«وها أنت...و هل ذا أنت؟ وتلك الربى المضمخة بعبق الخزامى البرّي، ما أجملها من ربى..». يسأل السائل / العابر نفسه في المرآة. هو لا يحتمل وزن الذاكرة وتفاصيلها فيوصي ذلك العابر بأن يقول الأشياء في مكانه، لعله يبكي أو ينسى فلا يلومنّ نفسه. كأنه بين النوم واليقظة « كأنه كان يكابد غيبوبة تحول بينه وبين التيقظ والتحفز» على شاكلة الشاعر السوري الكبير عبد القادر الحصني الذي كتب مجيبا على هذا السؤال الوجودي: «ترسّبَ في دمك الليل / فلا أنت حين تنام تنام / و لا أنت حين تفيق تفيق».
عبد السلام يخلف / جامعة قسنطينة
يدخلنا الأستاذ عبد المالك مرتاض عالما عجيبا هو عالمه لكنه عالمنا أيضا من خلال التفاصيل الكثيرة التي تمنح هذه السيرة صورة فسيفسائية دقيقة تدخل القارئ من الوهلة الأولى في مواقف ينبغي أن يعرف عنها بعض الشيء حتى يتمكن من الاستمتاع بحركات شخصياتها وألوان أماكنها وعبث الحياة بكل من يعبر دروبها المغبرة. أسماء كأنها النجوم تطلع في سماء الذاكرة وتتحول إلى أجزاء من خرافة يحكيها الأستاذ بلغة مدهشة فيها الكثير من الألق والتجذر في تراب الجزائر.
هرب الكثير من الكتاب الجزائريين إلى أماكن أخرى سواء للاستلهام و بعث النوستالجيا أو الاحتكاك بمجتمعات أوروبية تمنح نصوصهم شرعية حضارية وصفات الحداثة وما بعدها وفضل آخرون الكتابة بلغات أخرى تمكنهم من الانتشار في مجتمعات غير مجتمعهم. لهم ذلك، من حقهم ولكن قبل بداية الرحلة، يجب أن يتذكروا محمد ديب الذي طلب منه ناشره أن ينزع اسم «محمد» من غلاف كتبه لأنها لم تعد تباع (لكن الرجل العظيم رفض/ من غيره يملك الجرأة لفعل ذلك ؟) و أيضا المقولة المشهورة «عربي عربي و لو كان الكولونيل بن داود». أما مرتاض فيجرنا ويجرجرنا ويمرغ أنوفنا في التراب كما يحدث لحمار الشيخ حين تعضه دبابة. هو الطفل الصغير الذي يقودنا في زوايا من حياته وكأنه يحمل كاميرا رقمية دقيقة عالية الجودة فيقترب حينا من المشهد: طبق الكسكسي ببطاطاه ولحمه أو كأس الشاي بسُكـَّرها ونعناعها وحينا يبتعد عنه فنرى غابة الحريقة وجبال البجاني والسهول المحيطة بقرية مسيردة وكوخ أسرته «الحقير».
يتوقف الزمن «كأنه أحَدُ لِدَاتِكَ يلاعبُك ويُجاريك» فيمَكن الطفلَ من الجلوس إلى ذاكرته والبدء بالحفر للبحث عن تلك الجواهر الحسان التي لا يعتبرها كذلك سوى صاحبها الذي راح يجمعها شذر مذر. استعماله اسم الإشارة «هذه» يدل على معرفته الجيدة بها، على التلذذ بخيراتها والنفور من شرورها وكلٌّ في تناغم كبير بين «هذه السّهول القليلة، وهذه الأوعار الكثيرة، وهذه الرُّبَى المتعانقة، وهذه الجبال الشاهقة، وهذه المراعي الخصيبة، وهذه المَسايل الجاريَة، وهذه العيون المتفجّرة؛ وهذه الأصوات الناشزة من نباح الكلاب، وعوَاء الذئاب، وثغاء النعاج... ومن هذه الأصوات المتناغمة من غِناء الرُّعيان، ومن هذه الألحان الذائبة في صوت الناي الرّنان، ونغَمِ المزمار الحَنان...؟».
