المجاهد صالح بوالرماد  ومغامرة عبور خط جهنم
لم يتمالك عمي صالح لعور  الساكن حاليا ببلدية زغاية بولاية ميلة  المعروف عند عامة الناس  هناك بصالح بوالرماد نفسه ولم يعرف كيف يحبس دموعه وهو يستذكر رفاقه في السلاح الذين قضوا عند خط موريس أو تركوا أعضاء  من أجسادهم كشاهد عيان بين أسلاك ذات الخط الشائك المكهرب الموصوف بـ « جهنم « وقد كان هو نفسه أحد ضحايا هذا الخط البشع الذي أقامته فرنسا الاستعمارية غير بعيد عن الحدود الجزائرية التونسية للتضييق على الشعب الجزائري وكتم أنفاسه داخل بلاده ولمنع تواصل الشعبين الشقيقين ، حيث بترت رجله اليمنى شهر سبتمبر من عام 1957.
بعد مرور 59 سنة عن تاريخ عبور عمي صالح ضمن كتيبة من المجاهدين كانت قادمة من الولاية الثانية التاريخية لهذا الخط عاد للحديث عنه قائلا بان «إرادة الرجال عندما يستجمعون عزيمتهم  لا تقهر ولا تهزم ذلك أن الجزائريين  في تحد صارخ للخطط الجهنمية التي وضعها الاستعمار الفرنسي قيد التطبيق على ارض الواقع» مضيفا أنهم تمكنوا في كل مرة من إحداث الممرات  وسط هذا الخط الشائك لتسهيل العبور فيه جيئة وذهابا أثناء مهمات إدخال السلاح للبلاد، ليواصل عمي صالح حديثه للنصر وضحكة خفيفة تعلو محياه «إن عظائم الأمور في ذلك الوقت كانت تبدو في أعيننا صغيرة « مشددا على انه شعر ورفاقه أثناء قطعهم لأسلاك الخط الموضوعة تحت الضغط الكهربائي العالي كأنهم يقطعون أعواد كبريت صغيرة ويكفي للتعبير عن شجاعة الرجل وصدقه وإصراره وقتها على عبور الخط لهدف  جلب السلاح لدعم الثورة ، انه بعدما انهوا عملية قطع الأسلاك المكهربة وإبعاد الأسلاك الشائكة الأخرى عن بعضها لإحداث الفجوة لمرور المجاهدين تفطن بعد تغيير موضع قدمه اليمنى أن هذه الأخيرة وقعت على لغم مدسوس في التراب لكنه كتم الأمر وظل محافظا على رباطة جأشه وقوة عزيمته إلى غاية مرور عناصر الكتيبة كلها المقدر عددهم ب 144 شخصا بسلام  وما يتطلبه مرور هذا العدد من وقت ليطلب منهم بعد ذلك جميعا الابتعاد قدر المستطاع حتى لا يصيبهم أذى اللغم أثناء محاولته الإفلات منه بالقفز بعيدا.
