اقتحمت "لغة الشارع" حياتنا العامة مضيّقة الخناق على "لغة السياسة" مع الأحداث التي تشهدها الجزائر، وبات الساسة أنفسهم يستنجدون بالشارع ليس للتزوّد بطاقة نضالية فحسب بل لإثراء القاموس !  وهنا يتم طرح أسئلة عن لغة السياسة ولغة الشارع: التناقضات والتقاطعات، وكيف أنّ الخطاب السياسي ينفصل غالبا وكثيرا عن لغة اليومي، لغة المواطن العادي البسيط، وهذا ما يُحدِّث هوة بين الطرفين. كما أنّه أحيانا أخرى (أي الخطاب)، ينزل إلى مستويات شعبوية غير مقبولة وغير مُبررة. كما أنّه يتم توظيف لغة الخشب في الخطابات بطريقة كثيرا ما تكون آلية، في سياقات شبه طبيعية عند السياسيين، لكنّها تصطدم أمام المُتلقي، الذي كثيرا ما ينتقد هذه اللغة وينفر منها ويطلق عليها مجموعة من التسميات والتوصيفات، (منها الساخرة والكاريكاتورية)، ما يؤكد على وجود أزمة حقيقية في لغة الخطاب السياسي، الذي لا يرقى إلى درجة الإقناع، ما يعني أنّه أمام معضلة عدم إجادته لإيصال الرسائل/الأفكار إلى المواطن، في ظلّ غياب لغة وأدوات التواصل معه. حول هذا الشأن كان هذا الملف، مع مجموعة من الأكاديميين والدكاترة المختصين في العلوم السياسية،
الذين تناولوا الظاهرة، وسلطوا عليها بعض الإضاءة والتحليل، من خلال قراءات في خلفيات وتداعيات إشكالية أو أزمة انفصال الخطاب السياسي عن الواقع.

إبراهيم بولمكاحل/  أستاذ العلوم السياسية - جامعة قسنطينة  3: انفصال الخطاب السياسي عن الواقع له مشاكله وإشكالاته


