تعبّر النّخب "الحقيقيّة" عن عبقريّة أممها وتتحوّل إلى رصيدٍ رمزي ووسيطٍ في الحوار مع الشعوب الأخرى، عبر إبداعٍ هو ثروة مُستدامة لا تفقد قيمتها ولا تتأثّر بالظروف، لذلك يحتاجُ هذا "الرأسمال" إلى حمايةٍ من العُملة المزيّفة التي قد تحلّ محلّه في مواقع التّكريس والتّقدير الاجتماعي، والتي قد تدفع بالعملة الأصليّة إلى الهامش، مع كلّ ما يكلّفه ذلك من خسارة غير قابلة للتعويض في الرّصيد، و يحتاج ُ أيضًا إلى حماية من "الغوغاء" الصّاعدة في مواقع التّواصل وفي "الميديا" المُنفلتة، التي يتصيّد صُنّاعها الإثارة حتى في المواقع التي لا تستدعي ذلك، فضلًا عن افتقادهم إلى ثقافة الفرز والقواعد الديونتولوجية التي تحميهم من ارتكاب ما يصعبُ جبره. ما يجعل هذه "الثـروة" مُعطّلة، أو يفتح أبواب استغلالها لأطراف أخرى، قد تكون مُعاديّة تستخدمهم كسكاكين ضدّ وطنهم، خصوصًا في هذا الوقت الذي تروج فيه ثقافة الطّعن والتّمزيق.
ليس مطلوبًا من الروائيُّ أن يشرح للذين لا يعرفون الروايات مفهوم الرواية، وليس من وظيفته أن يشرح ذلك لصحافيّ أو صحافيّة يصطنعان النّباهة أمام عدسات الكاميرات، ويدفعان الضّيف إلى تعريف ما تمّ تعريفه منذ قرونٍ، ليس من وظيفة الروائيّ ولا من وظيفة الشاعر والتشكيليّ والمُؤرخ والمُفكّر و المُهرّج، فعل ذلك. فالأشياء التي تمّ تعريفها، قد تمّ تعريفها ولها تاريخها الخّاص الذي يعرفه المهتمّون بالأمر، والذي لا يبدأ، قطعًا، الآن. و ليس من دور الذين سبق ذكرهم والذين لم يرد لهم ذكر، تحمّل وزر إحاطة متلقّ كسولٍ، بما كان يفترضُ أن يحصّله في المدرسة أو في الحياة، قبل أن يجلس في موقع مدقّق الحسابات، بقبّعة مواطن بصلاحيّات غير محدودة أو صحافيّ محدود!
حين تسأل صحافيّة كاتبًا مُترجمًا إلى خمسين لغة:هل تعرّضت رواياتك للنقد؟ فثمّة مشكلة، وحين يُبثّ الحوار على أنّه خبطة إعلاميّة فثمة مُشكلة، وحين يتعرّض أكبر وأهمّ كاتبٍ جزائري على قيد الحياة إلى سيل من الشّتائم على مواقع التّواصل بمجرّد نقل خبر عن تكريمه من طرف جمعيّة فتلك مشكلة، وحين يعمدُ كتّابٌ وصحافيّون إلى نقل الخبر ذاته بأسلوبٍ يتسوّل إثارة الغوغاء استجلابًا للتفاعل، فتلك مُشكلة.
علينا أن نتعلّم كيف نصون "الحقيقيّ" فينا ونغفل المزيّف، كي لا نفقد ما لن نستطيع تعويضه ونُراكم ما لا نفع فيه.
سليم بوفنداسة
يحاولُ حملةُ أقلامٍ يكتبون في الصّحافة الفرنسيّة الزج بالجزائر في محاور مُستهدفة، بل ويجتهدون في إثراء سرديّات مُعاديّة بكتابات تدعو إلى التساؤل، آخرها تلك الأغنيّة التي تردّدت لأكثـر من مرّة في أسبوعيّة "لوبوان" اليمينيّة، حول علاقة الجزائر بإيران وكونها الهدف القادم لعدوانٍ، هو في حقيقة الأمر أمنيّة أطرافٍ معروفةٍ، أما أن يُروّج لذلك جزائريون عاشوا إلى وقتٍ متأخر من أعمارهم في الجزائر واشتغلوا فيها، فذلك مبعث الحيرة.
