ظلت الأسئلة حول علاقة المثقف والسياسي، تتكرر في كلّ مناسبة وبصيغ وفي سياقات تكاد تكون متشابهة، لكن في ظل الحَراك الشعبي الذي انطلق يوم الــ22 فبراير، تشكلت نفس الأسئلة تقريبًا حول إشكالية المثقّف والسياسي وعن جذور العلاقة بينهما ومشاربها وإرباكاتها واشتباكاتها وحروبها الباردة. لكن هذه المرّة بصيغة تصبو إلى خلق أو استشراف تصورات مستقبلية حول ثنائية المثقف والسياسي. فكيف يا ترى ستكون هذه العلاقة في الأمد القريب وفي مستقبل الأيّام والأعوام. هل ستبقى الإرباكات نفسها بين السياسي والمثقف، هل ستبقى العلاقة مكهربة ومربكة وفي مفاصلها يسري التشنج والشك والريبة، أم أنّ الحَراك سينهي العَداء التاريخي بين المثقف والسياسي، أو على الأقل سيخفف من حدّته، وستتغير الأمور لتكون العلاقة بينهما تكاملية وتواصلية وفيها من الندية الإيجابية ما يخدم الجميع، دون أن يجد المثقف نفسه خاضعًا لسلطة السياسي وخانعا له.
استطلاع/ نوّارة لحـــرش
حول هذا الشأن «المثقف والسياسي»، كان ملف «كراس الثقافة» لعدد اليوم، وفيه يتحدث الدكاترة: أحمد دلباني، وعبد القادر رابحي، وعبد الحميد ختالة، وكل منهم يحاول مقاربة الإشكالية من زاوية مختلفة عن الآخر، لكنها تلتقي في محاولة استشراف العلاقة المستقبلية بين المثقف والسياسي.

أحمد دلباني/ كاتب ومفكر
الحراك لم يُنتج مثقفه الجديد بعد والحربَ ليست أبدية
بداية، لا أعتقدُ أنَّ الحربَ أبدية بين المُثقفِ والسياسيّ في المطلق إلا إذا انطلقنا من تصور يساريّ تقليديّ يعتبرُ المُثقفَ ثائرًا ومُبشرًا بانقلابٍ سوف يأتي على عوالم الظلم والاستغلال وإنتاج الأوهام الإيديولوجية أو أنصاف الحقائق التي تخدم الهيمنة والسيطرة. فطالما كان للمثقفين وظائف تقليدية غير ثورية ترفدُ السلطة السياسيَّة القائمة بما يُبرّرُ وجودها ويمنحها المشروعية التاريخية. وبالتالي فالمثقف ليس الثائر بالضرورة وإنّما هو ذلك المشتغل بالفكر الّذي يُبرّرُ، من خلال تدخله، الواقعَ الشامل أو يدعو إلى الثورة عليه حسب الظروف واعتبارًا للمواقف التي يتبناها أو المنطلقات الإيديولوجية التي يتشرنقُ داخلها. بل إنّنا نجدُ حتى بين المثقفين «الطليعيين» في حِقب انتصار الأنظمة الشمولية الماركسية من لم يتورَّع في وصف التدجين الّذي لحق بالمثقف والإنسان على العموم بـ «الثورة». ولكن تلك حكاية أخرى. فما يهُمنا الآن هو علاقة المثقف بالسياسة. ولكنّني، شخصيًا، أفضل أن أركز على علاقة المثقف بالنقد وبالمشاريع الخلاصية التي يتبناها. فالمثقف موقفٌ ورؤية للوجود والمجتمع وتطلعٌ إلى هارمونيا تردمُ الهوَّة بين الواقع والنظرية. لذا أفضل أن أتحدَّث عن علاقة المثقف بالسلطة لا بالسياسة باعتبارها مُمارسة وأداءً. وأستبقُ فأقول إنَّ هذه العلاقة الإشكالية –على الأقل في عالمنا العربي/الإسلامي وفي الجزائر بخاصة– تشبه تلك التي كانت بين الساحرة سيرسه Circé وأصدقاء أوليس كما وردَ في “الأوديسة” للشاعر اليونانيّ الخالد هوميروس. فقد أوتيت هذه الساحرة القدرةَ الخارقة على تحويل البشر إلى خنازير. هذا جوهر المشكلة. لم نخرج إلى اليوم، ربّما، من الوضعية التي تحول المثقفين إلى مسوخ تتنازل عن وظائفها النقدية أو تجعل منهم “كلاب حراسة” كما يشيرُ إلى ذلك عنوان كتابٍ شهير لبول نيزان في وصف بعض مثقفي مرحلته في فرنسا الثلاثينيات.