ظهرت الدولة الحديثة بمؤسساتها ومختلف أجهزتها لتجسد الرغبة الجماعية للأفراد في تسيير شؤونهم وتحقيق مصالحهم بشكل سلمي وتوافقي، كلّ هذا يكون على أساس قاعدة من الاتفاق والتعـاقد بين الأفـراد والسلطة السياسية المفوضة للقيام بتسيير الشأن العام، غير أنّ واقع بعض الدول خاصة منها غير الديمقراطية (الديمقراطيات الصورية)، يعكس صورة سلبية لاستغلال السلطة والمناصب لتحقيق مصالح ضيقة لفئة تحتكر الموارد المتاحة لصالحها على حساب باقي أفراد وأطياف المجتمع، ما أدى إلى خلق قطيعة وتباعد بين السلطة والقاعدة الشعبية، أين صار كلّ طرف منهما يتحدث ويخاطب الآخر بلغة غير متسقة، ويستخدم مفردات مخالفة وغير متطابقة، وفي هذا السياق برز ما صار يُعرف بـ"لغة الخشب" للتعبير عن النمطية وحالة الجمود والقطيعة التي تطبع خطاب السلطة السياسية وتجعله منفصلا عن بيئته، والّذي عادة ما يكون مُفرغًا من أي قيمة، ويشتمل على تناقضات كبيرة بين مضمونه والواقع الموجه إليه، وعادة ما يُقدم الخطاب السياسي رسالة مبتورة عن الواقع، لا تتعاطى مع طموحاته وآماله، بقدر ما تقدم معلومات مزورة وغير موثوقة.
يشير البروفيسور(بوحنية قوي) إلى أنّ لغة الخشب لغة خطاب يُخلط فيها بين وظيفة يفترض أن تكون نبيلة ترتقي بجودة الحياة التشريعية والاجتماعية للمواطن وبين وعود لا يمكنها أن تحقق ذلك.
إنّ من أهم العوامل المساهمة في تدني مستوى الخطاب السياسي وابتعاده عن لغة المواطن والشارع، تكمن في: غياب معايير صارمة في تعيين المسؤولين داخل مؤسسات الدولة، ففي الوقت الّذي نجد أنّ تعيين المسؤولين في الدول الديمقراطية الفعلية يستند لمعايير صارمة حول الكفاءة والاستحقاق، نجد أنّ هذه المعايير تنتفي وتعوضها معايير واعتبارات القرابة والمحسوبية والولاء السياسي الضيق، الأمر الّذي يؤدي إلى تولي المناصب من قِبل أفراد غير ملتزمين ومنضبطين بأخلاق وضوابط العمل السياسي والإداري، بل ويكونون غير واعين بحجم وجوانب المناصب التي يشغلونها، ما يجعلهم عاجزين على استخدام لغة سليمة ومتناسبة مع طبيعة القضايا المشرفين عليها، بل ويطلقون في أحيان كثيرة وعودا وتعهدات كاذبة، وغير متناسبة حتى مع الإمكانيات المتاحة لتحقيقها، ويؤدي كلّ هذا بالنتيجة لإفراغ مؤسسات الدولة وحتى باقي التنظيمات السياسية الأخرى كالأحزاب من دورها التمثيلي والوظيفي، والتي تكون  عاجزة عن مواكبة مطالب وتطلعات الشعب.
أيضا، عدم توفر آليات الرقابة والمحاسبة وكذلك المتابعة، الضرورية لتكريس رشادة الحكم، والتي تسمح بتكريس عملية التواصل بين السياسي وبيئته، وتجعله على اطلاع ومواكبة مستمرة لحاجيات المجتمع، كما تتيح للمواطنين مراقبة عملية صنع السياسات وردع ومحاسبة وحتى عزل أي مسؤول في حالة عدم التزامه بتنفيذ البرامج والوعود التي كان قد التزم بها.