قد يقول قائلٌ بأنّ الأمر يتعلّق بعملٍ صحافيّ في منبرٍ حرّ لا يراعي المشاعر ولا الحسابات السيّاسيّة، لكن السؤال المطروح هو، هل يستطيع ذات المنبر الحرّ أن يُشير إلى المذبحة المفتوحة في غزة ويصف وضع الضحيّة ويشير إلى المعتدي؟ وهل يستطيع المنبرُ ذاته أن يقدّم عملًا غير موجّه عن الحرب التي دارت بين إسرائيل وإيران، ويكون نزيهًا وموضوعيًّا في طرح جوهر النّزاع بين كيانٍ مُصطنع في شكل دولة دينيّة مُتطرفة تمتلك مئات الرؤوس النوويّة تستخدمها في إرهاب جيرانها، ودولة تسعى لكسب التكنولوجيا النوويّة؟
وهل يستطيع الكاتبُ الذي يطلق السّهام في اتجاه بلده أن يكون حرًّا إلى الحدّ الذي يفلتُ فيه من السرديّة النيوكولونياليّة؟ وهل يُبرّر وقوف كاتبٍ في موقع المعارضة، دعوته للعدوان على بلده؟
لسنا هنا بصدد مساءلة منبرٍ أجنبي يخدم توجّهات ومصالح مُموليه، ولكن بصدد التوقّف عند ظاهرة جديدة تتمثّل في نجاح الطرف الفرنسي في استمالة كتّاب جزائريين و"توظيفهم"، وهو ما لم ينجح فيه في سنوات الحرب الطويلة وفي السّنوات التي تلتها، حيث كان الكاتب الجزائري المتخرّج من المدرسة الفرنسيّة عصيًّا على "الاختراق"، امتلك اللّغة ولم تمتلكه، بل حوّلها إلى "غنيمة" استخدمها في دعم مطلب الحريّة، وحافظ على مخياله الخاص حتى وهو ينشر في كبريات الدور الفرنسيّة كما هو شأن كاتب ياسين ومحمد ديب.
كان ياسين متخرّجا من مدرسة الحياة القاسيّة، وكان يقول:"سيبقى النّاشر الفرنسيّ فرنسيًّا وسأبقى كاتبًا جزائريًّا"، أما ديب فرفض طلب الناشر بتغيير أسلوب الكتابة مجاراة لما يطلبه سوق القراءة، وقال مقولته المشهورة:" يبدو أن اسمي هو الذي يزعجكم"..قبل أن يصل إلى استنتاجٍ مؤداه أن كتّاب المغرب العربي يأتون في مرتبة متأخرة بعد الخادمات البرتغاليات في سوق القيمة الفرنسي.
لكنّنا نرى اليوم كاتبًا جزائريا ينتقل إلى فرنسا، بعد الخمسين، ليقول للفرنسيين أنه أكثـر فرنسيّة منهم، ويبرهن على ذلك بقذف الحجارة في اتجاه بلده وامتداح سفّاحي غزة، وعلى منواله سينسج طامحون إلى مجدٍ سريعٍ. إنّنا أمام حالة سقوط أخلاقي لا يمكن تبريرها بالحريّة وأخواتها، لأنّ خطاب الحريّة يلفظ الظلم وخطاب الحقّ يرفض الخيّانة.
