لبانـو قسنطينـة قلقـون .. المهنـة تسيـر إلى الـزوال
يقترب شهر رمضان و تعود معه عادات غذائية أصبحت بمثابة مسلّمات بالنسبة للقسنطينيين، كشرب اللبن عند الإفطار أو السحور، فكثيرون هم من يقبلون على اقتناء أكياسه من محلات المواد الغذائية، بينما يشتري آخرون ما يبيعه باعة الأرصفة غير آبهين بسلامتهم الاستهلاكية، و حجتهم أن المادة لم تعد متوفرة بسبب انقراض المحلات المتخصصة التي كانت تزين أروقة المدينة  و تعبق برائحة الحليب الطازج و الزبدة الطبيعية و اللبن عالي الجودة.
النصر قصدت وسط المدينة صباحا للبحث عن لبانين، يروون لنا قصصا عن مهنتهم وواقعها في زمن الحداثة، وهي المهنة الهاربة من أرشيف الزمن الجميل، بحثنا كاد ينتهي دون نتيجة، بعدما وقفنا على واقع أن جميع الدكاكين التي كانت معروفة بقسنطينة، فقدت خصوصيتها بعدما حولها ورثة أصحابها الأصليين، إلى محلات لبيع المواد الغذائية بالجملة، أما نشاطها الأصلي، فبات ينحصر داخل أركان خلفية صغيرة.
عقـود ما قبل التشغيـل ركنـت المهنـة في حظيـرة النسيــان
 عددها أربعة بمدينة قسنطينة، ثلاثة بوسط المدينة بشارعي بلوزداد و بوجريو و حي القصبة، و آخر بحي المنظر الجميل، أخبرنا أصحابها بأنها المحلات الوحيدة التي استطاعت أن تحافظ على نشاطها و تبقى مفتوحة إلى يومنا هذا، في ظل المنافسة القوية لمنتجات الحليب و الألبان التي تتفنن الملبنات الصناعية في إنتاجها و تسويقها، وهو ما دفعهم إلى تكييف نشاطهم مع معطيات العصر، و توسيعه ليشمل مختلف المواد الغذائية الأخرى، وذلك حفاظا على محلاتهم من الغلق.
هذا ما لاحظناه خلال جولتنا، فتلك الصورة النمطية التي نحتفظ بها جميعا في ذاكرتنا عن اللبان بمئزره الأبيض أو الأزرق، و قمعه الخاص قد اندثرت، تماما كما اختفت تلك الدلاء المعدنية التي كان الزبائن يستعملونها، خصيصا لشراء اللبن الغني بالزبدة،  أو حليب الأبقار الطازج، وحلت محلها أكياس بلاستيكية شفافة و قارورات ماء معدني و مشروبات غازية فارغة، أما  « الشكوة» التي كانت تستعمل لتحويل حليب الأبقار الطازج إلى لبن، فعوضت بآلة صناعية خاصة، وعوض الحليب الطازج بحليب الأكياس، و استبدل براد الخشب القديم بثلاجة كبيرة، قال لنا السيد عزيز وهو لبان بحي القصبة، بأنها معدات تصل تكلفتها إلى 200 مليون سنتيم.
 بدوره تحول اللبنان إلى تاجر بسيط تجرد من مئزره الذي كان يميزه عن باقي التجار، حتى أنك قد تجهل طبيعة نشاطه، إذا لم تقرأ تلك اللافتة المعلقة على باب المحل.   محدثونا أوضحوا بأن مشكل المهنة الحقيقي، لا يمكن فقط في منافسة الملبنات الصناعية، و الإجراءات الدقيقة و الصارمة لمصالح التجارة التي تفرض رقابة شديدة على نشاطهم، بسبب طبيعته الحساسة، بل أن المعضلة الأساسية تكمن في أن المهنة تحولت كغيرها من المهن اليدوية الأخرى من نجارة و نحاس، إلى موضة قديمة بالنسبة للجيل الجديد من الشباب الذين يرفضون العمل فيها و يفضلون عقود ما قبل التشغيل « لانام»، على ممارستها، حتى محدودو المستوى التعليمي، يختارون التجارة الحرة  على الأرصفة  لبيع لبن الأكياس في قارورات على الأرصفة خلال رمضان، بدلا من تعلم الصنعة و التفرغ لممارستها، بحجة أنها تتطلب جهدا ولا تحقق الربح المطلوب.
محـل بوفنـارة  صورة مـن أرشيـف الزمـن الجميــل
يقع محل بوفنارة لبيع حليب و لبن البقرة بوسط المدينة، تحديدا بشارع بلوزداد، و  يتميز عن المحلات الأخرى، بأنه الوحيد الذي حافظ على خصوصيته منذ فتح أبوابه سنة 1963،  إذ لا يزال إلى غاية الآن مجهزا « بشكوة» مخض تقليدية مصنوعة من الجلد المغطى بالخشب. أخبرنا صاحبها السيد كمال بوفنارة، بأنه ورثها عن والده، تماما كما ورث المحل و المهنة، مشيرا إلى أنه ورغم مرور السنوات، إلا أن الدكان لم يتغير وبقي نفسه، لأن الوالد البالغ من العمر 95 عاما ، رفض أن يدخل عليه أية تعديلات، ليترك رائحة الأصالة تعبق من كل ركن داخله،  مشيرا إلى أن اللمسة الوحيدة التي أضيفت للمحل، تتمثل في تغيير الثلاجة الخشبية القديمة التي تعود لسنة 1965، بثلاجة جديدة خاصة، أكثر حفاظا على نظافة و سلامة المنتجات. اللبان قال بأن المهنة تواجه الانقراض بسبب عزوف الشباب عن ممارستها و تعلمها، فإعداد اللبن الطازج الجيد ليس أمرا سهلا، بل يتطلب إتقانا و تفانيا و حبا للصنعة، مشيرا إلى أنه تعلمها من والده وهو في سن 12 عاما و مارسها طيلة 40 سنة كاملة، ربطته خلالها علاقة إنسانية قوية بزبائنه الذين يقصدونه من مختلف ضواحي قسنطينة. محدثنا أوضح بأنه يعتمد في تمويل دكانه الصغير، على  عقد ثقة يجمعه ببعض الموالين و مربي الأبقار الذين يتعامل معهم منذ عهد مزاولة والده لذات النشاط، يزودونه بحليب طازج يتم تحضير اللبن و الزبدة منه، وهي مهمة تتطلب منه الاستيقاظ في حدود الساعة الخامسة صباحا، و التنقل إلى بلدية حامة بوزيان للتزود بالحليب من المزارع، ليكون جاهزا للبيع عند الساعة السابعة أو الثامنة صباحا كأقصى تقدير، علما بأنه يحضر يوميا ما يقارب 60 لترا من اللبن لزبائنه. و بخصوص نوعية زبائنه، قال اللبان بأنهم يختلفون بينهم ميسورين و جيران و منهم زبائن قدماء للوالد، اعتادوا التعامل معه منذ أن كان سعر لتر اللبن « 3 دورو» على حد تعبيره، غير أن المحل على غرار باقي المحلات الأخرى، فقد الكثير منهم، بعدما انتقل غالبية سكان قسنطينة، للعيش في المدينة الجديدة علي منجلي، مع ذلك تحاول المهنة الصمود و تبحث دائما عمن يرث أسرارها.    

نور الهدى طابي 

الرجوع إلى الأعلى