قراءة في رواية «سأقذفُ نفسي أمامك» للكاتبة ديهية لويز
منذ البداية تتقدم الراوية/الكاتبة مأزومة، فتثير مجموعة من الأسئلة حول معنى الوجود، تساؤلات عن جدوى وجودها هي بالذات. إذْ بالنسبة لأيّ كاتب لا بدّ أنْ يكون لديْه حافز ما يدفعه إلى الكتابة ولو هو لم يُعْلن عنه صراحة.
مخلوف عامر/ جامعة سعيدة
فأمَّا «ديهية لويز»، فإنّها لا تتردَّد في البوْح بما يختلج في نفسها، ولا تريد لهذه المكنونات أْن تبقى حبيسة الذات لعلَّها أنْ تجد في الكتابة ما يعوِّضها عمَّا تفتقده في الواقع والحياة. فهي بعد كلّ ما ينتابها من قلق وحزن، تقرِّر أنْ تفرغ ما في جوفها، أن تلقي بنفسها أمامك أيّها القارئ.
لقد اختارت أن ترمي بنفسها لا بجسدها. فالنفس هي ما يعادل الرّوح، وهي المستوْدع الذي يختزن الأسرار. وقد تكون الكتابة فرصة للتنفيس والتطهير. من هنا يأتي العنوان الذي اختارتْه منسجماً مع المتْن ويحيل عليه: «سأقْذِفُ نَفْسي أمامك»*. هذه هي نفسي-أيّها القارئ- أطرحها أمامك. ما قد يوحي بسيرة ذاتية أو بشطر منها. ولا شك في كلّ عمل أدبي قليل أو كثير من حياة كاتبه.
«ما جدوى البقاء في حياة ليست لنا أية سلطة عليها؟. لماذا نتمسك بكلّ هذا الخراب الذي يستوطن بداخلنا أعواما طويلة ويتراكم مع كلّ يوم يمضي؟ كيف أفسر علاقتي بالوجود؟ هذا إن كنت موجودة أصلا. طبعا.. ما معنى وجود بلا معنى؟ وجود وكفى؟ ألا يساوي هذا الوجود النهاية العدم؟ لم أتصور أنّي سأبدأ الكتابة بهذه الأسئلة الصعبة والمقلقة في الآن ذاته، لكن لابدّ من طرحها؛ فعليّ أن أجد جوابا يقنعني، أو يرضيني لأستمر. لكن أستمر في ماذا؟ في الوجود وكفى؟ ص 5.
لكنَّ حياة الكاتبة/ الراوية، تشكِّل محوراً تلتفُّ حوله حكايات أخرى. ففي كلّ مرَّة تسحب هذه الراوية قصة شخصية ذات صلة بحياتها، ولا تَرِد في النص تبعاً لتسلسلها الزمني في الواقع.
الراوية/الكاتبة، تثير أسئلة لحظة الكتابة. وهي في كلّ مرّة تستحضر إحدى القصص فتكسر التسلسل الزمني. لكنَّ القارئ لا يجد صعوبة في الانتقال من إحداها إلى تاليتها، ليس بفضل اعتمادها توزيع الرواية على أحد عشر فصلاً وحسب، بل خاصة لأنّها تمتلك هذه القدرة على حسن التخلُّص، فيتمُّ الانتقال بسلاسة في حين يستمر الجو واحداً يتمحْور حول الراوية/الكاتبة بحكم كوْنها تؤدِّي وظيفة التوليف والتنسيق.
كما يمكن للقارئ أن يطَّلع على الأحداث في تسلسلها الواقعي في الفصل الأخير بدءاً من الصفحة مائة وأربع وثلاثين. إذْ تكشف عن اسمهما وتاريخ ومكان ميلادها وما تلا ذلك في مسارها.  غير أنَّ الأزمة النفسية التي تعانيها ليست ذاتية محضة، وإنّما تتعالق مع أزمة الوطن يكون فيها الربيع الأمازيغي إطاراً، ترتسم فيه ومن خلاله، مشاهد ترى إليها الكاتبة بعين ناقدة. تقول مخاطِبة (عمر): «لم يكن موته ليُغَيِّر شيئا من خريطة بلد غارق تحت أنقاض الفوضى والخيانة. بلد يدفن الأحلام حية وكأنّها وصمة عار عليه، أو ابنة لم يرغب في إنجابها، مثلما هي العادة عند الأمازيغ في الزمن الغابر بدفن المولودة الجديدة إن كانت طفلة، وربط أمها في الإسطبل مع الغنم لمدة تفوق شهرا، مع منع الأكل والشرب عنها، كأنّها المسؤولة عن كونها أنجبت طفلة.. هذا البلد الذي اقتبس قسوته من هذه العادات المهترئة، ما يزال يحافظ على طابعه المتسلط، يقتل فينا التفاؤل وكلّ معاني المواطنة قبل أن يشتد عودها قليلا، قبل أن تخرج من مهدها..» ص 123/124
وبما أنَّ النص مزيج من الرواية والسيرة الذاتية، فقد جاء ضمير المتكلّم المفرد، عاملاً أساسياً في حمل المُتلقي على الاندماج في المكتوب. ويظهر ذلك حتى في رسالتيْ كلّ من «إيناس»، و»سليمان جودي». كما يحقِّق ضمير المخاطَب الغاية نفسها حين تستعمله.
