في البداية هناك نقاط من الواجب توضيحها نظرا لقيمتها المعرفية في توضيح التصور الذي لدي بخصوص مسألة العلمنة. و لأن الموضوع ليس بالجديد، إلا أنه صار معرض حديث و موضوع كتابات عديدة في السنوات الأخيرة بعد أن كان – ولمدة طويلة من الزمن - طابو يعادل الكفر.
 انتشرت الدعوة إلى علمنة الواقع و النشاط السياسي في البيئة العربية بدعوة من كتاب و تيارات سياسية، و انتقلت من بلد إلى أخر لأن الأرضية الاجتماعية و السياسية متشابهة نسبيا في كل البلدان العربية. بدأت بعض المواقف تتخلص جزئيا من ربط مفهوم العلمنة كممارسة وواقع تمليه الشروط الموضوعية من الصورة التي علقت به منذ نشأته في فرنسا و صراع التيار العلماني يومها مع الإكليروس حول شكل الجمهورية الجديدة في -القرن التاسع عشر-، ليتم معالجتها وفق أطروحات جديدة- بالنسبة إلى الأقلية المثقفة آنذاك.

دبابش نبيل

     الاعتقاد السائد أن الدين والأخلاق العامة سيكونان الضحية عند أي طرح لمسالة العلمانية. ولكنني لست أدري ما علاقة الدين و الأخلاق بموضوع العلمنة و كيف تم الربط بينهم، على اعتبار أن العلمنة لم تكن تاريخيا ضد الدين أو القيم الروحية بل كل صراع العلمانيين كان ضد اغتصاب السلطة من طرف فئة اجتماعية معينة تنسب لنفسها الأحقية بفهم الدين و الدفاع عنه. كما انه تم ممارستها و بشكل أعرج داخل أنظمة تتباهى بالتقدمية (التجربة البعثية مثلا) . كيف يفهم الدين و ما حدود الصواب في الفهم السائد ؟ -الدين واحد و هو المرجع لكل تشريع دنيوي في معالجة الضرورات الاجتماعية و التحديات السياسية، و من دونه لا يمكن أن نستبشر خيرا لهذه الأمة - . هذا بشكل مقتضب صميم الخطاب المنتشر من الخليج إلى المحيط يردد بشكل تكراري في كل مناسبة و لم يفكر أصحابه التوقف لحظة واحدة للتساؤل حول نسبة الصواب في هذا الطرح .
     الإسلام ليس واحدا و لم يكن واحدا طيلة تاريخ انتشاره و توسعه، الإسلام متعدد بتعدد مذاهبه و بتعدد البيئات التي احتضنته، الإسلام لا يقتصر على الخطاب المحمدي بل هو إنتاج تاريخي استمر في التشكل منذ القرن السادس للميلاد  وفق معطيات البيئات الفكرية و الاجتماعية و السياسية التي توسع فيها. هذه ليس صفة مميزة للإسلام كدين و قيم حضارية بل هي شاملة لكل الديانات الأخرى أيضا، فالدين لا يُفهم بعيدا عن البيئة و الواقع الاجتماعي والفكري الذي ينتمي إليه. قد نجد اختلافات صارخة في ممارسة الشعائر الدينية أو في تأويل النصوص أو فهم التاريخ المشترك و الأمثلة ليست بالقليلة في البيئة الإسلامية .إن العودة إلى مرحلة الإسلام الأولى فكرة فارغة من مضمونها لأنه لا يوجد إسلام أول وإسلام أخير . بعد وفاة الرسول (ص)و اكتمال الرسالة كخطاب مؤسس لمجتمع جديد، شهدنا أراء و مواقف فردية ليست كلها مستمدة من القرآن: انقسامات مذهبية و حروب و نزاعات طاحنة و كل ذلك بتزكية من أراء فقهية مع أو ضد هذه الطائفة...شهد التاريخ اقتتالا بين الصحابة أنفسهم و تكفير بعضهم البعض، كما شهد اغتصابا للسلطة بالاعتماد على المرجعية القبلية. وهكذا ظل الوضع لمدة قرون طويلة. الدين جاء موحدا للأمة ولكن التوظيف السياسي للدين فرقها شيعا و مذاهب، وتم توظيفه ضد بعضهم البعض و بشكل لم يكن متوقعا، ورغم كل ذلك لا أعتقد أن المسلمين الأوائل أقل معرفة بالدين منا نحن أبناء القرن الواحد و العشرين .
     هل يمكن أن نتفق مع الدعوة القائلة : تأسيس دولة خلافة ؟ و ماذا تعني الخلافة و هل هي ضرورة سياسية اليوم ؟ لقد تم التنظير لمفهوم الخلافة تاريخيا لتبرير مواقف أشخاص، ولم يتم إطلاقا فهمها خارج دائرة الانتماء القبلي أو الأسري الضيق .ثم هل دولة الخلافة ضامن حقيقي لحريات الأفراد و الجماعات من الإقصاء و التهميش؟ لا أظنها قادرة على تحقيق ذلك . لأن الأساس في دولة الخلافة هو امتلاك شخص واحد للحق في مقابل الكل باسم الدين و الله . لقد برهن التاريخ في العديد من المراحل وقوف الخليفة أو السلطان مع طائفة ليقمع طوائف أخرى لا لشيء إلا كونها تشكل تهديدا فعليا لسلطانه .المقتدر مع المعتزلة و المأمون مع احمد ابن حنبل تمثيلا لا حصرا .
