عبد القادر رابحي
1
قَدْ يَشْتَعلُ السّائل
إذَا انطَفَأَت النّار..
قَالَهَا أبِي البَسيط..
غَدَاةَ اقْتِسَامِ الرّيع
بَيْنَ الإخْوَةِ الأعْدَاء..
فِي بَيْتِ المَسَرّات..
وَ منذُ ذلِكَ اليَوم
و أنا أنظُرُ إلَى المَاء..
عَلّ فرَاسَةَ الأبِ المَترُوك
تَخْرُجُ مِن بَيِنِ الأجْدَاث..
وَ بَيْنَمَا أَنَا كَذلِكَ
وَ إذْا بِعَقَاربِ اللّيل
تُعلّمُنِي كِتَابَ الرّيح
كَمَا رَوتْهُ الطّيور،
وَ تُرِينِي مَا لَمْ تَرَ العَين..

2
رَأَيْتُ مَهْزُومِينَ يَرْفَعُونَ شَارَاتِ النَّصْرِ
أَمَامَ الكَامِيرَاتِ الجَائِعَةِ،
وَ أَدْعِيَاءَ مِنْ كُلِّ الأَنْوَاعِ،
أَتْقِيَاءَ يَزْرَعُونَ بُذُورَ الفِتْنَةِ،
وَ أَنْبِيَاءَ يُحَاوِلُونَ إِقْنَاعَ الجُمُوعَ الغَفِيرَةَ
بِدَفْعِ زَكَاةِ الرَّمَادَةِ،
وَ أَغْنِياءَ يمدُّونَ أيْديهِم فِي الشَّوَارِعِ،
وَ يَتَخَاصَمُونَ حَوْلَ المَكَانِ الأَكْثَرِ إِدْرَارًا
لِلدّينَار السَّهْل..

3
رُبَّمَا كُنتَ وَاحدًا منهُمْ
أيّهَا المَصْلوبُ فِي المِرآة..
أوْ لَعلّكَ مْنّا وَ لَمْ نَعْرفْك..
أوِ أنّكَ غيّرتَ قَلبَكَ
باتّجاهِ النّبضْ السّاخِن،
أوْ أنّك تَلعَبُ مَعَنا
و تُسجّلُ لَهُمْ..
مَا أغْرَبَ  صَمتَكَ !!
أيّهَا الطّائرُ ذو الرّأْسَين..

4
وَ رَأيتُ أعنَاقًا تشْرئْبّ بانْتِظار القَنْص..
وَ زعَمَاءَ شحّاذين..
و إسكَافيّينَ بِشَارَاتِ النّبوّة..
وَ حُفَاةً يَحْمِلُون أحْذِيَةً صَفْرَاءَ
فَوِقَ رُؤُوسهمْ الطّريّة..
و تَقدّميّين بأرصدَةٍ صَعْبَة..
و ثًوّارا في أقْبِية السّجُون..
وَ رَأيْتُ أشبَاهَ رجَالٍ..
وَ أشباهَ دُوَل..
وَ أشْباهَ شُعٌوب..
تُناضِلُ خَلفِ الشّاشات..
و رأيتٌ كُرَةً تَلهُو بالجَميع..
عَلَى مَرأَى من الأختِ الكٌبرىَ..

5
وَ رَأيتُ فَرَاشاتٍ يائِسَة
تدُور دورَة الدّراوِيش،
ثُمّ تتّجِهٌ لاخِتِرَاقِ المِرآة..
فِي سُرعَةٍ الضّوء المٌطفأْ..
وَ رَأيتُ عَربَاتٍ تَجُرّهَا حَوَافِر الرّيح..
وَ قَصائِدَ عِشْقِ قَديم..
لاَ تَزالُ عَالِقَة  بالتّراب..
تَمَامًا كَمَا سَيّدَةً الجُرحِ المُتّكِئَة عَلَى مِنْساةِ غُبَارهَا..

6
وَ رَأَيْتُ قَنَابِلَ تَنْفَجِرُ بِبُطْءٍ
وَ جُثَثًا تَتَطَايَرُ بِسُرْعَةٍ..
وَ أَشْلاَءَ قِطَطٍ فَارِسيَّةٍ..
وَ أُخْرَى مُدَجَّنَةً بِلُغَةِ الرَّصَاصِ
تَمُوءُ فِي اللاَمَكَانِ..