سليم بوفنداسة
سليم بوفنداسة
تحوّل تغليفُ الباطل برداء الحقّ إلى صِناعة مضمونة الرّواج، بسبب فوضى فكريّة ناجمة عن سيطرة السطحيّين على صناعة القرار في العالم، وهي وضعيّة فصّل فيها "ألان دونو" في كتابه البديع الذي يعدّ من أفضل التّشخيصات لحالة عصرنا، ولكن أيضًا بسبب استراتيجيات اتصال أصبحت تُباع كالذخيرة الحيّة، وتُستخدم في الحروب النّاعمة والحروب المتوحشة على حدّ سواء، ويجري تنفيذُها عبر مؤسّسات تقليديّة كالقنوات التلفزيونيّة وعبر مواقع التّواصل ومختلف المنصّات الالكترونيّة، وتقوم على إنتاج محتوى يؤذي الخصوم المستهدفين، سواء عبر تسريبات أو أخبار وتحاليل مُوجهة، وصناعة مُؤثرين غير ملتزمين بالقواعد المهنيّة والضوابط الأخلاقيّة وحتى عن طريق الأخبار الزّائفة التي يجري ترويجها على نطاقٍ واسعٍ، وقد تجد بين مستهلكيها ومشاركيها بعض الأفراد الذين يمارسون مهنة تقوم على التحقّق وتحري الدقة واسمها الصّحافة.
و يكفي أن تُلاحظ ما يُنشر هذه الأيام، لتعرف ما يمكن أن يفعله "النّاشر" بنفسه، و هو ينافس في فعله أفعال عدوّه.
لذلك لا تكفي الإشارة إلى التّضليل أو التحذير منه، بل يقتضي الأمر حماية المستهلك أو تقليل نسب تسمّمه عبر تقديم المعلومة الموثوقة و إنتاج المحتوى المُقنع الذي يعفيه من ملاحقة السّلع المغشوشة، بكل ما يتطلّبه ذلك من وجود مؤسّسات إعلاميّة قوية ومُؤثرة في الجمهور وقادرة على مجاراة جُنوحه نحو الفضاء الرقمي، وغير مستميتة في الإبقاء على برامج من نوع ما يطلبُه المستمعون، فلا أحد يطلب ولا أحد يستمع الآن، فكلّ شيء يقدّم من غير طلبٍ للمستهلك قبل أن يردّ له طرفه.
و لا يتوقّف إنتاج المحتوى هنا عند الحماية من الأذى بل يُقدّم صورة حقيقيّة تتحوّل مع الوقت إلى مصدر قوّة، وقد يكون المنتوج الهادف المُنجز بمهنيّة وحرفيّة وفي مناخ من الحريّة، خير وقاية من حملات التّضليل ولسعات الذّباب، لأنّه يغلق باب الحاجة فيبطل المفعول.
و قبل ذلك وبعده، علينا أن ندرك بأن المُمارسة الإعلاميّة ليست حرفة عاديّة، بل مهنة عاليّة المخاطر يفترضُ أن تنهض بها نخبٌ حقيقيّة تمتلك الأدوات ومُتشبّعة بالقيّم المهنيّة و الأخلاقيّة.
سليم بوفنداسة
تُخفي الحربُ الدائرة حربًا مُضمرة، قد تُسمى باسمها خارج الدوائر الرسميّة والأدبيّات السياسيّة والدبلوماسيّة، إنّها حربٌ دينيّة مهما كثـرت في وصفها الأسماء، وهناك من يُطلق عليها اسم الحرب الحضاريّة لا سيّما في الغرب الذي ترى بعض نخبه بأنّ الكيان ينوب عنها في حروبٍ تسعى إلى تجميلها من خلال تقديمها كدفاع عن القيّم، لإخفاء السلوك الوحشيّ لكيان مُنفلتٍ يجري استخدامه ضدّ رافضي الهيمنة والاستعمار في طبعته الجديدة.
تُحيل المواقف السيّاسيّة والمعالجات الإعلاميّة الغربيّة للحرب الأخيرة، إلى مأزق أخلاقي، بل إلى فضيحة، فاغتيال علماء إيرانيين يعتبر إنجازًا شأنه شأن الاعتداء، أما ردّ الفعل فيوصف بالجريمة، وتعاطف المحلّلين المتصهينين في القنوات الفرنسيّة مثلا، لا يحدث سوى مع جهة واحدة، وكذلك يفعل صحافيون مخضرمون وكتّاب ينظرون إلى العالم من الزاويّة الواحدة المسموح بالنّظر منها.