     الدولة الوطنية - وليدة مرحلة ما بعد الاستعمار - لم تتخلص كليا من الإرث القروسطي في بناء المؤسسات الرسمية رغم تبنيها لقيم أوروبية في تنظيم الحياة السياسية و المدنية عموما ( برلمان، تقسيم إداري للدولة، الاعتماد على تنظيم حديث للنشاط الدبلوماسي ...) فهي لم تخط خطوة واحدة في التعامل مع الدين خارج نسق الفهم الموروث، فالتشريع واحد – الإسلام دين الدولة – و ليس الإسلام دين الشعب , و هكذا استمر التوظيف الرسمي للمعتقد في المشاريع التنموية، و تم إقحامه في مساءل عديدة لتبرير مشاريع لا صلة لها بالتراث الديني ( الإسلام و الاشتراكية ). ثم  ماذا كان يعني الإسلام بالنسبة للدولة الوطنية غير تبني مذهب ما و إقصاء مذاهب أخرى و ما هو المعيار المعتمد في الاختيار؟ لا أحد يجيبنا رسميا و بشكل صريح عن خلفيات هذه المغالطة . هل رجل الدين في المنطقة العربية ( الإمام أو القس ) يمتلك من الحرية لإبداء رأيه في مسائل خارج إطار الوصاية الرسمية كما كان عليه الحال نسبيا في القرون الأولى أم انه مجرد موظف حكومي أجير لا يختلف عن غيره في أداء الواجب وتلقي التعليمات؟ إنه تقييد لحرية الممارسة الروحية وفق المنظومة الإيديولوجية للدولة الوطنية.
     ماذا أنتجت الدولة الوطنية من خلال أسلوب الإقصاء تجاه الأقليات الإثنية و الدينية و من خلال التوظيف السياسي للدين في غياب انفتاح فعلي على الحوار الصريح غير تطرف ديني جهادي و انتفاضات متفرقة مطالبة بالاستقلال (الأقلية الكردية في العراق و سوريا نموذجا )؟ هل الدولة الوطنية التي وعدت بتحقيق العدالة الاجتماعية نجحت في ذلك؟ أكيد أنها لم تنجح لأنها لم تستطع أن تتخلص من عقيدة الوصاية و امتلاك الحقيقة و اتهامها الغير المختلف فكريا و عقائديا بالعمالة و التخوين. المشروع العلماني يخيف من خلال اسمه لان التشويه أطاله من قبل كل التيارات (الإسلاموية , الجمهورية ...)   وقد يصبح مطلبا استراتيجيا لو أدركت النخبة قيمته  التاريخية و المعرفية و الحقوقية. ولكن لا أعتقد أن الوقت والظروف السوسيولوجية  قادرة في المرحلة الراهنة  على تبني العلمانية مشروعا للمجتمع .
 الديمقراطية/العلمنة
     وجهان لعملة واحدة, وهذا ما يكشف المغالطة الرسمية للدولة الوطنية التي تتشدق حينا بالديمقراطية مع استمرارها في ممارسة الإقصاء تجاه الأقليات المذهبية باسم الدين الصحيح في مقابل الدين الخطأ. الفرقة الناجية في مقابل الفرقة الضالة. إن سياسة الحزب الواحد و الانتماء لإيديولوجية محتكرة للحقيقة يتناقض كليا و مبدأ الديمقراطية الذي يجعل الشعب على اختلاف بنياته الفكرية و المذهبية سيدا للموقف. العلمنة لا تتنافى و الدين بل هي النقيض لاحتكاره في سبيل تبرير الدنيوي واستبعاد المواقف الأخرى. العلمانية ضد تمزيق المجتمع الواحد على أساس ديني. كل الرسل دعوا إلى التسامح واحترام عقائد الناس على اختلافها ولكن الدولة الوطنية لم تلتزم بهذه التوصية التي هي من صميم الإيمان. نفس التوجه مارسته الحركات الجهادية و الإسلاموية من خلال الفهم التبسيطي الطقوسي للدين، وبدعم رسمي من هيئات دولية، وهي من أسهم في تمزيق الصورة الحضارية للمشرق مهد الحضارات الأولى منذ حقبة ما قبل الميلاد. هذه الحركات هي التي حولت بلدان نشأة الكتابة و العلم و الدين إلى ملاجئ لمقاتلين يحترفون قطع الرؤوس .                                      
