هو في الحقيقة هواجسه الشعرية وكذلك كان هيغل شاعرا وعالم جمال، وكان المعري شاعرا فيلسوفا، على النص أن يتمتع بالسلطة المعرفية المفضية إلى العالم، وإلا كان مجرّد دهشة منسية.
ن.ل

الرجوع إلى الأعلى