يكشفُ تاريخ الأفكار و”الأُطر الاجتماعية للمعرفة” عن الطابع التاريخيّ والسوسيولوجي لحضور المثقفين والأدوار التي يكون عليهم الاضطلاعُ بها في لحظات التحول الكبرى باعتبارهم “كتلة تاريخية” ترتبط بتحديات زمنها والآمال الخلاصية للطبقات الأكثر تقدمًا في لحظةٍ مُحدَّدة من لحظات التاريخ. يظل المثقف، على المستوى الفكريّ، حارسًا لنظام العالم كما هو أو كما يجبُ أن يكونَ مُعتقدًا أنّه صوتٌ يأتي من جهة العقل ويتمتع خطابه بالشمولية والكونية. ولكن هل فعلا بإمكان خِطاب المثقف أن يكونَ كونيًا؟ لقد بيَّن التطورُ التاريخيَّ لاحقًا أنَّ مزاعمَ الإيديولوجيَّة الليبرالية مثلا -منذ القرن الثامن عشر- لم تكن إلا تعبيرًا عن تطلعات ومصالح الحامل الاجتماعي للحداثة في أوج عنفوانها الأوّل إزاء البنية الأرستقراطية واللاهوتية للمجتمع والفكر: نعني بذلك الطبقة البورجوازية. فلم تكن قيمُ العقلانية والحرية الفردية والمساواة وأفكار العقد الاجتماعي والإرادة العامة والحق في الملكية إلاّ إيديولوجية هذه الطبقة التي عبَّر عنها مثقفوها من فلاسفة وكُتاب “عصر الأنوار”. فالتاريخ يكشف دائمًا عن النسبية والتحيّز في ثنايا مزاعم الكونية، وهو ما دفع بمفكر مثل سارتر إلى أن يتهكم على ثقافة ذلك العهد بالقول إنَّ الإنسانية عندها كانت “لا تتألفُ إلاّ من بورجوازيين بيض وذكور” في محاولةٍ للإشارة إلى ضحايا تلك الثقافة ومُهمَّشيها كالمرأة مثلا أو العامل البروليتاري أو الزنجي. ولا داعي للتذكير، هنا، بالاحتجاج الكبير الّذي مثله اليسارُ السياسيّ والثقافي في الحياة السياسية والاجتماعية الغربية بعد أن كشفت الليبرالية الاقتصادية (الرأسمالية) الصاعدة عن كساحها أمام مطالب العدالة الاجتماعية والمساواة التي تتجاوز شكلانية الحقوق الموروثة عن العهد البورجوازي. ما أردتُ أن أقول، هنا، هو أنّه لا وجودَ، فعلا، لخِطاب الكونية. فكلّ خِطابٍ ينتجه المثقفون يمثل “رؤية العالم” التي ترتفعُ بصورةٍ مكثفة وتجريدية بالتجربة التاريخية إلى مزاعم الخِطاب الشمولي القادر على التعبير عن قدَر الإنسانية. لقد أسهم المثقفون دائمًا في إضفاء الشرعية على الطبقات الاجتماعية التي خرجوا منها حاملين طموحَها ونزوعَها إلى الهيمنة على الفضاء السوسيو- سياسي. هذا ما يشيرُ، بالتالي، إلى تاريخية وظائف المثقف نفسه وإلى عدم إمكان عزله عن السياقات المُعقدة التي أنتجته ومنحته حقَّ الكلام باسم قيم تحرسُ وتبرّرُ مشروعية الوجود الاجتماعي والسياسي الناهض. والجدير