ماهي العلمنة
1 /الدولة العلمانية
     إن الدولة ليست مكلفة بتبني وجهة نظر أو موقف فكري أو إيديولوجي أو ديني. الدولة سلطة سياسية تلتزم الحياد و تسعى من خلال قوانين و تشريعات إلى ضمان احترام القانون المدني من طرف الجميع مع إفساح الفرص لكل الأديان والمواقف الفكرية للتعبير الحر عن آرائها و عقائدها في إطار منظم بعيدا عن الصراع و التنافر . ليس للدولة الحق في تغليب تيار فكري على حساب أخر أو إقصاء طرف لأسباب أثنية أو عقائدية . الدولة من خلال مؤسساتها الرسمية فضاء مفتوح يجد فيه المواطن فرص التعبير عن مواقفه في إطار ضمان عدم المساس بحقوق الآخرين. العلمنة تعني أن المواطن حر له الحق في اختيار ممثليه و ممارسة شعائره الدينية ضمن ما يسمح به القانون بعيدا عن التهديد أو التكفير و التهويل . الدولة ليست مكلفة بتمويل النشاط الديني و ليس لها وصاية في انتداب ممثلين لطائفة ما، بل الأمر متروك للشعب,من خلال جمعيات أو هيئات محلية أو وطنية، في تقرير من ينتدبه لتسيير أموره و تنظيم شعائره . للفرد الحق في تبني الموقف الفكري أو الديني الذي يختاره بمحض إرادته و مهمة الدولة تنتهي في توفير الحماية القانونية و الجو الأمني المناسب. المدرسة مؤسسة حكومية وظيفتها تقديم المعرفة العلمية وتعليم المواطن بعيدا عن أساليب الإملاء الفكري أو التلقين الإيديولوجي المذهبي الذي يتعارض و جوهر الديمقراطية، و هذا لا يعني أن الأقليات المذهبية أو الإثنية لا تملك الحق في تأسيس مدارس خاصة. إن الأساس هو المواطن الحر الذي يجد حقوقه في ظل القانون بمعزل عن انتماءه العقائدي أو الإثني أو الأيديولوجي .

  2/مقاربة ابيستمولوجية
      إن الذات ليست قارة مغلقة بل هي دائمة التشكل من خلال الصراع والصدام مع الغير أو التأثر و المحاكاة. إنها  كيان يحمل كل الموروث الفكري والثقافي للبيئة التي ينتمي إليها كل واحد منا .إن الآخر الغريب عنا عقائديا أو فكريا ليس عدوا بقدر ما هو جزء في تشكيل ذواتنا حتى و نحن على خلاف مع نوعية القناعات التي يتبناها. والذات العارفة لن تصبح كذلك في بيئة قائمة على الإملاء والقمع الأيديولوجي بل تجد قيمتها الفعلية وازدهارها من خلال اختيارها الحر لأسلوبها في التفكير و تنظيم التصورات التي تراها مناسبة والمساهمة مع الآخر المختلف في تشكيل تصور عام يعطي ابيستيمة مميزة .
     إن الحقيقة ليست مطلقة بل هي موقف زمني  نسبي - شئنا ذلك أم أبيناه - و مهما كان نوع المغالطات فهي تنتمي إلى تاريخ صانعوه بشر يتحقق جزئيا تتصارع فيه الآراء وتتقاطع ينفي فيها الجديد القديم أو يعدله أو يعيد إحياءه في صبغة جديدة . هذا التصور الابيستمولوجي للعلمنة يتنافى كليا و الرؤية القروسطية التي ترى أن الحقيقة مطلقة يستلهمها الملك أو الحاكم من الله و لا يحق للبشر إلا الطاعة. الحقيقة في المنظور الأورثوذوكسي الديني منتهية و تم الفصل فيها و بشكل كلي و منتهي في أصولها و حدودها و كل خروج عنها هو عصيان يستوجب القصاص. الفرد لا وجود له في الفهم الأورثوذوكسي إلا كأداة لتحقيق المطلق ضمن المجموعة. إن الفهم الديني يجعل من التاريخ منتهيا و ليس للإرادة من دور في تغيير أو تحديد مساره النسبي .
     الفهم العلماني يجعل من المعرفة تكوين مستمر و بناء عناصره تتكامل، و التاريخ صراع و تشكل متجدد نحو المستقبل. المعرفة اكتشاف و ليست تلقينا، المعرفة تصورات فردية و ليست وحيا، و هي رأي ينبثق في البيئة التي تمنحه الحق في الظهور و الخروج إلى النور . المعرفة ليست جاهزة نفهمها بقياس الشاهد على الغائب بل هي تعدد و شك مستمر.
     إن العلمانية مشروع مجتمع لا يمكن أن يكون منتهيا وهي ليست عقيدة وإنما اختيار ديمقراطي يتبناه المجتمع و السلطة السياسية، أساسه الانفتاح على الآخر و تجاوز الخطابات الشوفينية . إنها مشروع حداثي يشارك في إثرائه كل المواطنين، و مهمة السلطة تحقيق أكبر قدر من العدالة في توزيع الأدوار و حماية الحق في الوجود للإنسان . إنها مشروع مجتمع يجعل من الإنسان مركزا و ليس أداة .

الرجوع إلى الأعلى