هذا الانحياز ظهر أيضًا في المذبحة المفتوحة في غزة، و يؤكد بوضوحٍ الخلفيّة الدينيّة للصراع، أي التحالف اليهودي المسيحي ضدّ الإسلام.
يعمل التحالف المذكور على ابتزاز دول المعسكر المضاد وحرمانها من امتلاك أسباب القوّة وتفكيكها، إن كانت عصيّة على التطويع، ويحول دون تقاربها ولا يسمح لها ببناء كيانات اقتصاديّة.
لذلك تبدو بعض الأطروحات التي تتحدّث عن الحريّة والديمقراطيّة في إيران أو تستدعي الاختلافات المذهبية في هذا الظرف، مُجانبة للصواب، بل ومتهافتة.
وكذلك الأمر بالنسبة لأطروحات نُخبٍ عربيّة لازالت تُقدّم الغرب كراعٍ للحريّات وكوكيل معتمد للديمقراطيّة، وتُناضل من أجل ذلك على صفحات الجرائد و بلاتوهات التلفزيونات، في مواقف تبعث على الشّفقة والحزن، قبل أن تُثير الغضب.
فالغرب الذي بلغت شعوبه مستويات من الحريّة حقّق ما حقّقه نتيجة تطوّر اجتماعي له شروطه و مساره التاريخي، وبالتالي فإنه لن يهبك الحريّة، بل إنّه يحوّلك إلى عبدٍ بقميص نظيف، ويستخدمك لإيذاء أهلك. وهذا الغرب بالذات هو الذي غرس أشجار التخلّف ولا زال إلى يومك هذا يرعاها، وهو الذي ينهب ثروات البلدان ويسفك دماء الشعوب، من دون تأنيب ضمير، والكيان الذي يقدمه لك كواحةٍ للديمقراطيّة والحرية، هو الكيان ذاته الذي يحرق الأطفال تطبيقا لتعليمات الأساطير الدينيّة المؤسّسة، فإذا كنت ترى في قتل الأطفال وحرقهم فضيلةً ما، هنيئًا لك!
يُعيد الخطاب النيوكولونيالي الذي تُنتجه النّخب الغربيّة، هذه الأيام، فرانز فانون إلى واجهة الدراسات، باعتباره من مناهضي الاستعمار الذين فكّكوا الظاهرة في دراساتٍ يسود إقرار بأنّها لا تزال راهنة.
حيث لم يكن فانون مناضلًا من أجل تحرير الجزائر من الاستعمار الفرنسي، فحسب، بل كان دارسًا للظاهرة من الداخل، نجح في كشف الآليات التي تشتغل بها، والتي لم تستثن مهنةً نبيلةً كالطب، حيث اكتشف أنّ زملاءه في الطب العقلي يتعاملون مع الجزائريين بوصفهم بدائيين بدوافع عدوانيّة غريزيّة، فيقومون بتكبيلهم ووضعهم في زنازين، ويتحوّل العلاج إلى عمليّة محو لشخصيّة المريض، ويتعلّق الأمر هنا بممارسة عنصريّة، هي نتيجة إيديولوجية جرى تلقينها للمستخدمين الأوروبيين في الجزائر وتدريبهم عليها، ولم يتوقف مُنجز فانون عند تحرير المرضى وأنسنة أساليب العلاج، وإنّما تعدى ذلك إلى دراسة أثر الممارسات الاستعمارية العنصريّة على الضّحايا، التي قد تصل إلى حد ارتداء قناع الجلّاد الأبيض، وهي آلية نفسيّة تُعرف في التحليل النفسي بتقمّص المعتدي.