كلّ هذا يؤدي إلى خلق مشكلة ثقة، ويقودنا للحديث عن معضلة مجتمعية بأبعاد سياسية، أين تصبح الدولة بمؤسساتها مصدرا لتهديد واستقرار المجتمعات، والتي تكون عاجزة عن فهم وتلبية مطالب المجتمع بمختلف مكوناته. في المقابل يفقد المواطن ثقته في الخطاب السياسي السائد، ما يخلق أزمة شرعية، ويكرس حالات من الإحباط الجماعي الّذي قد يتسبب في ظهور صراعات وانقسامات داخلية قد تصل لتهديد بقاء واستمرار النظام ككل.

يوسف بن يــــزة/ أستاذ العلوم السياسية بجامعة باتنة1 : أغلب السياسيين لم يصلوا إلى مرحلة النضج التي يتم فيها تصنيف لغة الخطابات


في تقديري أنّ مصطلح "لغة الخشب" تمّ توظيفه للكناية عن جفاف اللّغة المستخدمة في الحملات الانتخابية، وفي الخطاب السياسي بصفة عامة، وهي في العادة لغة جاهزة تُصاغ في قوالب معروفة فهي خالية من أي مضمون فكري مؤثر، بِغض النظر عن نبرتها التي ترتفع كلّما كان محتوى الخطاب بسيطا وغير مُقنع.
وبالعودة إلى اللغة المُستعملة في الخطاب السياسي عندنا، فأنا أعتقد أن أغلب السياسيين في الجزائر خاصة غير الرسميين لم يصلوا بعد إلى مرحلة النضج التام التي يتم فيها تصنيف لغة الخطابات والتفنن في اختيار اللغة المرجوة حسب المكان والزمان والموضوع، لذلك نجدهم خاصة في الحملات الانتخابية يستدعون كلّ ما يملكونه من ذخيرة لغوية دون تمحيص أو غربلة وهذا ينتج عنه ضعف التأثير على المُتلقي الذي يتعامل بدوره مع لغة الخطاب بمزيج من العقل والعاطفة.
ما يمكن ملاحظته أيضا أن إلقاء الخطابات السياسية باللغة العربية الفصحى بصوت خطابي جهوري عالي النبرة في العادة ما يُلفت الانتباه لدى جميع الفئات لاسيما تلك غير المتعلمة وهذا يحيلنا إلى اكتشاف أثر سحر اللغة العربية على المُتلقي خاصة إذا جرت على لسان خطيب متمكن.. في حين تأتي الخطابات المُصممة باللغة المحكية والدارجة خالية نوعا ما من الحماسة ولو كانت على لسان حكيم.. وينسحب هذا الأمر على خُطب الجمعة مثلا.. ومن هنا نكتشف أن تأثير الخُطباء المتمكنين من الثقافة الدينية يكون أكبر من غيرهم ولو كانوا شعراء.
أريد أن أشير أيضا إلى أن هذا الجانب لا يحظى بالاهتمام في الحملات الانتخابية عندنا، فمن النادر أن نجد مستشارا لغويا أو مُختصا في اللسانيات بجانب زعيم حزب أو مسؤول سياسي وإذا وجد فهو محرّر خطابات لا تتعدى مهمته ترجمة الأفكار من اللغة المحكية إلى الفصحى أو مجرّد تنسيقها بلغتها الأصلية.
أما إذا تحدثنا عن المضمون الذي تحمله اللغة، فالأمر يختلف من لغة إلى أخرى ونُسجل أن قوة اللغة العربية في العادة تُغطي على ضحالة الأفكار فالمُتلقي لهذه اللغة يُفتتن بحسن البديع وجمال الصور البيانية ما يجعله لا ينتبه لقوة الفكرة أو بساطتها.. وهنا نستحضر مصطلح "التبلعيط" الذي يُشير إلى ذلك الخطاب المنمق المحشو بالمُحسِنات لكنّه لا يحمل أيّ مضمون مقنع.. وهذا هو النمط السائد في أغلب الخطابات السياسية.

