تعتلي قمة الجبل الكبير موطن المياه العذبة و الهواء النقي و بساط الثلج الأبيض الذي يعمر شهورا طويلة من كل سنة، و كأنه رداء عذرية و صفاء طبيعي أخاذ يحيط بلالة ماونة الأسطورة التاريخية الخالدة، فيطهر المكان المقدس و يغسله من الخطايا و الذنوب التي يرتكبها بني البشر، كلما بلغوا القمة الشاهقة التي تعانق السماء، هكذا يعتقد السكان القدامى الذين عمروا المنطقة منذ قرون طويلة و تعاقبت عليهم حضارات كثيرة و غزاة استولوا على السهول الخصبة و طردوا المستضعفين إلى رؤوس الجبال يواجهون البرد و الجوع.   
  قمة لالة ماونة ..اللوحة الطبيعية التي ألهمت الفنانة الألمانية بيتينا هاينن عياش
مرت عقودا طويلة و مازالت العذراء لالة ماونة المرأة الصالحة على كل لسان هنا بقالمة الحضارة و التاريخ العريق،  أطلق اسمها على فتيات الأقاليم الريفية  و على الجبل الكبير المنتصب جنوب المدينة و على دراجات سيكما الشهيرة أيضا و الرادارات العملاقة و أبراج الاتصالات  التي أحدثت ثورة تكنولوجية هائلة قلبت الأوضاع الاقتصادية و الاجتماعية رأسا على عقب لكن المزار الأسطوري لالة ماونة مازال يقاوم متغيرات الزمن رغم العبث و الفوضى الدائرة أسفل القمة الشاهقة التي تشبه رأس امرأة عملاقة تبسط يديها و تنشر حجرها الكبير لتحمي المدينة من الغزاة و الأشباح و كائنات الليل التي عمرت المنطقة وبثت الرعب بين السكان.  
فوق صخرة عملاقة هي أعلى نقطة على قمة يتجاوز ارتفاعها 1400 متر عن سطح البحر كانت تجلس لالة ماونة وحيدة تناجي السماء و تدعو بالخلاص للمدينة المغتصبة التي لا تكاد تودع محتلا غازيا حتى يداهمها آخر أشد عنفا و تدميرا ممن سبقوه، مازال المكان إلى اليوم محاطا بجدران من الحجارة و الآجر و طوب البناء و يغطيه سقف من الخشب المتهالك و فيه شموع و قطع من القماش يضعها الزوار الذين يقصدون المكان للتبرك و طلب الذرية و الصحة و المال، و هي معتقدات قديمة مازالت راسخة و منتشرة بين سكان المنطقة الممتدة من قالمة إلى عنابة عروس المتوسط التي تظهر من القمة الشاهقة بيضاء خلف زرقة البحر البوابة المفتوحة التي دخل منها الغزاة حتى وصلوا إلى كلاما و استوطنوها.  
  يقول محمد لخضر مرابطي أحد سكان جبال ماونة و  حارس أبراج الاتصالات المجاورة لمسكن المرأة الصالحة بأن الناس كانوا يأتون باستمرار إلى المكان قبل تردي الأوضاع الأمنية بداية التسعينات و منذ ذالك الحين و الزوار في تراجع مستمر حتى خلا المكان تماما إلا من حراس أبراج الاتصالات التي عمرت القمة الشاهقة و بعثت فيها الحيوية و النشاط رغم خطورة المنطقة و الطريق المؤدي إلى القمة التي صارت معلما سياحيا بعد استقرار الأوضاع الأمنية حيث يتدفق آلاف السياح كل شتاء للتمتع بالثلوج و غروب الشمس و جمال الأفق البعيد و دخول المزار الأسطوري.  
و قد تأثرت الفنانة التشكيلية الألمانية بيتينا هاينن عياش بقصة لالة ماونة و المناظر الطبيعية المحيطة بها و حولت ثلاثية الأسطورة و الطبيعة و الجغرافيا إلى لوحة فنية ساحرة تروي قصة امرأة قررت أن تعتلي قمة الجبل العالية حتى لا تقع بين أيدي الغزاة و تتخذ موقعا دفاعيا يطل على المدينة المحتلة و كأنها تؤسس لميلاد المقاومة الشعبية التي وقفت في وجه غزاة متعاقبين لم يتمكنوا من المرأة المقاومة و لم يدنسوا شرفها، رأس شامخ في السماء و أيدي مبسوطة تنشد الحرية و السلام و ساقان عملاقان منتصبان فوق المدينة للدفاع عنها و حماية أهلها المستضعفين.  
و تعد لوحة جبال لالة ماونة الشهيرة من أجمل الروائع الفنية التي قادت الفنانة الألمانية بيتينا إلى العالمية بعد دخولها الجزائر و الاستقرار بمدينة قالمة رفقة زوجها الراحل عبد الحميد عياش سنة 1962.  
و مازال شعراء و مطربون من المنطقة يتغنون بالمرأة الشجاعة رمز المقاومة و الطهارة و الصلاح إلى اليوم، و مازال السكان يتبركون بالقمة العالية و يتعقلون بها كلما ضاقت بهم الحياة و طوقتهم المآسي و الأحزان من كل الجهات.  
و صارت لالة ماونة اليوم رمزا للخير و العطاء حيث يبدأ موسم الثلوج من هنا كل سنة و كلما لامس الضباب القمة الصخرية المنتصبة يتوقع السكان نزول المطر و بداية فصل الشتاء فيستعدون له و يتضرعون إلى العلي القدير أن يكون فصل خير و سعادة كما كانت تفعل لالة ماونة حارسة الربوع المترامية الأطراف و مدينة كالاما القلعة الرومانية العريقة.   

فريد.غ                                                            

الرجوع إلى الأعلى