النصوص السردية الجزائرية لم تستأثر باهتمام النخبة السينمائية الجزائرية
في هذا الحوار، يتحدث الكاتب والناقد السينمائي السوري محمد عبيدو، عن واقع ومكانة السينما الجزائرية، والنصوص الأدبية والحياة الجديدة على شاشة السينما، كما يتحدث في ذات السياق عن العلاقة بين الأدب والسينما في الجزائر والوطن العربي، وتداخلاتهما وتكاملهما. وعن الاقتباسات التي يرى أنّ أغلبها أتت عبر سينما تجارية أساءت للنص الأصلي أو قدمته بصورة منسوخة أو مشوّهة. عبيدو لم يغفل الحديث عن أفلمة الأعمال الأدبية في السينما الجزائرية والعربية. ويرى بهذا الشأن أنّ للفيلم السينمائي قراءات متعددة ومن زوايا مختلفة. وأنّه ليس مجرّد قراءة ثانية للعمل الأدبي بوسيلة تعبير مختلفة، بل هو نص آخر مختلف يتكئ على الأصل الأدبي في بعض النواحي. محمد عبيدو، صحفي وناقد سينمائي سوري، عمل في العديد من الجرائد العربية والجزائرية، وهو عضو هيئة تحرير مجلة "الحياة السينمائية" وعضو لجنة مشاهدة واختيار الأفلام لمهرجان دمشق السينمائي، وعضو لجنة المشاهدة لمهرجان وهران للفيلم العربي. وله للإشارة عدة إصدارات في الشِّعر والسينما.
حاورته/ نـوّارة لـحــــرش
بحكم تخصصك في النقد الفني والسينمائي واطلاعك الكبير على تجربة السينما في الجزائر. كيف ترى واقع ومكانة السينما الجزائرية في خارطة المشهد السينمائي العربي والعالمي؟
محمد عبيدو: الواقع أنّ المتتبع للحركة السّينمائية في الجزائر يجد أنّها موضوع حامل للكثير من القِيم، أيّ أنّها بدأت قيمية بالدّرجة الأولى، ومفهوم القيمية لا يعني أنّها فاقدة للفنية، أو أيديولوجية خالصة، بل لعل السّينما الوطنية الجزائرية كانت أكثر مغامرة داخل الوجدان الفنّي الخيالي، فـ"التصوير في مواضع وجود الجنود الجزائريين يعتبر مغامرة خيالية"، كما يرى الباحث بغداد أحمد بلية، في مؤلفّه "فضاءات السّينما الجزائرية/نظرة بانورامية على تاريخ السّينما في الجزائر"، وهو جهد أكاديمي ألقى نظرة على هذا الإرث الفنّي الجمالي الذي صاحب الذاكرة في تماهياتها الجمالية المخيالية مع الحدث التاريخي الواقعي. ولكنّه أيضا لم يفلت تطوّر السّينما في الجزائر في تشظياتها المتعدّدة واستلهامها للواقع في تفاصيله المتجدّدة وتحوّلات اللحظة العميقة في الذاكرة، حيث يبدأ المدخل إلى تاريخ السّينما الجزائرية قائلا: "وفي كلّ هذه المراحل التاريخية لم تبعد السّينما الجزائرية عن جوهرها الفنّي إلاّ لماما، وظلّ النقاد والكثير من السّينمائيين يدعون إلى تسبيق الجانب الفنّي على الجانب التّجاري في الإنتاج السّينمائي الجزائري".  والواقع أنّه لم يكن للسينما الجزائرية أن تنشأ وتتطور في مسار خطي مستقيم ومنتظم، فشأنها شأن المجتمع الجزائري ومؤسساته الناشئة، عرفت في مسار تاريخها القصير فترات للتألق وأخرى للأفول. كان هناك تاريخ للسينما الجزائرية أثناء فترة الاستعمار الفرنسي، ولكن لم يكن هناك سينما جزائرية بالمعنى المفهوم حيث كان إسهام الجزائيين أنفسهم في السينما قليلاً جداً. فعلى سبيل المثال، عندما نالت الجزائر استقلالها، كان هناك ما يقرب من 300 دار عرض سينمائية في البلاد جميعها يعمل بنظام 35 ملليمتر. وكانت أغلب هذه الدور في الجزائر العاصمة، ووهران اللتان يتمركز فيهما الأوربيون، وكان اهتمامها الأساسي ينصب على تلبية رغبات واحتياجات هذه الجالية التي كان معظمها من الفرنسيين، فمن بين 1400 فيلم روائي طويل قامت بتوزيعها شركات جزائرية، كان هناك فقط 70 فيلماً مصرياً، وتعرضت هذه الأفلام أيضاً لضرائب أعلى من تلك المفروضة على الأفلام الأوربية أو الأمريكية.