نبيل دحماني/ أستاذ وباحث أكاديمي -كلية العلوم السياسية- جامعة قسنطينة 3 : كلما انحرف الخطاب السياسي وقع في العشوائية ولغة الخشب


يمثل الخطاب السياسي أحد أهم أنواع الخطابات الشائعة كونه يبلور في ثناياها باقي الأنماط الأخرى ويوظفه في وتيرة التأثير والتأثر داخل المجتمع.
فالمحمول السياسي للغة، يعبر عن الإرادات السلطوية والمجتمعية المتعدّدة، يقدم إجابات وتفسيرات لانشغالات وقلق الفرد داخل الجماعة، ويُوطن لنماذج فاعلة محدّدة النطاق والفرص؛ بعبارة أخرى يجيب عمن يحصل على ماذا؟ متى؟ وكيف؟ على حد تعبير (هارولد لازويل) أحد أبرز علماء السياسة والاتصال السياسي.
وقد تُمثل الدعاية أحد وسائل هذا الخطاب بسعيها لإقناع الجماهير وجلب التأييد والتأثير في سلوكات الأفراد، لكن تتوقف هاته الوظيفة على طريقة استخدام اللغة ومجموع المحمولات الرمزية والعينية والتعبيرية فيها، من حيث انتقاء مستوى خطابي شمولي لا يستثني فئة أو شريحة بعينها، من حيث مخاطبة النخبة والعامة في الآن نفسه. وذلك ما يمثل تحديا حقيقيا بالنسبة للساسة وبخاصة في الحملات الانتخابية التي ترسم وفق استراتيجيات وتكتيكات عالية الدقة وبالغة الحساسية. فكلّما انحرفت هذه الخطابات أو تلك التي وقعت في العشوائية والشعبوية ولغة الخشب غير المجدية. وهو ما يفقدها التأثير اللازم، ويصيب المجتمع بالإحباط والخمول وعدم الثقة.
فلغة الخشب التي شاع استخدامها في أدبيات السياسة الجزائرية والعربية عموما، هي مركب لغوي إنشائي وجداني تاريخي يخاطب القلب لا العقل يناكف الواقع ليعانق الخيال والماضي والأمجاد وهو ما يجعلها ديماغوجية انطوائية، لأنّها لا تتجه للمستقل، هشّة وحيادية سرعان ما تتحوّل إلى رماد إذا اصطدمت بلهيب الواقع ومقتضياته.
إنّ الخطاب السياسي الفاعل والمؤثر هو الخطاب الذي يحمل في طياته ضرورات الراهن ليعانق حلول المستقبل، والذي ينغمس في يومياتنا واحتياجاتنا، مقترحات اشباعاتها الرمزية والعينية. بما سيرفع من معنويات الأفراد ويزيد من تحفيزهم للإقبال على المساهمة والمشاركة وانتقاء أحسن النماذج العامرة بالأفكار والقيم والنهج والأحلام. هو أيضا الخطاب الذي يوحي للجماهير بضرورة التعبئة والتجند وانتقاء النموذج الأنسب للتعاطي مع المستقبل الأفضل من خلال برامج حقيقية وفاعلة. خصوصا أنّ التحولات الكبيرة التي يعرفها المجتمع الجزائري والتي لم تعد خافية على أحد تؤكد على أنّ الأفراد قد بلغوا مستوى من الوعي لم يعد من السهل إقناعهم بوهم الماضي ولا بالنعيم الموعود بقدر ما يطمحون إلى صناعة الجنة في واقعهم اليوميّ.