أي أنّه وضع بروتوكول العلاج من أمراض الاستعمار، التي استمرّت إلى ما بعد استقلال البلدان ، سواء في العلاقة مع المستعمِر السّابق أو سلوك الذّات المستعمَرة نفسها، عبر استلاب وتبعيّة تُبقي الحالة الاستعماريّة في وضعية اشتغال، وهو ما يمكن رصده اليوم بين دوّل تتباهى بتحوّلها إلى "محميّات" لقوى أجنبيّة، أو تستبدل الاستعمار المعلن باستعمار غير مُعلن، أو بنخبٍ بلغت حدّ ترديد الخطاب النيوكولونيالي، والتباهي بعدم مُناهضة الاستعمار بل والحديث عن محاسنه، كما هو حال كتّاب من جنوب المتوسّط تحوّلوا إلى سكاكين في أيدي الدوائر الاستعماريّة الجديدة في فرنسا واللّوبيات الصهيونيّة التي تجازي ممتدحي المجزرة الجارية من دون توقّف في فلسطين، بل وتجد بينهم من يتنكّر لسحنته وجلده ويقول للفرنسيين الذين استدرجوه إلى الفخّ إنّه أكثـر فرنسيّة منهم، وهو في حقيقة الأمر يقاوم شعورًا ساحقًا بالدونيّة.
هذه الحالات تؤكد صواب طرح فانون الذي يؤكد بأن الحالة الاستعماريّة تتسبّب في "عصاب جماعي" للشعوب المستعمرة، وبالتالي فإن التحرّر يقتضي إلى جانب التخلّص من الاستعمار، "الشّفاء" منه أيضًا.
سليم بوفنداسة
تدفعُ "نوايا حسنة" بعض الأكاديميين الجزائريين للمشاركة في برامج سجاليّة في قنوات عربيّة وأجنبيّة ناطقة بالعربيّة، دفاعًا عن وجهة النّظر الجزائريّة في حصصٍ مُعدّة ومُصمّمة، أصلًا، لإثارة مشكلة وليس لتسليط الأضواء على حدثٍ معيّن وفق القواعد المهنيّة.
لذلك لا تنفعُ الحماسةُ ولا وجاهة الطّرح أصحابها، في كثيرٍ من الأحيان، بل قد يكون ذلك بالضّبط ما تريده القناةُ المستضيفة، خصوصًا حين يكون "الخصمُ" في النّقاش والمنشّط ومعدُّ البرنامج من جهةٍ واحدةٍ، و لا يحتاج المتابعُ المطّلع إلى جهدٍ ليعرف بأنّ الميزان مختلّ وأنّ الجزائريَّ مستدرجٌ لاستيفاء البروتوكول الذي يقتضي طرح وجهتي النّظر، وربما نفع المتدخّلُ هنا خصمَه أكثـر مما خدم الطّرح الذي يدافع عنه، لا سيّما إن خانته اللّغة في بعض المواضع، أو لم يحضّر نفسه لمناقشة ملف معيّن فيسبق حماسُه الحُجّةَ.
يحتاجُ المتدخّل في قنواتٍ من هذا النّوع إلى معرفة قبليّة بتوجّه القناة والأجندات التي تخدمها، مثلما يحتاج إلى سرعة البديهة وإلى أن يكون "مسيّساً" يمتلك أدوات قراءة الوضعيّات الحواريّة التي يكون فيها، وأن يكون مدركًا
بأنّه مطالبٌ بإقناع المتلقي في نزالٍ فكريّ لا ضرورة فيه لتكرار خطاب سيّاسي داخلي، مثلما يفعل النّاشط السيّاسي كريم زريبي في قنوات فرنسيّة بما في ذلك اليمينيّة منها، حيث استطاع في كلّ التدخلات أن ينتصر للطرح الجزائري بأسلوب مُقنع، يقوم على إرباك الخطاب المضاد بإبراز تناقضاته وتهافته وعدم وجاهته و ازدواجية المعايير المستخدمة، وتمكّن في أكثـر من مرّة من تسفيه معلّقين ومنشّطين متواطئين في بلاتوهات مصمّمة لإحراجه.
ليس خافيًّا أن الإعلام (و حوامله من منصّات وشبكات تواصل)، تحوّل إلى سلاحٍ في الحروب الناعمة و الوحشيّة على حدّ سواء، و تُضمر برامج تلفزيونية استراتيجيات اتصال لترسيخ توجّهات وسيّاسات أو إلحاق الضّرر بصورة الآخر المستهدف بأساليب تحقّق الهدف، فإذلال صاحب موقف في مُناظرة أو سجالٍ يعني مراكمة رصيدٍ رمزي لصالح خصمه في نزالٍ غير معلنٍ بين الجهتين اللّتين يمثّلانها.