 فرصة عمل بالحدود الفرنسية الإيطالية تصله بالثورة
عمي صالح الذي استضافنا ببيته بزغاية للحديث عن رحلته التونسية التي نقلت نشاطه الثوري من داخل ارض الوطن إلى خارجه قال انه لم يكن في عز شبابه مطلع الخمسينات منخرطا في أي حزب أو نشاط سياسي كونه لا يفقه في السياسة شيء،  وكل اهتمامه اليومي في بلدة مولده باينان كان منصبا على البحث عن توفير لقمة العيش لأهله التي اضطر بسببها إلى الهجرة نحو فرنسا سنة واحدة بعد زواجه عام 1952 وقد كان عمره 23 سنة و عند وصوله التراب الفرنسي مكث لمدة أسبوعين بمدينة نانسي دون أن يعثر على عمل، الأمر الذي جعله يهيم على وجهه بين المدن الفرنسية عبر الحافلة ليستقر به المقام أخيرا بمنطقة بريانسو عند الحدود الفرنسية الايطالية، هناك تمكن بمساعدة جزائريين بعد يومين فقط من الحصول على فرصة عمل كما كان هؤلاء الجزائريين السبب في دخوله العمل السياسي السري سنة واحدة قبيل اندلاع ثورة التحرير، حيث كان يساهم في جمع الأموال بمكان عمله ضمن الخلايا المنشأة لهذا الغرض إلى غاية حصول زلزال الأصنام ( الشلف حاليا ) عام 1955 أين جاءته فرصة العودة للجزائر العاصمة رفقة خمسة من زملائه بعدما وفرت فرنسا وسائل النقل لأبناء منطقة الأصنام لتسهيل لهم مهمة الاطمئنان على الأهل بالمنطقة المنكوبة، فعادوا معهم ومنها توجه كل واحد من الخمسة نحو موطن إقامته فكانت وجهته هو منطقة باينان التي مكث بها ليلة واحدة فقط بين أفراد أسرته قبل أن يتصل به عند الساعة الواحدة من صباح الليلة الثانية مبعوثان من قيادة جيش التحرير بالولاية التاريخية الثانية اللذان ابلغاه كما قال بان خبر عودته لأرض الوطن وصلهم عبر إرسالية من تنظيم الثورة بفرنسا وان قيادة الولاية الثانية  تمنحه عطلة من أسبوعين للبقاء مع أفراد أسرته بعدها سيعودون إليه لاصطحابه لصفوف جيش التحرير المنتشر بالجبال وذاك ما كان .بعد انقضاء مدة المهلة المنوحة له كعطلة عاد المبعوثان اللذان رافقهما دون أن يحيط أسرته ولا زوجته بالخصوص علما بخبر التحاقه بصفوف المجاهدين الذين بقي معهم كجندي في بداية الأمر ينفذ كل ما يطلبه رؤساؤه  منه من أعمال سواء كان الأمر يتعلق بالمعارك والهجوم المتكرر على مواقع الجيش الفرنسي أو بأعمال تنظيم الثورة بين صفوف الشعب،  وهذا إلى غاية مطلع شهر سبتمبر 1957 أين قررت قيادة الولاية الثانية إرساله ضمن كتيبة من المجاهدين يقودها المسؤول العسكري الضابط الفار من الجيش الفرنسي والملتحق بجيش التحرير ابن مدينة الشلف  المعروف إلى غاية استشهاده باسمه الثوري فقط محمد النمر نحو تونس  بغية جلب السلاح، وهنا يفتح عمي صالح قوسا ليشير إلى أن ثقة الجزائريين في بعضهم البعض كانت كبيرة وتضامنهم شديد من ذلك انه لا احد منهم كان يعرف الاسم الحقيقي لقائدهم العسكري الذي سقط شهيدا فيما بعد ليتبين أن اسمه الحقيقي محمد مداحي وهو الاسم الذي يحمله حاليا مستشفى مدينة فرجيوة.
رحلة  نحو تونس ثمنها رجل مبتورة
التحضير لرحلة تونس يقول عمي صالح تم بالجدية اللازمة  حيث تلقوا من قائدهم العسكري في الرحلة بحكم الخبرة التي اكتسبها في صفوف الجيش الفرنسي كل المعلومات والدروس العملية المتعلقة بخصوصيات الخطوط الكهربائية وكيفية التعامل معها وفي ليلة انطلاق الكتيبة وقبيل ساعة من رحيلها تفاجأ عمي صالح يضيف بخبر إقصائه منها وانه غير معني بها الأمر الذي سبب له – يضيف – قلقا كبيرا وغيضا شديدا  حيث انزوى بعد مغادرة أفراد الكتيبة  المكان غير انه بعد ثلاث ساعات تقريبا من انطلاق الكتيبة من منطقة المنازل (بولاية جيجل حاليا) تم استدعاؤه مجددا  - يقول - من قبل القيادة حيث أدخل لغرفة وهناك سلمت له حافظة بها مبلغ مالي كبير ومعتبر لم يعرف  إلى اليوم قيمته الحقيقية ومجموعة رسائل طلب منه أن يخفيها بإحكام داخل ملابسه وأعطيت له الأوامر بان لا يخبر عناصر الكتيبة عند اللحاق بهم بما يحمل إلى غاية وصوله إلى تونس وتسليم الأمانة إلى شخص يسمى محجوب ( الاسم الثوري للمسؤول الذي كان مكلفا باستقبال بعثات السلاح من الولاية الثانية المتوجهة نحو تونس) ليرافقه بعد ذلك جنديان سهلا له مهمة الوصول بالكتيبة المسافرة عند منطقة الميلية، ليكمل المسير معها دون أن يكشف عن سر تخلفه عنها . 