بالذكر أنَّ المثقف البورجوازيَّ الّذي كان حضورُه النضاليّ التعبيرَ الأمثل عن تطلعات عالم قام على أنقاض العوالم القديمة المُنتهية تحول لاحقًا، هو نفسه، بفعل التطور التاريخيّ أيضا إلى وعي عدميّ كتعبير عن بلوغ البورجوازية سنَّ اليأس وتحولها إلى قوةٍ كابحة للتقدم ترى في نهايتها نهاية العالم. هذا ما جعل المثقف اليساريَّ الطليعيَّ يحتل الصدارة لزمن طويل بزعيقه وخِطاب الثورة الجاهز الّذي نعرفُ جميعًا أنّه لم يكن، هو الآخر، إلاّ يوتوبيا تختبئُ مجاهيلُ “الغولاغ” الرهيبة في ثناياها. ولكنَّ ذلك الصخب الّذي وعدَ بانتظار “الصباحات التي تغني” انتهى وأصابه الخرس. هذا ما قاد كما هو معروفٌ، بمعنى ما، إلى ميلاد “المثقف النقدي” الّذي أعلن بحضوره نهاية عهد سيادة المنظومات العقائدية الشمولية الصماء أمام حركية العالم ومآزق التاريخ حاصرًا وظائفه في اختراق “السُبات الإيديولوجي” الّذي طال أمده.
هذا، تحديدًا، ما نود أن نأتيَ على ذكره ونحنُ نعيشُ الحراك الشعبيَّ الجزائريّ هذه الأيّام. فما لاحظناه على العموم هو قصورُ المثقفين النقديّ أمام الحراك وغرقهم في الكلام السياسويّ المُتسرع الّذي يغفل عن الأهم: نعني بذلك البنيات المُضمرة التي تضمنُ إعادة إنتاج السلطة القائمة في أشكال جديدة. إنَّ مجابهة الأداء السياسيّ للأشخاص الفاعلين بالنقد والتشهير لا يعني أبدًا أنّنا نجابه السلطة بما يُهدّدُ تماسكها وديمومتها. فالسلطة أداءٌ معقدّ وامتدادٌ ثقافي ورمزيّ في النسيج الاجتماعيّ تتأسَّسُ عليه المشروعية بالمعنى الواسع وليست أشخاصًا أو مؤسَّساتٍ ظاهرة يمكن الإطاحة بها بسهولة. السلطة هي ما يضمنُ تماسك العالم السَّائد وما يُصدّرُ معقوليتَه في الوعي العام. ربّما نتذكرُ، هنا، ما نبَّه إليه ميشال فوكو منذ بداية السبعينيات عندما طفقَ يُحلل أداء السلطة –بعد فشل ثورة ماي/أيار 1968 في الإطاحة بديغول- محاولا فهمها ومقاربتها بعيدًا عن النظريات التي ظلت تختزلها في أجهزة الدولة أو هيمنة الطبقة البورجوازية. فلقد تبيَّن له أنّه من الأنسب، ربّما، أن نفكر في السلطة بمعزل عن شخص “الملك” كما يُعبّر. ولكنَّ مثقفينا في عمومهم ظلوا يركزون على شخص “الملك” في نقدهم من خلال التركيز على “الرئيس” و”العصابة” و”السارقين” بطريقة الصحفيين والمُخبرين الذين يملكون معلوماتٍ عما يدور “تحت الطاولة” كما يُعبَّر دون أدنى إشارةٍ إلى الثقافة الألفية السائدة أو علاقات القوة التي تربض وراء إنتاج الفساد المُعمَّم وإعاقة نمو ثقافة