فؤاد منصوري/ كلية الحقوق والعلوم السياسية -جامعة عنابة: لغة الخشب بضاعة يومية مكرّسة في محمولات الخطاب السياسي


إنّ السياسة كحقل معرفي وممارساتي تستوجب إدارة الشأن العام بتشعباته ورهاناته المتلونة، فالسياسي بامتياز مستمع جيّد لانتظارات المواطن وهمومه وطموحاته، يتماهى مع أهدافه ويقترب من آماله. وإنّ المتفحص للراهن السياسي والدينامية السياسية عموما في الساحة الوطنية يخرج بفكرة مفادها أنّ لغة الخشب بضاعة يومية مكرسة في محمولات الخطاب السياسي الذي تشوبه لغة اللف والمراوغة وأصبح مختزلا في مباركة ومغازلة المواقف السياسية، دعم البرامج الغامضة وتبادل التهم المبتذلة.
لا يمكن فصل الخطاب السياسي عن منتجيه، ولا يمكن فصله عن ثقافة الخطاب المرتبطة بالممارسة الديمقراطية كقيمة مركزية تُفعله وتثمنه... لقد أصبح كلّ من هب ودب يمكنه أن يتسلق ليصل إلى منصب رئيس جمعية سياسية -في ظلّ نكوص القيم المركزية-  ليحولها إلى شركة خاصة أو شركة ذات أسهم لتكون ترسا في آلة كبيرة لإنتاج الرداءة وإعادة إنتاجها بشكل موسع كلّما استدعت الضرورة ذلك. وبهذا المعنى ابتعد الخطاب السياسي الحزبي كلّ البعد عن ترجمة انتظارات الفئات الاجتماعية بمختلف تدرجاتها وانغمس في الشعبوية المفرطة والابتذال.
إنّ الخطاب السياسي الحقيقي هو ذلك الحامل للقيم والتصورات والبرامج النابعة من ثقافة مجتمع ما وما توصل إليه ذكاؤه وحسن تدبيره في مختلف مشارب الحياة، فهو مقترح لحلول المشاغل اليومية للفرد والجماعات واستشراف السيناريوهات المستقبلية، وهذا يتطلب في منتج الخطاب حدا أدنى من المعرفة النظرية والتطبيقية وأيضا السلوكيات النابعة من احترام القيم الوطنية والعالمية.
إنّ دلالات الخطاب السياسي في شقه الحزبي تعبير عن واقع بائس لا تحركه سوى المطامع والحسابات الشخصية الضيقة، فالعمل الحزبي يتميز بالظرفية المرتبطة بالمواعيد الانتخابية بغية تحصيل المغانم وتقاسم الامتيازات، بعيدا عن أشكال النضال اليومي المستمر والتقرب من المشكلات الحقيقية للمواطن مثل التنمية والتشغيل والقضاء على كلّ أشكال التهميش والهشاشة. لقد انعكس هذا الواقع على مدى ثقة الفرد في العمل الحزبي وفي الحركية السياسية برمتها.
متى تصبح السياسة جلية بمعناها الحقيقي؟ نصل إلى هذا المعنى عندما يرتقي الخطاب السياسي إلى مستوى انتظارات المواطن ويكون بذلك معبرا حقيقة عن آماله وطموحاته حاملا للإجابات في الحاضر والمستقبل، ويكون هذا الخطاب نتاجا لبيئة ثقافية واجتماعية متفاعلة إيجابا مع القِيم الوطنية والإنسانية.
يبقى التنبيه إلى منظومة التعليم ونوعيتها باعتبارها الرهان الحقيقي والأوّل، فهي القاطرة الأساسية الجارة لكلّ القطاعات والتي تنتج مجتمعا واعيا بواجباته وحقوقه، وعندها فقط نتكلم عن السياسة التي تكون مُستمعة ومُنصتة لا طرشاء ومُنفرة.