7
هَلْ لَدَيْكَ سَبْعَةُ أَرْوَاحٍ
أَيُّهَا المُنَاضِلُ المشتّتُ فِي وَعْي الطّبَقاتِ.؟
تُوَاصِلُ تَعِبِئَةَ الجَمَاهِيرِ
فِي غَفِلَة مِن الوَطَن المَنهُوب؟
هَلْ لَدَيْكَ مُتَّسَعٌ مِنْ الوَقْتِ
لِتَزُورَ أُمَّكَ المَسْجُونَةَ فِي كُوخِ التَّارِيخِ
ثُمَّ تَعُودُ بِلاَ مَعْنَى إِلَى السُّوقِ..
منِ دٌونِ اقْتِصَاد؟
لاَ يَمْلأُ عَيْنَيْكَ إِلاَّ سَرَابُ الإِحَالاَتِ..
هَلْ لَدَيْكَ الصَّبْرُ الكَافِي
لِتَمُوتَ عَلَى مَهْلٍ
أَمَامَ المِرْآةِ المَجْنُونَةِ..؟

8
وَ رَأَيْتُ أَسْرَابًا مِنَ النَّحْلِ
تُطِيحُ بِمَا تَبَقَّى مِنْ الرُّخَامِ
فَتَطِيرُ زَرَافَاتٌ فِي السَّمَاءِ،
وَ تَحُطُّ بِأَجْنِحَةٍ مِنْ ضَبَابِ..
كَأَنَّهَا الصَّمْغُ الأَزْرَقُ
عَلَى صَنَادِيقِ الفِضَّةِ..

9
تَوَابِيتُ فِي الطُّرُقَاتِ..
تَوَابيتُ علَى أَرْصِفةِ الطُّرُقَاتِ..
تَوَابِيتُ فِي مَسَارَاتِ الفِتْنَةِ..
تَوَابِيتُ فِي مَلاَعِبِ الغولْفْ..
وَ فِي قاعات التَطْرِيزِ..
حَيْثُ تَربُضُ النِّسَاءُ
سَاعَاتٍ طَوِيلَةً
فِي انْتِظَارِ الفُسْتَانِ الغَامِرِ
لأمِيرَةِ المُنْتَجَعَاتِ الوَهْمِيَّة..
.....
لَمْ يَكُنْ حِينَ ذَاكَ
إلاَّ الانْحِنَاءَ
أَمَامَ غَصَّةِ الوَقْتِ..

10
يَأْكُلُ القِطُّ الجَائِعُ
رَأْسَ السَّمَكَةِ ذَاتَ العَيْنَيْنِ الزَّرْقَاوَيْنِ..
وَ يَتْرُكُ الجُثّة للإِخْوَةِ المُتَقَاتِلِينَ
فِي سَاحَةِ الوَجْدِ الصَّامِتِ..
هَا أَنْتَ تَسْتَيْقِظُ مِنْ الحَيَاةِ،
كَأَنَّكَ الشَّجَرَةُ المَلْعُونَةُ..
هَا أَنْتَ تَعُودُ إِلَى المَوْتِ
وَاقِفًا عَلَى أَشْرِعَةِ الرِّيحِ..
تَسْمَعُ الاسْتِرَاقَاتِ
وَ تُلَطَّخُ مَسَارَاتِ الغِبْطَةِ..
كُلَّمَا جَاءُوكَ مِنَ الوَادِيِ المَالِح
تَصَبَّبَتْ غَيْمَاتُكَ،
وَ تَنَامَى فِيكَ الخَوْفُ الغَامِرُ..
كَأَنَّكَ الإِسْفَنْجَةُ المُلْقَاةُ عَلَى عَاتِقِ الأحْجَار..
كأنّكَ النَّائِحَةِ المَأْجُورةِ
فِي عُرْس الذّئاب الجَائْعَة..

11   
وَ رَأَيتُ كَثِيرًا مِنَ الغُبَارِ الدّامِسِ
يَغْمُرُ آكِلي عَرَق الفقراء..
المُتَهَافِتِينَ عَلَى دَكَاكِينِ السّحت
تَحْلَبُهُ الذِئْبَةُ مِنْ ضِرْعِ الأسَاطِير..
وَ هيَ تَنهَشُ لَحْمِ المَحْرُومِينَ
وَ تَعْصُرُ أَثْدَاءَ السَّيِّدَةِ العَاقِر..
فِي مَاعونِ من العاج المَثْقوب..
لاَ دَمَ في وِفاض الجُرح..
لا سمن في بيَاضِ الحَليب..