الديمقراطية وإطالة أمد الزمن الذكوري/البطريركي. لا يزال “السّبات العقائديّ” عائقًا قائمًا. إذ يبدو أنَّ السلطة الخفية لا تكشفُ عن نفسها إلاّ كما يكشفُ الجبل الجليديّ العظيمُ عن نفسه. ولكنّنا ظللنا نقطعُ الشجرة الخبيثة ونغفل عن الجذور التي تغذيها في أبنية المجتمع والثقافة. والدليل هو دوامُ الحُلم بالمخلص الّذي سيملأ الأرضَ عدلاً بعد الإطاحة بالفاسدين، أو بالوضع الجديد الّذي ستسترجعُ فيه الفحولة الجريحة مواقعها. فكيف نحلم بـ “جمهورية جديدة” ونحن مسكونون برجعة المنقذ الّذي سينتشل حياتنا من التفاهة وعدم المعنى؟ كيف نحلم بالفصل بين السلطات وبعدالة حديثة مستقلة والكثيرُ منا يتمنى لو تنصبُ المشانق في الساحات العامة لإعدام الفاسدين؟ كيف نحلم بالتقدم الاجتماعي والازدهار الإنسانيّ مع تغييب المرأة أو تهديدها واعتبار عملها وتحررها سببًا لمتاعب المجتمع وفساده؟ من هنا يبدو لي أنَّ من أوكد مهام المثقفين الحقيقيين التأسيس لجينيالوجيا تفكيكية من شأنها الكشفُ عن مُعيقات انبثاق الفرد -المواطن العربيّ والمساواة بين الجنسين والكوجيتو العربيّ الّذي سيمهد لاحتلال المشهد والإطاحة بالأب الرمزي من أجل ترسيخ حق المواطنة في الفضاء الديمقراطي التعددي. لم نشتغل كثيرًا على هذا وربّما ظل المثقفون النقديون عرضة للتسفيه والانتقاد والاتهام بالتعالي والانسحاب من ميدان معركة تحرير الفرد العربيّ من سطوة الأنظمة السياسية القائمة. ولكنّنا نتساءل هنا: ما هو حصادُنا من “الربيع العربيّ” على المستويات السياسية والحقوقية؟ ما هي ثمارُ الحراك العربيّ منذ 2011 في معظم البلدان التي شهدت الإطاحة بالرؤساء؟ هل تغير شيءٌ واحدٌ نحو الأحسن؟ هل ترسَّخت قيم الحرية والديمقراطية في بلداننا؟ هل شعر الفردُ العربيّ بأنَّ ماردَ طاقاته تحرَّر وبأنَّ لائحة الحريات اتسعت ودائرة التضييق والقهر والعسف تقلصت مثلا؟ ألم يرجع الإسلاميون بقوةٍ من خلال صناديق الاقتراع حاملين معهم أحلامَ الخلافة والوصاية وانتقام المجتمع الذكوريّ من التحديث المتوحش وغير المتوازن الّذي مارسته الدولة الوطنية العربية؟ ألم يعُد البطريرك العسكريّ أيضا بقوةٍ، هو الآخر، مُعبّرًا عن عدم خيبة الإنسان العربيّ من رجعة المخلص المنقذ في أزمنة الفوضى؟ يبدو لي، أحيانًا، أنَّ تجارب العالم العربيّ تصلحُ مداخل لدراسة التاريخ لا باعتباره مسارًا يخضعُ لإيقاع التغير والتقدم، وإنّما من أجل دراسة نوازع الإنسان بوصفه كائنًا يتفوَّقُ توقه إلى الطوطم على حلمه بالحرية.