سمية أوشن/ أستاذة وباحثة في العلوم السياسية –جامعة صالح بوبنيدر– قسنطينة  03 : أخلقة النظام السياسي والجمعنة السياسية لتجاوز لغة الخشب


أصبح مصطلح لغة الخشب من أكثر المصطلحات رواجًا في الوقت الراهن والّذي غالبًا ما يرتبط بالخطاب السياسي، وهو خطاب يتخلله التعتيم وجمود للسياسة، خطاب ديماغوجي سكوني بحيث لا يحتوي على أيّة قيمة أو رصيد في الواقع، وهذا راجع إلى عدم وصوله إلى درجة من النضج السياسي وكذلك الاجتماعي عندما يتعلق الأمر بوسائل وطُرق الاتصال مع الشعب.
إنّ الخطاب السياسي في أغلب الأنظمة اليوم أصبح يتميز بنوع من الديكتاتورية اللغوية التي ترمز إلى تعسفية النظام، وتتميز بضعف محتوى كلام المتحدث بها، فهي صياغات دون روح، صياغات ميتة لا حياة فيها، وهذا ما يولد تعارض وتناقض بين لغة النظام ولغة المواطن العادي، وبالتالي تُنتج هُوة بين الطرفين وانفصالا بينهما وهو ما لا يخدم المصلحة العامة، وكمثال على ذلك النظام السياسي الجزائري الّذي أصبح بمثابة كتلة صلبة تحكم ومن الصعب اختراقها، وهذا ما يعبر عن إقصاء تام للمجتمع الفاعل المُهم في معادلة البناء والتنمية.
ومن أبرز ما ينتج عن هذا الخطاب ضعف التأثير على الرأي العام داخليًا الأمر الّذي يولد تعنتا من جانب المُتلقي وبذلك تتكون شيئا فشيئا: أولا/ ثقافة هامشية، وهي ثقافة لا تتفاعل مع النظام وليس للمواطن الّذي يتميز بهذه الثقافة أي موقف خاص تجاه النظام، وبذا تكون العلاقة بين الفرد والدولة ساكنة وجامدة لأنّ النظام السياسي غريب عنهم، وهذا ما يهدّد المشاركة الشعبية بأشكالها المختلفة. وإمّا ثانيا/ تنتج لنا ثقافة تصارعية وهي أخطر الحالات بحيث تقف معارضة أو رافضة للنظام في جميع أو أغلب برامجه وسياساته، وهذا يؤدي إلى انقسام اجتماعي في الدولة تكون آثاره خطيرة على المديين القصير والبعيد المدى.
إنّ المجتمع في تغير مستمر ولذا فإنّه على الحكومات مواكبة هذا التغير بتغيير مماثل في خطابها وبرامجها، لأنّ اختلال التوافق بين الطرفين يؤدي إلى نشوء أو خلق فجوات تبين أن النظام غير قادر أو غير مؤهل لذلك.
وعليه فإنّ البديل يكمن في تحقيق الجمعنة السياسية التي تشير إلى تلقين النظام السياسي لأفراده القيم والعواطف والتوجهات التي تتيح لهم تولي أدوارهم المطلوبة منهم، والجمعنة السياسية هي أداة لترسيخ الإجماع، هدفها تحقيق الاستقرار في المجتمع وسيادة التناغم والتلاحم والسلام المدني. بمعنى تحويل الفعل السياسي إلى فعل مشترك وليس فعلا فرديا، ولهذا يجب إتباع معايير الشفافية بين الفاعل الأساسي والفواعل الثانوية لتحقيق منظومة متكاملة وفقا لما يخدم الدولة ككلّ ولا يتعارض مع المصلحة العامة. كما أنّه على النظام السياسي أن يتخلى عن الخطاب المترجل بما يتماشى مع الأخلاق السياسية ما يجعله نظاما سياسيا أخلاقيا بامتياز يتماشى مع الديمقراطية والرشادة الحقة ويخلق بيئة ممكنة Enabling Environment التي في ظلها يسود التماسك والارتباط بين جميع الأطراف.
إنّ لغة الخشب تجعل الدولة بلا أسس عقائدية وبلا منظومة قيم حقيقية، ولهذا ينبغي على النظام السياسي اليوم أن ينزل من المستوى العالي الّذي صنعه لنفسه وأن يغير من لغته المستخدمة مع عموم المواطنين وهذا بفتح المجال وباب النقاش مع بقية الفواعل التي تتمتع بمكانة مركزية، فعليه أن يتأثر بالسياق الاجتماعي ويستلهم برامجه مما هو سائد وبكلّ احترافية.