ما يعني أنّ التوجّه إلى بعض القنوات يقتضي "مؤهّلات" وقبل ذلك إحاطة بخفايا اللّعبة الإعلاميّة، ولا يكفي اللّقب الأكاديمي ولا المعلومات النّظرية ولا التألّق في قنواتٍ محليّة أحادية التوجّه، وقد تكون قاعدة الصّمت الذهبيّة أجدى، في كثير من الأحيان، من محاولات إبراز الحقّ في غابة الباطل.
سليم بوفنداسة
تُظهر فئة من الكتّاب الفرنسيين حقدًا أسودَ على الجزائر، لخّصه الكاتب جون بول انتوفان بالقول إنّه وجد صعوبة حتى في كتابة كلمة الجزائر حين اضطر إلى ذلك في كتابٍ ، وتطلّب الأمر منه وقتًا طويلا ليرغم نفسه على كتابتها!
الكاتب (الذي لا يستحق الذّكر) و في حوار مصوّر بُثّ منذ يومين على منصّات جريدة "لوفيغارو" التي تخصّصت هذه الأيام في محاورة هجّائي الجزائر، قال إنّه لا يدين بشيء للجزائر التي ولد بها خلال الفترة الاستعمارية، وإنّه لا يحبّها ولا يحبّ طفولته، وإنه لم يكن معنيا بالشّمس التي وصفها "كامي" لأنّ الشّمس كانت للفقراء الذين يعملون في الحقول، أما الطبقة التي ينتمي إليها فكانت تعيش في الظّل حيث مازال يذكر كيف كانت أخواته وبنات أعمامه يزلن آثار الشمس بالحليب وعصير الليمون.
وذهب بعيدا حين وصف الجزائر بالأرض الملعونة الغارقة في الدم والحماقة.
الكاتب الذي يشتغل مستشارا وكاتب زوايا في مجلة "لوبوان" وسبق له العمل في عدة صحف ودور نشر على غرار غاليمار وغراسي، من مواليد معسكر سنة 1949 وهي المنطقة التي شهدت ميلاد والد برنار هنري ليفي (المولود بدوره ببني صاف)، ويرتبط الكاتبان بصداقة طويلة وحميمة إلى درجة أنّه وصف ليفي بالأخ بالاختيار، فهما من أصولٍ يهوديّة جزائريّة وربطتهما مشاريع إعلامية، ويتقاسمان الكثير من الأفكار والقناعات، من بينها معاداة بلد المولد وهي الرياضة التي يمارسها إيريك زمور، أيضًا.
وإذا كانت مشكلة يهود الجزائر تعود بالأساس إلى انحيازهم للمستعمر الذي فصلهم بمرسوم "كريميو" عن بقيّة الجزائريين، فإن نهج بعض مثقفيهم اليوم يكشف بوضوح عن انحياز للمؤسسة والايديولوجية الكولونيالية، في الطبعتين القديمة والجديدة غير المنقّحة التي يجري تداولها في دوائر سياسيّة وإعلاميّة فرنسيّة، هذه الأيام، برعاية غير كريمة من رجال أعمال مفترسين استولوا على وسائل الإعلام، هذا الانخراط في الحملة النيوكولونيالية سيبقي الجزائريين على حذرهم وتوجّسهم القديم من الفئات التي اختارت المستعمر وانحازت إليه، وثمة استثناءات لا تخرق القاعدة بالضرورة، كما أنّ هناك بعض الملتحقين المتأخرين من "المشتغلين في الشمس" على حدّ تعبير الكاتب أعلاه في صورة الكاتب الذي تأويه المجلّة ذاتها التي تستشير جون بول انتوفان.
وبكل تأكيد فإن السّهام التي يطلقها هؤلاء الكتّاب، تُبطل الاتهامات التي توجّهها هذه الفئة للجزائر حول إنكار وجودها، فمن الحماقة أن تطلب من الضحيّة أن تقابلك بمودة وأنت تقف في صفّ الجلاد.
سليم بوفنداسة