إنَّ الحراك العربيّ منذ 2011 –ونظيره الجزائريّ اليوم أيضا– لم يُنتج مثقفه الجديد بعدُ، رغم أنَّ حروبَ التحرير منذ الخمسينيات -ومن بينها حرب التحرير الجزائرية بكلّ تأكيدٍ- أسهمت بشكل فعّال في إنتاج المثقف المابعد كولونيالي الّذي أعاد صياغة المعنى وفهم التاريخ من زاويةٍ تفلت من المنطق الإمبراطوريّ المركزي للغرب الحديث. لقد ولد التفكيك، بمعنى ما، من الشقوق التي أصابت هارمونيا الفكر الغربيّ في العمق وفتحته على تعدّد العالم وتكثره. هذا ما يجعلنا نعتقدُ أنَّ نمط المثقفين السائد اليوم لا يرقى إلى أن يجدّدَ خطابَ التعامل مع اللحظة التاريخية الراهنة ما دام لم يطأ، بعدُ، أرض المراجعة النقدية التي تقرأ فشل انتفاضاتنا وعدم إمكان خلخلة رواسب المجتمع الأبويّ التقليدي. لقد قال الفيلسوف يومًا ما: “سنونوةٌ واحدة لا تصنعُ الرَّبيع”. فهل يمكنُ لسنونوة الحراك الشعبيّ أن تصنعَ ربيعَ الديمقراطية والحرية والخلاص من أزمنة الفساد والقهر؟ لماذا نعاني دومًا من الولادات غير المكتملة؟ هذا، في اعتقادنا، ما يجبُ أن يتطنحَ له المثقفُ النقديّ وهو يُواكبُ الحراك مُتأملا ومُستبصرًا رهاناتِ المرحلة ومآلاتها. وهنا، ربّما، يحسنُ بنا أن نتوقف قليلا عند ذلك التصنيف الشهير الّذي وضعه الأستاذ علي حرب وهو يرصد عمل المثقف -في هذه اللحظة العولمية- من خلال نقده لبعض تجليات الأنتلجنسيا العربية، ودعوته إلى “نقد الذات المُفكرة” التقليدية التي ملأت الساحة بشعاراتها وخيباتها. فمن جهة أولى نجدُ المثقفَ/المُبشر الّذي ظل يُجابه الممنوعَ الظاهر ويقتحمُ أسوارَ التابو السياسي والاجتماعي والديني في سبيل توكيده على قيمة الحرية والعدالة مثلما رأينا عند المثقف الغربي الكلاسيكي كفولتير أو سارتر أو برتراند راسل أو تشومسكي. ومن جهة ثانية نجدُ المثقفَ النقديَّ الّذي تتطلبه المرحلة الراهنة وهي تشهدُ انهيار الشموليات والعقائديات المغلقة. هذا المثقفُ لا يجابه الممنوعَ الظاهر وإنّما الممتنعَ الخفيّ الّذي يتمثل في مجمل العلاقات غير النقدية التي يقيمها مع المعرفة. إنَّ المثقفَ النقدي، بهذا المعنى، معنيٌّ بتجديد مراسلاته مع العالم وتجاوز انحباسه داخل المذهبيات المغلقة على ذاتها. هذا ما يجعل منه مثقفًا يبتعدُ عن التبشير ويقيم علاقة نقدية مع أفكاره ذاتها من خلال جينيالوجيا تفكيكية لما يتأسَّسُ عليه الواقعُ الشامل من قيم قاعدية تخفي علاقات القوة في المجتمع الّذي يودّ تغييره.

عبد القادر رابحي/ كاتب وناقد
لا نتصور أنّ الحراك سيقدم أنموذجًا جديدا لعلاقة متحسنة بين المثقف والسياسي
ربّما كان من الواجب تحديد نوع المثقف الّذي بإمكانه أن يندرج في الحالات الماضية والحاضرة والمستقبلية التي ربطت ولا زالت تربط المثقف بالسلطة في الجزائر خاصة، وربّما استحالت إمكانية تحديد مقاييس التحديد نفسها نظرا لصعوبة تحديدها.
فثمّة أنواعٌ كثيرةٌ من المثقفين، كما أنّ هناك أنواعًا كثيرة من السياسات. ذلك أنّ الأمر في غاية التعقيد بالنظر إلى إيجاد إجابة بإمكانها تعميم فكرتها على حالة الجزائر خاصة، لأنّ أصل المشكلة قديمٌ قِدمَ السُلطة وقِدمَ المُثقف في كلّ حالاته. هناك تطورٌ للعلاقة بين المُثقف والسياسي أملته الظروف التاريخية والمراحل الفكرية والفلسفية المُتعاقبة التي صاغت مفهوم المثقف وتصوراته التي تجعل منه مثقفًا، وصاغت كذلك مفهوم السلطة بوصفها القوة التي تُنفذ بها السياسات.
