يُعيد الخطاب النيوكولونيالي الذي تُنتجه النّخب الغربيّة، هذه الأيام، فرانز فانون إلى واجهة الدراسات، باعتباره من مناهضي الاستعمار الذين فكّكوا الظاهرة في دراساتٍ يسود إقرار بأنّها لا تزال راهنة.
حيث لم يكن فانون مناضلًا من أجل تحرير الجزائر من الاستعمار الفرنسي، فحسب، بل كان دارسًا للظاهرة من الداخل، نجح في كشف الآليات التي تشتغل بها، والتي لم تستثن مهنةً نبيلةً كالطب، حيث اكتشف أنّ زملاءه في الطب العقلي يتعاملون مع الجزائريين بوصفهم بدائيين بدوافع عدوانيّة غريزيّة، فيقومون بتكبيلهم ووضعهم في زنازين، ويتحوّل العلاج إلى عمليّة محو لشخصيّة المريض، ويتعلّق الأمر هنا بممارسة عنصريّة، هي نتيجة إيديولوجية جرى تلقينها للمستخدمين الأوروبيين في الجزائر وتدريبهم عليها، ولم يتوقف مُنجز فانون عند تحرير المرضى وأنسنة أساليب العلاج، وإنّما تعدى ذلك إلى دراسة أثر الممارسات الاستعمارية العنصريّة على الضّحايا، التي قد تصل إلى حد ارتداء قناع الجلّاد الأبيض، وهي آلية نفسيّة تُعرف في التحليل النفسي بتقمّص المعتدي.
أي أنّه وضع بروتوكول العلاج من أمراض الاستعمار، التي استمرّت إلى ما بعد استقلال البلدان ، سواء في العلاقة مع المستعمِر السّابق أو سلوك الذّات المستعمَرة نفسها، عبر استلاب وتبعيّة تُبقي الحالة الاستعماريّة في وضعية اشتغال، وهو ما يمكن رصده اليوم بين دوّل تتباهى بتحوّلها إلى "محميّات" لقوى أجنبيّة، أو تستبدل الاستعمار المعلن باستعمار غير مُعلن، أو بنخبٍ بلغت حدّ ترديد الخطاب النيوكولونيالي، والتباهي بعدم مُناهضة الاستعمار بل والحديث عن محاسنه، كما هو حال كتّاب من جنوب المتوسّط تحوّلوا إلى سكاكين في أيدي الدوائر الاستعماريّة الجديدة في فرنسا واللّوبيات الصهيونيّة التي تجازي ممتدحي المجزرة الجارية من دون توقّف في فلسطين، بل وتجد بينهم من يتنكّر لسحنته وجلده ويقول للفرنسيين الذين استدرجوه إلى الفخّ إنّه أكثـر فرنسيّة منهم، وهو في حقيقة الأمر يقاوم شعورًا ساحقًا بالدونيّة.
هذه الحالات تؤكد صواب طرح فانون الذي يؤكد بأن الحالة الاستعماريّة تتسبّب في "عصاب جماعي" للشعوب المستعمرة، وبالتالي فإن التحرّر يقتضي إلى جانب التخلّص من الاستعمار، "الشّفاء" منه أيضًا.
سليم بوفنداسة