تغير الزمن وتغيرت التركيبة الاجتماعية لبلادنا وتغير النشاط الاقتصادي وطرق العيش فانتقل الجميع إلى المدن وأصبحت مناظر القرى والبوادي جزءا من الفلكلور الذي ربما يضحِك البعض من المتحذلقين المتشدقين المتذللين الصاغرين على أبواب غيرهم. هذا هو موضوع مرتاض، إنه كل ما اندثر من تاريخنا، كل ما غاب عن الأعين والجغرافيا. اختفت الغابة وتحوّل السهل إلى مدينة صغيرة وانهارت القباب والزوايا. ولكن قبل ذلك كان العالم يعج بالناس وبالحكايا.
قد يبدو غريبا اليوم على الكثير من الناس الحديث عن الجوع وعن المسغبة والنوم على كومات التبن العاري من أجل تحصيل العلم أو لقمة للمعدة. يبدو اليوم سرياليا للوجوه النيرة للشباب في مدننا والتي تحمل في اليد «آيفون» وتحلم بالإبحار فوق موجة تائهة مستدرجة خبيثة. شخصيات مرتاض أناس نبتوا مثل الصبار في أرض قاحلة وراحوا يتعايشون ويكدحون: « لم يكن ممكنا أن تتعلق في أمّك من أمامها... ولا أن تأخذ بيدها وتمشي معها متجوّلا بين الحقول والأشجار... كانت مشغولة عن ذلك بما سِواه». من هذه الصورة تبدأ حكاية الانشغال بالعمل والكد لكسب لقمة العيش وإطعام الأفواه النهمة المفتوحة على كل الاحتمالات.

من يكون ذاك الطفل الذي يحكي؟ ما شكله وما طعم الحياة في فمه؟ كان الكاتب يقول له: « العُرْيَ ترتدي، والحَفاءَ تمشي. فِراشُك العَراء. غِطاؤك السّماء. تسْتَحِنُ الشُّحوبَ. تقتات الجوعَ. تأكل الطوَى. تشرَب العطش، إذا عزّ الماءُ الشَّرُوبُ.. كان عليك جِلبابُ صوفٍ بَالٍ. لم تعُدْ تذكر، في الحقيقة، من لباسك يومئذ شيئاً ذا بَالٍ». هي صورة بالأسود والأبيض، بالحزن والفرح لطفل راح يعدو مثل الريح في براري مسيردة وما جاورها من غابات وأحراش ووهاد وربى ومرتفعات ووديان ومجاري مائية وجبال. سمفونية معقدة من النوتات التي تحمل كل واحدة نغمة أو صوتا يتشابك مع الباقي كي يشكل ما يردده الصدى وما يغذي الملحمة.
لا يتعجب الطفل من نبات «تيغيغيت» الذي يستعملونه كالصابون لغسل الأثواب ويتحوّل فجأة بعد أن يغلى في الماء إلى طبق شهي مما يأكلون. لا يتردد في وصف تفاصيل عملية «الفلي» التي كانت تبرع فيها النسوة إلى درجة أنها غدت جزءا من أوقات الراحة. متعة واجبة تمكنهن من تمشيط شعر الرأس من القمل والدويبات القذرة الهائمة المصاصة الأخرى كما يفعل العسكر الفرنسي آنذاك في الغابات بحثا عن المجاهدين. وأنت أيها الطفل كنت تعيش في «بيئة مقمَّلة، مُبرْغَثة، عَفِنة، بكلّ الحشرات ممّا كنتم تكرهون». هي حالة غالبية الجزائريين في ذلك الزمن فلا ينعم بالخيرات سوى القايد والحاكم الفرنسي ومن والاه من الأثرياء، أما الباقي فيقتاتون من خشاش الأرض ولا خجل في ذلك. هي القوة والجبروت والطغيان والاستبداد والحقد والعجرفة والحقرة والانتحار / لأن النهاية هي دائما نهاية كل ذلك.