لقد كان المثقف، والأكيد أنّه لا يزال، يحمل صفة المعارض للسياسات التي تتبناها السُّلَط المُتعاقبة بالنظر إلى ما يحمله من رؤى وأفكار اُعتُبِرت، في كلّ العصور، مُتقدمةً في نظرتها للأمر الواقع عن السلطة التي تُنفذ السياسات. ولعله لذلك، كانت علاقة المُثقف بالسياسة ورجالها علاقة صدامية على وجه الإطلاق نظرا لتناقض مصالح السياسي مع مواقف المثقف في أغلب الحالات البانية للعلاقة التي تربط بينهما. ذلك أنّ كلاً منهما يقف على نقيضٍ من مواقف الآخر بسبب اختلاف التصورات الثقافية والمواقف الفكرية والإجراءات التطبيقية والمآلات النهائية.
السياسي رجل سلطة تنفيذية يحتاج إلى أفكار جديدة للبقاء في السلطة لا يجدها إلاّ عند المثقف الّذي من مهامه الأساسية إنتاج الأفكار الجديدة في تغييرها لطموحات المجتمعات وواقعه. ومن هنا، يبرز مجال التجاذب والصراع بين المثقف والسياسي بحرص كلّ منهما على تنفيذ رؤيته من خلال استعمال الآخر. لطالما استعمل السياسيون مثقفين كبارا كوسائل إقناع ودعاية ومنابع أفكار تعود بالربح عليهم وعلى أنظمتهم. ولطالما استعمل المثقفون السياسيين من أجل إيصال أفكارهم إلى مستويات الممكن التنفيذي الّذي حلموا به. وفي كِلتا الحالتين نجد أنواعًا من العلاقات تنتهي دائمًا بالصراع المرير بين السياسي والمثقف، والّذي تكون فيه الغلبة الآنية للسياسي رغم انهزام المثقف، والغلبة الزمنية للمثقف بعد انتهاء السياسي. لكن الحالات الأكثر إيلامًا هي التي يستعمل فيها السياسي مثقفًا لضرب مثقف أو يستعمل فيها المثقف السياسي لتصفية أو تحييد مثقف آخر. لقد كانت السياسة دائمًا فاعلا حازمًا في معركة المثقف مع المثقف، وهي المعركة التي يتمناها السياسي ويسعى إلى تحقيقها لأنّها الطريقة الوحيدة التي يحيّد فيها خصومه المثقفين ويستفيد من أفكارهم.بإمكاننا الوقوف، في حالة الجزائر، على كلّ أنواع المثقفين عبر المراحل التاريخية التي مرّت بها الجزائر الكولونيالية والجزائر الثورية والجزائر المستقلة، من المثقف المُدجن إلى المثقف الثوري إلى المثقف العضوي إلى المثقف التلقائي. وفي كلّ الحالات نجد العامل الإيديولوجي مُحركًا أسياسيًا في قولبة المواقف وتسطير المُسارات وفقًا للمصلحة الآنية التي تربطهم بالظرف السياسي الّذي عايشوه أو مروا به أو ساندوه أو عانوا منه. ثمّة مثقفون عانوا كثيرا في غياهب السجون الاستعمارية ومن صمت الثوريات الوطنية، وثمّة مثقفون تماهوا مع المراحل التاريخية من أجل الحفاظ على ما يتصورونه رسالة لابدّ من تمريرها بطُرق غير مباشرة للأجيال، وثمّة مثقفون مُعتزون أو مغرورون بإيديولوجياتهم التي هي مسكن وجودهم الّذي لا يفارقونه أبدا.
لقد كانت علاقة المثقف بالسياسي في الغالب الأعم علاقة متشنجة، متأزمة، صدامية في العديد من الحالات، تمامًا كما في بقية دول العالم، نظرا لسعي السياسي المعاكس الّذي يخلق به أعداءه المثقفين، وسعي المثقف المعاكس الّذي ينظر به إلى السياسي نظرة معارضة. وقد كانت الحروب الباردة والساخنة بينهما وقودا دائمًا لإنتاج الأفكار الجديدة وطرح المساءلات ومحاولة تبريرها من طرف المثقف، كما كانت مجالا لحياكة استراتيجيات مُضادة وطرائق هدم مُبرمج وتحويل منهجي لطاقات المثقف وتوجيهها إلى غير وعاءاتها وغير مصبّاتها من طرف السياسي.