تناولت في بعض مقارباتك النقدية الأخيرة موضوع النص الأدبي والحياة الجديدة على شاشة السينما. هل لك أن توضح أكثـر؟
محمد عبيدو: السينما انفتحت، في بداية تأصيل ملامحَها، على الأجناس الأدبية، بغاية تشكيل هويتها، باعتبارها جماع الفنون الأخرى التي وُجدت قبلها وخاصة فن الرواية، لأنّ الفيلم في حد ذاته يقوم على قصة كما قال الناقد "مارشال مكلوهان" في حديثه عن الفيلم إذ رأى أنّه يرتبط ارتباطا وثيقا بعالم الكُتب. ومن هنا فإنّ "كلّ لقطة في الفيلم تحقق بالنسبة للمخرج السينمائي نفس الهدف الذي تحققه الكلمة بالنسبة للشاعر"، كما يرى المخرج الروسي "بودفكن".
إنّ الأديب يتأمّل الأحداث ثم يصورها على الورق، بينما السينمائي مطالب بتحويل كلّ فكرة إلى مرآة منظورة. ومن خلال عمليهما يبدو الاختلاف بينهما. فالأديب ينقل إلى القارئ صورة ذهنية، أي معنى وهو المعنى الذي يُوّلِد في الذهن الصورة وهذا ما جعل الشاعر الانجليزي "شيلي" يرى في لغة الشعراء أنّها "تكون عامرة بالتشبيهات فهي تسجل العلاقات الملموسة بين الأشياء وتضاعف من الإحساس بوجودها"، أمّا السينمائي فينقل إلى مُشاهده صورة مباشرة ومحددة عن طريق عملية ترتيب الصور أو ما يُعرف بالمونتاج.
النص الأدبي في كثير من التجارب وجد حياته الجديدة عبر الفن السينمائي
إنّ النص الأدبي، في كثير من التجارب، وجد حياته الجديدة عبر الفن السينمائي لتحويل النص الأدبي من نص مُقيد إلى نص ينطلق عبر شاشة السينما، وكأنّما انتظرت النصوص الأدبية العظيمة اكتشاف السينما كي يأخذ النص مداه الأرحب، وفي السينما انعطفنا خطوة جديدة ومعقدة باتجاه انفتاح التأويل على مديات لم تألفها النصوص المكتوبة في السابق لتعدد وسائل الفيلم في تجسيد النص المكتوب واختلاف الوظائف والأفكار والجماليات وراء استخدام عناصر اللغة السينمائية.
إلى أيّ حد ترى أنّ العلاقة بين الأدب والسينما متداخلة ومتكاملة من جهة أخرى؟
محمد عبيدو: الأدب والسينما دائما بينهما علاقات متداخلة، وقد غذى الأدب الفن السينمائي إلى درجة ندر معها أن تجد اليوم عملاً أدبياً لم يؤفلم، من دون أن يعني هذا أنّ الأفلمة كانت دوماً موفقة، فالحال أنّ كلّ أفلمة لنص أدبي تعتبر في شكل أو في آخر خيانة لهذا النص. والمبدعون الكبار حين يتناولون عملاً له وجود سابق على فنهم لا يتناولونه لترجمته حرفياً، أو لمجرد تقديمه سينمائياً، بل كذريعة لعمل جديد قد يختلف كلياً. والنصوص العظيمة لكُتاب مثل شكسبير ودوستويفسكي وتشيخوف وكازانتزاكي وماركيز ونجيب محفوظ تعود ليس بإعادة النص الأدبي الذي كتبوه ولكن بطريقة أخرى خاضعة لقراءة جديدة، لتأويل جديد. فالعلامات في السينما تنفتح لمدى بعيد لأنّ الحياة تنهض في الفيلم متجسدة بكلّ ما يظهر على الشاشة فاتحة التأويل على مصراعيه. إنّ الاقتباس الحرّ المُستقل يسمح باستلهام النص الأصلي، مع الاحتفاظ بحرية في خلق صور أصيلة من خلال عمليات تحويل جديدة، وينفرد بتماسك جمالي خاص به.