اللافت أيْضاً، أنَّ الكاتبة لم تكنْ متكلِّفة ولا حريصة على تقديم مشاهد خيالية، لكنَّها كما يبدو قد عوَّلت على سجيِّتها فأطلقت العنان للتعبير الحرّ بمنتهى البساطة، لكنَّه تعبير تعتمد فيه على لغة سهلة صحيحة تؤكِّد أنّها تُتْقن العربية وقواعدها بخلاف كثير من النصوص التي تعاني من ضعف كبير في المبادئ الأولية لقواعد اللغة.
انطلقت «ديهية» من أسئلة مُحيِّرة، وتعترف -تواضُعاً- أنّها ليست من الكُتَّاب الكبار ولا من المُفكِّرين، ولكنَّ الإجابة نجدها متناثرة في النص هنا وهناك. وهي تدور حول المعنى الذاتي والموْضوعي للوجود، فتثير قضايا المرأة وهموم الوطن، بنبرة حزينة أحياناً، وناقمة أحياناً أخرى، ونخلص إلى أنَّ كثيراً من الأوْجاع سببها فقدان الحب، حب المرأة والوطن معاً.
حين لا يجد المرء شفاء من عذاباته، قد لا يجد إلاّ الكتابة نافذة يُطل منها على الحياة، جسراً يعْبر منه نحو الآخر، ويُعبِّر به عمَّا في قلبه من أحزان ومسرَّات، لعلَّه يحيا من جديد. بواسطة الكتابة يحارب النسيان ويثبت ذاته، وعندما يسكب ذلك حبْراً على ورق، فإنَّه يعوِّل على خزَّان الذاكرة يسحب منه ما يعنُّ له.
«في النهاية، الكلمات ليست سوى جسر نُعبر به عن كلّ ما يحمله القلب من كدمات أو مسرات؛ لنصل عبره إلى نقطة مبهمة لا نفهمها، ولا نعرف كيف وصلت بنا الجرأة لنتجاوز كلّ ذلك الكم الهائل من العواطف في كلمات». ص 20.
فعلاً، لقد كانت الكلمات في هذه الرواية جسراً، منه نقف على وطن يئنُّ من جراح مؤلِمة، ويوصل إلى نفس ملْأى بالكدمات أكثر من الأسرار، يتلخَّص بعض منها في العبارة المنسوبة إلى الشهيد «العربي بن مهيدي»، تقول: «عندما نكون أحرارا، ستحدث أشياء فظيعة. سننسى كلّ آلام شعبنا لنتقاتل على الأماكن. ستكون معركة إلى السلطة. نحن وسط الحرب وهناك من يفكر في ذلك.. نعم، أريد أن أموت في القتال قبل النهاية». ص 67.
إنّه العمل الوحيد الذي قُدِّر لي أنْ أطلع عليه لهذه الكاتبة الموْهوبة. فهي إنْ لم تشدَّك بالأسئلة المقلقة التي تطرحها، فإنّها قد تحقق ذلك من خلال حملك على تقمُّص شخصياتها كما تقمَّصتها لحظة الكتابة، وإلاّ، فإنّ لغتها السهلة الميسورة تدفعك –حتْماً- إلى الاسترسال في القراءة دون أنْ تعترضك عقبات. وهي حين تسرد شطراً من حياتها في الفصل الأخير، كأنّها تقول: هذا هو المسار العادي لفتاة كانت تحلم بوطن جميل وحياة أجمل، لولا تفكُّك أسرتها ومآسي وطنها، ولكنِّها حاولتْ -فيما سبق من فصول- أنْ تَنْشر غسيلها، أنْ تقذف نفسها أمامك بما يستوْجب ذلك من جرأة أو جنون، ولكنْ بأنْ تجعل من ذلكم المسار العادي كتابة أدبية غير عادية.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
- «سأقْذِفُ نَفْسي أمامك» منشورات الاختلاف/ الجزائر، ضفاف/ لبنان، عام 2013.

الرجوع إلى الأعلى