بعد تسعة عشر يوما من المسير يقول عمي صالح «وصلت الكتيبة إلى خط موريس وقد فشل أفرادها خلال الليلة الأولى في قطع أسلاكه ليعاودوا الكرة في الليلة الثانية وكان الفشل نصيبهم كذلك وفي الليلة الثالثة أراد قائد الكتيبة سي محمد النمر اختبار نوابه الثلاثة قادة المجموعات في الرحلة وجس نبضهم  فخيرهم بين العودة للديار أو المحاولة مجددا مع أسلاك الخط فكان خيار الإصرار على المواصلة والتعامل مع صفوف أسلاك الخط بأكثر ذكاء وهو الذي استقر عليه الأمر» وتقدم عمي صالح رفقة متطوعين آخرين من الكتيبة وسط ظلام دامس من الأسلاك وفي نيتهم الشهادة أو إنهاء مشكلة الخط للتمكن من العبور ، حيث شرعوا في التفريق بين الأسلاك والتمييز بين المكهربة الملساء والأسلاك الشائكة غير المكهربة عن طريق التحسس بعصا غليظة فتم قطع المكهربة وأبعدت الشائكة بعصا عن بعضها البعض وبعد الانتهاء من مجموعة الأسلاك الأولى الموجودة قبل خط سكة الحديد تحولنا  - يضيف عمي صالح - للمجموعة الثانية التي أتممنا المهمة معها وعند دورانه ـ يقول ـ ناحية الرفقاء الذي كانوا ينتظرون منحهم إشارة العبور بعد تأمين المسار تحتم عليه تغيير موضع قدميه ليتبين أنها وقعت بالضبط فوق اللغم، معلقا «لم أشأ إخبارهم بما أنا فيه إلى غاية مرورهم جميعا عندها طلبت من زميلي المسؤول الذي كان في مؤخرة الصف المجاهد الراحل حسين زنتوت بعدما أخبرته بحقيقة الموقف بالابتعاد هو ومن هم أمامه بعيدا عني حتى لا يصيبهم أذى وقد اجتهدت في تحديد أفضل مناورة ووضعية تكون اقل ضررا عند إلقاء نفسي بعيدا عن اللغم» وذاك ما كان حيث بعد انفجاره ودويه نهض  ليواصل المسير رفقة الزملاء دون أن يتفطن بحكم الظلام  وحرارة الجسم للإصابة البليغة التي لحقت رجله اليمنى إلا بعد قطع مسافة حيث سقط ،محدثنا لكنه كما أضاف نهض وواصل  ثم سقط مرة ثانية وقتها شعر  بألم كبير في رجله ولما تفقدها بيده وجدها تنزف دما هناك أبلغ  رفقاءه بإصابته فعمدوا إلى تضميدها قبل انجازهم لحاملة وضع  فوقها وأخذوه في جنح الظلام محمولا على الأكتاف وقبل طلوع الفجر لجئوا لغابة  مجاورة، حيث تم تطويق المكان الذي وضع  فيه وأحكم زملاءه الحراسة عليه وبعد فترة وفي حدود الساعة التاسعة صباحا تزامن تقدم القوات الفرنسية داخل تلك الغابة و سقوط أمطار رعدية كبيرة وقتها «غمرتني مياه الأمطار ولم يبق يظهر من جسدي سوى الرأس والعنق وقد كان لقوة المطر السبب المباشر بحسب ما سمعته جيدا من حديث قائدها في تراجع قوات العدو التي فضل زملائي عدم مواجهتها حفاظا على إنجاح المهمة المكلفين بها خاصة وان الكتيبة عبرت خط موريس وأصبحت على بعد خطوات