يقول الناقد إبراهيم العريس في كتابه "من الرواية إلى الشاشة" لم يكن أورسون ويلز مخطئاً حين قال مرّة إنّه يعتبر ويليام شكسبير "أعظم كاتب سيناريو في التاريخ" فأعماله نقلت إلى الشاشة عشرات المرات، وتوثق المراجع نحو 500 اقتباس رسمي ومُعلن لأعمال شكسبيرية على الشاشة الكبيرة. وتأتي في مقدمة مسرحياته التي تمت أفلمتها "روميو وجوليت" التي اقتبست أكثر من 150 مرّة، تليها "هاملت" 120 اقتباساً، ثم "عطيل" و"ماكبث" في أكثر من 40 اقتباساً لكلّ منهما.‏‏‏ يبقى التأكيد أنّ الإشكالية بين الرواية والفيلم ليست وليدة اليوم، بل هي منذ الاكتشاف الأوّل للسينما.
المعروف أن علاقة السينما العربية بالرواية متينة وتعود إلى بدايات السينما في الوطن العربي من خلال الأفلام المصرية التي كانت تقتبس من روايات نجيب محفوظ مثلا أو إحسان عبد القدوس وغيرهما من الكُتاب. كناقد كيف تقرأ هذه العلاقة ومستوياتها؟
محمد عبيدو: هذا صحيح، فعلاقة السينما العربية بالرواية قديمة وتعود لأوّل الأفلام الناطقة في السينما المصرية، ولكن الملاحظ أنّ في أغلب هذه الاقتباسات التي أتت عبر سينما تجارية أساءت للنص الأصلي أو قدمته بصورة منسوخة أو مشوّهة مما حدا ببعض الروائيين كنجيب محفوظ لكتابة سيناريوهات أفلامهم. هذا مع وجود عدد من الأعمال السينمائية القليلة التي أخذت روح الرواية وأضافت إليه روح السينما البصري. ولا بدّ من القول بداية إنّ هناك اختلافاً بنيوياً بينها، فالرواية هي عمل فردي وكلغة هي حكاية، بينما السينما كلغة أخرى هي عمل جماعي يساهم فيه عدة مبدعين إضافة إلى المخرج، وهي صورة وتعبير بصري. من هنا يبدأ الاختلاف التعبيري بين الفضاءين التعبيريين. ربّما بسبب هذا الاعتماد الكبير على أفلمة الروايات نرى تداخل النص الروائي والنص السينمائي من حيث التأثير المتبادل وزمن الكتابة وبناء الشخصيات عبر جوانياتها وأرواحها وأحلامها وهواجسها ما ساهم في تطوير بنية السرد التقليدية في كلاهما.‏‏‏
وهنا نرى التراكم المعرفي والإبداعي الدائم ونرى أنّ الروائي أصبح يستفيد كثيراً من التطور السريع في لغة السينما التعبيرية. وأصبحنا نرى عدداً متزايداً من الروائيين العرب استفادوا من "رؤية الكاميرا" في إيجاد تقنية فنية في رواياتهم فيكتبونها بأسلوب سينمائي أخاذ، حتى ليمكنك عند قراءة الرواية أن تلحظ العين السينمائية والتقنية البصرية والسينمائية في السرد الروائي. وهناك أمثلة بأعمال عديدة لإبراهيم أصلان وصنع الله إبراهيم من مصر وحنا مينة من سوريا والراحل غسان كنفاني من فلسطين.‏‏‏
وماذا عن أفلمة الأعمال الأدبية في السينما الجزائرية؟
محمد عبيدو: لم تستأثر النصوص السردية الجزائرية باهتمام ملحوظ من قِبل النخبة السينمائية الجزائرية التي فضلت في جلّ إنتاجاتها الحديثة الاعتماد على سيناريوهات مكتوبة من طرف المخرجين، لتتشكل مسافة ومساحة من الجفاء الإبداعي بين صُنّاع اللغة المكتوبة الأدبية والبصرية السينمائية. هي فجوة تغلق على السينما الجزائرية مناهل إبداعية وفكرية وجمالية أصيلة، كما تحرم الكُتاب من حياة بصرية أخرى لقصصهم وشخصياتهم.