يتحدث المؤلف عن يوميات تطول أو تقصر وهي محطات عامرة بالفرح حينا وبالألم والحزن أحايين أخرى ومنها التحليق ويوم الختان والصيد في الغابة والدراسة في «الخربيش» (الكتاتيب) وحفر البقوق والتقاط الحلزون واحتطاب الحطب والشوالة والكدح في فرنسا والأسواق وحلقات الذكر والوعدات...إلخ. لكل محطة نوادرها ولغتها التي يسيطر عليها الكاتب جيدا وله ذاكرة رهيبة تحتفظ بكل شيء من الكلام والحركات والأحاسيس التي كانت متقدة لحظة وقوع الأحداث. يقول كل لحظة باللغة التي تليق بها وما يزيد في تلوين الأحداث هي اللهجة الجزائرية التي أسس لها الرجل بقاموس راح يستعمله بدون تردد كي يقول للقارئ أن الأشياء كانت تحدث بهذا الشكل الذي أنت تخليت عنه للهجات أخرى مستوردة من قنوات أجنبية: السقيف، المرفع، القطمير، السّمار، العواشير، الركبة، المرس، تافزا، حمايضة، التحناش، السماق، المحضري، اليقشة، الغنباج.. وكلها مصطلحات أخذت معناها من البيئة التي ولدت فيها وما تزال حية ترزق لو وقفنا دون اندثارها بالتدوين والحفظ لأنها ذلك الحصن الذي ندخله حين نتهم بأننا لا نعرف اللغة العربية أو أننا بربر لا نحسن شيئا ولم يكن لنا دور في التاريخ.
جاء الغزاة من كل جهة وتكالبوا على هذا الوطن لكنه حاربهم بصبر أبنائه وتحملهم للفقر والشدائد وقد رحلوا بعد أن أعيتهم خيباتهم في محاولة طمس هويتهم. الأستاذ المؤلف العظيم الذي يروي هذه الحكايات كان فقيرا يجوع تحت نير الاستعمار لكنه استطاع أن يعبر الشعاب والصعاب وينتقل من الخربيش إلى جامعة السوربون. هو اليوم أشهر من نار على علم، معجزة تقول بألف لغة ما يختصره المثل الشعبي الأمريكي: «إذا أنت أردت أن تحصل على شيء لم تحصل عليه من قبل، عليك أن تقوم بعمل لم تقم به من قبل». وآمن الطفل عبد المالك بذلك.
هذا الكتاب تحفة نادرة لمن عاش طقوس الوعدات وعادات القرى ومتعة الركض بين الحقول والتأمل في أرتال النمل وحفظ القرآن لاستعماله في كتابة الحروز. قصص ونوادر لا تنتهي. ذاك الفتى الذي أراد أن يتودد لفتاة جميلة في القرية باكتتاب حرز. عوض أن يصل أثره إليها، داسته الثيران المتناطحة وانكشفت ما بداخله من أسماء وكانت الفضيحة. حكايات يسردها الراوي على لسان طفله الذي لم يترك شيئا إلا وسجله. ذاك الطفل الشقي الذي سجله أحمد رضا حوحو في معهد بن باديس بقسنطينة صار أستاذا جامعيا ألف العشرات من الكتب في الأدب واللغة وجلس على منصة حصة «أمير الشعراء» كي يزكي الممتحنين وهم يمرون أمامه بأصواتهم المبحوحة. وأنت تتذكر الخربيش وتبتسم في أعماقك، ما أجملك أيها الطفل الشقي.
ع.ي

الرجوع إلى الأعلى