من الحدود التونسية وقد كان زملائي يظنون أن الأجل قد وافاني في تلك الظروف غير أن رحمة الله وعنايته كانت سببا في نجاتي لنواصل عند حلول الظلام المسيرة لليلتين كاملتين»  و سرد المجاهد بوالرماد أنه وعند  التراب التونسي وجدوا إحدى سيارات الإسعاف في استقبالهم  حيث حول على جناح السرعة إلى احد المستشفيات التونسية وهناك   تم  قطع رجله  ولما استفاق  لم يتذكر رجله بل تحسس الحافظة فلم يجدها عندها    طالب  بضرورة إعادة ملابسه حالا ولم يكن في يد العاملين سوى الرضوخ لمطلبه حيث  وجد الحافظة سليمة  و لم يمسسها سوء فأبقاها عنده  قبل أن يطلب من العاملين الجزائريين بالمستشفى ملاقاة  السيد محجوب وهو المسؤول الذي كلف  بتسليمه الأمانة ،  هذا الأخير لم يتأخر في الحضور حيث سلمه الحافظة واخلي ذمته  ليبلغه أن الحافظة تتضمن بالإضافة للمبلغ المالي الموجه لشراء السلاح رسائل خاصة به وبالقادة والمسؤولين الأكبر منه .
ألمانيا ..محطة  أخيرة
بالمستشفى مكث عمي صالح شهرين و 27 يوما  قبل أن ينقل رفقة ثمانية آخرين من المعطوبين إلى ألمانيا الشرقية أين خضع لعملية جراحية ثانية تم بموجبها قطع عظم الساق إلى الوضعية التي تسمح بتغطيته باللحم وتعويض الرجل المقطوعة برجل أخرى اصطناعية قبل أن يدخل بعد شفائه وزملائه في تربص تكويني تمهيني بعد أن تعلم  اللغة الألمانية والتحكم  في مفرداتها وذلك استعدادا لمعركة البناء والتشييد التي ستدخلها الجزائر بعد الاستقلال، وسمح له التربص بالحصول على حرفة مصلح للأجهزة الكهربائية والالكترونية ليعود عند استقلال الجزائر إلى تونس قبل أن يدخل ارض الوطن شهر سبتمبر من نفس العام. طيلة فترة غيابه سواء بتونس أو بألمانيا كان عمي صالح يتواصل مع عائلته بالجزائر عبر رسائل كان يوجهها لأحد أبناء عمومته بفرنسا ليحول هذا الأخير مضمونها فقط للعائلة مفضلا كغيره من الجزائريين عدم التواصل مباشرة بين تونس والجزائر حتى لا تسقط أخبارهم عند العدو وتستغل . 
 عمي صالح لم يغفل التأكيد على أنه كان خلال الثورة يعمد عبر مجاهدين آخرين لهم القدرة على الكتابة إلى تدوين وتسجيل الوقائع وتأريخ الأحداث التي مر بها وقد سلم كل وثائقه المكتوبة للجهات التي أوكلت لها مهمة كتابة تاريخ الثورة دون أن يعرف مصير وثائقه فيما بعد غير انه في غمرة كل هذا لم ينس وبعد هذه  السنين الطويلة التي مرت على استقلال البلاد بتجديد الشكر للشعب الألماني الذي لم يبخل على الثورة الجزائرية بالمساندة والدعم وتسهيل لهم مهمة مواصلة النشاط بجمع الاشتراكات والمساعدات المالية وتحويلها لصالح قيادة الثورة .
إبراهيم شليغم

الرجوع إلى الأعلى