12
هَكَذا كَانَ الوَقْتُ..
وَ هَكَذا كَانَتِ التّواريخُ
فِي تَلْوِينِ السَّجَاجِيدِ المَلْوِيَّةِ
مُنْذُ افْتَرَاشَ الجُرحِ
بَباحاتِ الأرضِ المَلْسَاءِ..
مِنْ شدّة احتكَاكِ المِلْحَين..
هَكَذَا تنبتُ الأنهار..
في الجسَدِ المشحُون بالكَهْربَاء..

13
لاَ تَعِدْنِي بِغَيْرِ مَا تَسْتَطِيع..
وَ لاَ تَسْأَلْ عَنْ هَفَوَات الأَرْض..
قَدْ تَفْتَحُ اليَرَقَاتُ
مَفَازَاتِ الجُرْحِ النَّائِمِ..
فَلْنَفْتَح العُلْبَةَ السّوداء..
و لنَذْهَبُ مَعًا إِلَى يَوْمٍ أَوْضَح
ممّا رأيناهُ في نشراتِ الأخبار..

14
هَكَذَا أَحْسَن..
لاَ تَجُرَّنِي..
وَ لاَ أَجُرُّكَ..
لنْ يقودَ أحَدُنا الآخر..
كُلُّ وَاحِدٍ فِي طَرِيقِهِ
إِلَى سَيِّدَة الأَنْفَالِ..
حيثً بَقايَا العشقِ الغَارِقِ
فِي وَحْلِ الرِّيَاحِ المَاطِرَةِ..

15
وَ رأَيتُ فِتيَةً تَحتَ شمسٍ صفْرَاء..
يرْتَدونَ ألبسَةً تُركيّة..
يحْمِلون زُرناتٍ ينفخٌونهَا بأفِواهِهِمْ..
فتخْرُجُ منْ أسفَل الجِلد..
ريحُ موسيقى عاصِميّةٌ
تتمَايَلُ على رتَابتهَا الباردةِ
سيّدَةٌ خَرْقَاءُ،
ثُمَّ تُحيِي بِحَرَارَة الفَقِدْ..
جُرحَ ابنِها الوحِيد..
دَهَستهُ آلةُ الحَرب
في ربيعٍ إيْديولوجيٍّ أعمى..
كلّما ازدادَ النفخُ في زُرنةُ الوجع الصّارخ
ازدادتْ العينَان التهابًا..
كُلّما ازدانًتْ الشّرفاتُ العمياءُ بالورود..
تعَانق المحبّون..
في هجْعَة اللّيل المُظلِم..
كُلّما عاثَتْ في القلب السُّلحفاة
ماتَ الحشِيشُ الموعود
في مَراتِع النّياشين،
و مواجدِ الطّقوس اللّيليّة...

16
يَتَوَارَى الوَطَنُ النيئً
كَمَا تَتَوَارى الملذّات
فِي عُيُونِ الفُقَرَاءِ..
يَتَوَارَى الغَارِقُونَ فِي الوَحْلِ
كَمَا يَتَوَارَىَ الشَّكُ النَّازِفُ فِي مَتَاهَاتِ اليَقِينِ..
يَسْرِقُ الجدارُ الأعمى سرّ العَتَبَاتِ مِنَ النَّهَارِ..
تَسْقُط العَصَافِيرُ الخضْراءُ
في مَجَازَاتِ التَّحْلِيقِ

17
لاَ شَيْءَ فِي الأفُقِ الدَّامِسِ
لاَ شَيْءَ فِي النَّفَقِ المضيء..
لاَ شَيْءَ  فِي العُبُوٍرِ المُسْتَنِيرِ
بأَكَاذِيبِ الحَيَاة..

18
مجرّدً أرْديَة بَاليَة..
مُجَرَّدُ يَافِطَاتٍ مسْكوبةِ
في حِنطَة الزّرع المَغشُوش..
شَعَارَاتٌ جوْفَاءُ..
قَصَائدُ من حِبْرِ البَيَاض..
سَتَائرُ مِنْ نَيْلُونٍ مُكَرَّرٍ..
وَ أَرْدِيةٌ وَسِخَةٌ
تَتَبَايَنُ فِيهَا الأَلْوَانُ
وَ يَسْكُنُهَا زَمْهَرِيرُ المَجْيء
إلى مَائدَةِ الوطنِ الباذِخ..
 ...
[قَدْ يَشْتَعلُ السّائل
إذا انطَفَأَت النّار..]

الرجوع إلى الأعلى