وبعودة تاريخية مع السينما الجزائرية منذ نشأتها الأولى نرى أن العديد من انتاجاتها استعان بنصوص سردية لكُتاب معروفين، ومن ذلك الكاتب الراحل مولود معمري، الذي تحولت اثنتان من رواياته إلى السينما، هما: "الأفيون والعصا" التي أخرجها للسينما سنة 1969 أحمد راشدي. و"الربوة المنسية" التي أخرجها عبد الرحمن بوقرموح في تسعينات القرن العشرين. وأيضا نذكر "صمت الرماد" 1976 ليوسف عبد الرحمن صحراوي عن رواية تحمل نفس الاسم لقدور محمصاجي، و"إطلاق النار" 1980 لمحمد إفتيسان، اقتباسا من رواية "البذرة في الرحى" لمالك واري، كما اقتبس المخرج محمد نذير عزيزي أحداث فيلمه "زيتونة بوهليلات" 1977 عن قصة كتبها الشاعر والأديب الراحل مالك حداد. وفيلم "ريح الجنوب" 1975 لسليم رياض عن رواية بنفس العنوان صدرت في 1971 باللغة العربية وترجمت للفرنسية في 1975 للروائي عبد الحميد بن هدوقة، وكانت هذه أوّل رواية جزائرية بالعربية تقتبس بكلّ حرية إلى فيلم بالدارجة الجزائرية. كما تحوّلت رواية أمين الزاوي "إغفاءة الميموزا" إلى فيلم أخرجه سعيد ولد خليفة بعنوان "شاي آنيا". وأيضا فيلم "موريتوري" 2007، للمخرج عكاشة تويتا مقتبس عن ثلاثية ياسمينة خضرا "موريتوري- دوبل بلان- خريف الوهم››.
الإشكالية بين الرواية والفيلم ليست وليدة اليوم بل هي منذ الاكتشاف الأوّل للسينما
لكن من جهة أخرى لم يحظ الروائي الطاهر وطار بتحويل نصوصه السردية إلى السينما إلاّ مع "نوة" 1972، وهي قصة قصيرة من بداياته الأدبية التي نشرها ضمن أولى مجموعاته القصصية "دخان من قلبي" وأخرجها عبد العزيز طولبي.
في الأخير هل يمكن القول أن للفيلم السينمائي قراءات متعددة ومن زوايا مختلفة للنصوص الأدبية؟
محمد عبيدو: إنّ الفيلم السينمائي ليس مجرّد قراءة ثانية للعمل الأدبي بوسيلة تعبير مختلفة، بل هو نص آخر مختلف يتكئ على الأصل الأدبي في بعض النواحي، ولكنه لا يشترط به في المحصلة النهائية، انطلاقاً من حرية كاتب السيناريو ثم المخرج في التعامل مع مفردات الرواية. فالكاميرا في يد السينمائي كالقلم في يد الشاعر أو الناثر. المخرج هو مبدع آخر وليس مجرّد ناقل لعالم إبداعي من خلال رؤية السينمائي ومن خلال تحكُّمه في تقنية صناعة عالم بصري، كما يتحكم الروائي في اللغة وعالمه الجمالي للغة. ومع بروز سينما المؤلف أصبح المخرج هو الذي يكتب فيلمه، ونرى هنا أن الكتابة السينمائية اكتسبت تميزاً وخصوصيات، وهناك كثير من سيناريوهات الأفلام لمخرجين كبار مكتوبة بصورة أدبية، أي بتعبيراتها اللغوية الأدبية وليس بمعادلاتها البصرية وقد أعيد طباعتها ككتب.‏‏‏

الرجوع إلى الأعلى