حمدان محمّد الطيب/ أستاذ العلوم السياسية -جامعة بسكرة: الشعب أصبح أكثر وعيا بفحوى الخطاب السياسيّ


كثيرا ما نسمع عبارة "لغة الخشب" و"الديماغوجية" للتعبير عن الكذب المُغلف بالمدح والإطراء للمناورة والإغراء، أو بكلمة معبرة أكثر : "النفاق السياسي". "ولغة الخشب" بترجمة حرفية لـلغة الفرنسية “Langue de Bois وكلمة “الديماغوجية” “Démagogie” هي نفس الكلمة ذات الأصل الإغريقي مكتوبة بالحروف العربية الديماغوجيا (من اليونانية ديما من ديموس "شعب"، وغوجيا من "أكين “قيادة”) وهي إستراتيجية الآخرين بالاستناد إلى مخاوفهم وأفكارهم المسبقة. فما هي لغة الخشب في الخطاب السياسي: ويرجع سبب ترجمة الكلمة باللّغة الفرنسية لأنّه كان مفهوما منتشرا أكثر في اللّغة الفرنسية (langue de bois), ومعناه التقريبي هو الخالي من المشاعر.
وظهر هذا المصطلح إبان الحقبة البلشفية لما كان يُعرف بالاتحاد السوفييتي. أطلق الفرنسيون مصطلح (لغة الخشب) على الخطاب السياسي الإعلامي السوفييتي للتعبير عن جمود السياسة والإعلام الشيوعي وعدم مرونته أو حتى قابليته للمرونة.. هذا على الأقل ما يوحي به الفهم أو التفسير الظاهري للمصطلح.. غير أنّ الفرنسيين يرمون بذلك إلى الإيحاء الساخر من فوقية الإعلام الشيوعي آنذاك والأحادية الصارخة لقيادة الرأي العام بوجه عام وبُعده عن الهم الجماعي والنبض اليوميّ للمجتمع. على ما بدا أنّ الدوافع التي أفرزت هذا المصطلح كانت سياسية بالدرجة الأولى وليست إعلامية ذلك أنّ الفرنسيين استنبطوا مقولتهم هذه من السلوك الإعلامي للسياسيين الشيوعيين لاستخدامهم مفردات وعبارات اتسمت بالجمود ومرد ذلك أنّ الفرنسيين والغربيين عامة كانوا يتبنون نهجاً إعلامياً ثقافياً شعبوياً مغايراً للنهج الشيوعي ينطلق من معايشة ومهادنة المُتلقي وصولاً للتأثير فيه وعليه. في آخر الثمانينات من القرن الماضي عالجت المتخصصة الفرنسية بالشؤون السوفييتية Francoise Thom هذا الموضوع معالجة شاملة دقيقة في كتاب بعنوان "اللّغة الخشبية"، أشارت فيه إلى أنّ طريقة الكلام التي روجت لها النُظم السياسية في الاتحاد السوفيتي في تلك الفترة، تسببت في تشويه الكلام والتفكير في آن معا، ومما يثبت ذلك أنّها خلفت آثارا متشابهة في لغات مختلفة كالإنكليزية والفرنسية والروسية والصينية والعربية. وكان لهذه اللّغة الخشبية وجود واسع في المجتمع، وكانت بمثابة رمز للقوة المطلقة التعسفية للنظام.
في الثمانينيات من القرن الماضي كان لدينا اختراع في مدارسنا العربية يُدعى (الفصاحة والخطابة) حيث يتعلم التلميذ تحريك يديه كالمروحة وهو يتكلم بلغة فصحى وأسلوب خطابي غريب. وقد تعلم عدد كبير من أطفالنا طريقة الكلام هذه، ونجد الآن أنّه ما زال يستعمل هذا الأسلوب حتى الآن في نشرات الأخبار، حيث هناك قوالب جاهزة للخبر، ولغة ومصطلحات مُتفق عليها، ولهذا أصبح عدد كبير من المشاهدين يعرف الخبر حتى قبل أن يقرأه أو يسمعه.
قد ظهر هذا المصطلح في اللّغة العربية لتوصيف الخطاب السياسي للأحزاب والسلطة بالخصوص، ووصفه بأنّه لا يحتوي على أيّة قيمة أو أي رصيد في الواقع، أي أنّه مُوهم وموغل في الزيف. وفي دولنا العربية كما في الجزائر، يكثر استعمال هذه اللّغة الخشبية، والمصطلحات والقوالب المُعلبة والجاهزة والتي كبرنا ونحن نسمعها يوميًاً، حتى إنّنا حفظناها جيدا، وعدد كبير منا يستطيع أن يٌكمل الجملة الخشبية عندما يسمع بدايتها. وكما سبق الذكر قد سماها البعض لغة الأحزاب بامتياز وأيضاُ باللّغة الدعائية للأحزاب والسلطة، التي تقوم على فرضية معينة لخبر معين، حتى صرنا نجد أنّ "معجم اللغات الخشبية" مُقسمة إلى مفردات إيجابية وسلبية، أي مفردات تنتمي إلى توجهات سياسية محدّدة، وكانت الصُحف، وربّما مازالت حتى الآن، ترفض أو تمنع استعمال مفردات يعتبرها النظام عدائية بسبب مدلولات تُوحي بمظهر من مظاهر الرأسمالية أو الحضارة الغربية بشكل عام، مثل مصطلحات (الحرية، حرية التعبير محاربة الفساد، حقوق الإنسان)، وتوصيهم باستبدالها بمرادفات لها خالية من تلك المدلولات مثل (العزة والكرامة. الأيادي الأجنبية،،،،،).  أمّا إذا تحدثنا عن الخطاب السياسي في الجزائر، يمكن أن نطبق عليه بشكل حرفي ما سبق وتناولنا من مفردات وأفكار حول مفهوم وأسباب نشأة وأنماط هذا المصطلح، أي لغة الخشب تمامًا... حيث أنّ الإرهاصات الأولى لتململ الخطاب السياسي بالجزائر كان مع بدايات الانفتاح السياسي والاقتصادي للجزائر بعدما فشل هذا الأخير في استمالة الجماهير وانسلاخه تمامًا عن ما يريده الشعب سياسيًا واقتصاديًا فكان بعيدا كلّ البعد عن التأقلم مع المستجدات التي طرأت على الداخل الجزائري وحتى البيئة الدولية فأصبح لغة صماء ولغة خشب حقيقية بعيدة كلّ البعد عن الواقع وكانت سببًا في ما وصلت إليه البلاد آنذاك من انسداد سياسي كبير أدى إلى أزمة أمنية ودوامة عنف كبير. أمّا اليوم فأنا أعتبر أنّ التاريخ يعيد نفسه، لكن مع فارق أنّ الشعب أصبح واعيًا وجدا للخطاب السياسيّ الّذي تتناوله السلطة وحتى أحزاب المعارضة، كما أصبح واعيًا بشكل كبير بمآلات هذا الخطاب ومدركًا لمدى عقمه السياسي وأنّه لابدّ أن يأخذ زمام المبادرة للتغيير السياسي والاقتصادي من أجل تحسين الواقع المزري الّذي يعيشه لأنّ التعويل على هذه النخبة أصبح لا يجدي الآن في الجزائر.

الرجوع إلى الأعلى