لا يمكننا أن نتصور أنّ الحراك، كما يبدو تعامل المثقفين معه اليوم، سيقدم أنموذجًا جديدا لعلاقة متحسنة بين المثقف والسياسي. ربّما كانت الأجيال التي عايشت الاستقلال وأزمات الدولة الوطنية بما فيها أزمة التسعينيات أكثر حذرا وذكاءً في التعامل مع السياسي عمومًا ومع ما يريد الحراك أن يطرحه من بدائل، لكن هناك جيل جديد من المثقفين الجزائريين الشباب لا يحملون المقاربة نفسها التي حملتها الأجيال الأولى من المثقفين نظرا لاختلاف المرجعيات الثقافية التي تصوغ المواقف الإيديولوجية لكِلاَ الجيلين ونظرا لاتصال الجيل الجديد من المثقفين بواقع كوني أصبح أكثر تأثيرا في نحت أنواع جديدة من المثقفين المرتبطين بما يقدمه عالم الافتراض والثورة الرقمية وما يتيحه من دمقرطة للتصورات العلمية التي تعمل كلها على صياغات مختلفة لعلاقة المثقف مع السياسي بسبب ما يقدمه عالم اليوم من صياغات جديدة لمفاهيم الممارسة الفكرية والفلسفية والثقافية وانعكاسها على المشاريع السياسية التي ينفذها ساسة شباب جُدد في الدول العظمى من دون الحاجة إلى استعمال التاريخ والايدولوجيا كتعِلّة أو تقيّة من أجل البقاء في السلطة. لقد أصبحت المفاهيم الجديدة لأساليب مُمارسة السلطة أكثر وضوحًا وشفافية وأصبحت، من ثمّة، علاقة المثقف بها أكثر وضوحًا ممّا يجعل الأجيال الجديدة تدرك فارق الممارسات السياسية والتمييز بين ما هو دكتاتوري منها، وما هو ديمقراطي من خلال آليات المحاسبة التي يتيحها عالم التكنولوجيا بثورته الرقمية الزاحفة.
لا يمكن للأجيال القادمة أن تخرج عن إمكانية تمثّل هذه التصورات من أجل إيجاد آليات لإعادة إنتاج العُقد التاريخية التي درجت عليها الممارسة السياسية في فترات ما قبل تكون الدولة الوطنية أو بعدها. ولابدّ للحراك أن يكون له أثرٌ بارزٌ في تشكيل رؤى ثقافية وسياسية جديدة تتجاوز الحرن الإيديولوجي الّذي يقف جدارا مانعًا لتطوير مشروع مجتمع يتفق فيه المثقف والسياسي على الحد الأدنى من المبادئ الجامعة لوحدة المجتمع كما هو الحال بالنسبة للمجتمعات التي تجاوزت هذه المرحلة، وتصبح فيه الخلافات الفكرية والإيديولوجية قابلة للتسيير العقلاني المانع لكلّ حالات الصراع التي رأيناها بين المثقف والسياسي في مراحل تاريخية سابقة.

عبد الحميد ختالة/ كاتب وناقد
قد يعيد الحراك للمثقف ما استأثر به السياسي
كانت دومًا علاقة المثقف بالسياسي تحكمها علائق مُركبة جدا يشوبها الغموض والتستر والتردّد والارتباك، خاصة في الوضعيات المُضطربة لحياة الشعوب، ما يجعل كلّ طرف من القضية متعددا ومتنوعًا ومُختلفًا، فقد نجد المُثقف المناضل والمعارض والمداهن والمتحزب والمحايد والمراقب وقد نجد المثقف الصامت جدا، وفي الطرف الآخر نجد كذلك السياسي المُتعلم والمثقف والمناضل والانتهازي والوصولي والمعارض والمُدجّن، ومع هذا التنوع تتداخل العلاقة بينهما، هل يتكامل المثقف والسياسي من أجل الخروج من الحالة المضطربة التي تعيشها الجزائر؟ أم أنّ هناك استغلال سلبي مُزدوج تضيع معه المصالح العامة وتضيق آفاق الأمل؟
لا نختلف في أنّ المُثقف مستنير الذهن ومهذب الذوق يمتلك أدوات النقد اللازمة للتحليل والتعبير، ومن أجل ذلك استعان السياسي في كلّ الحضارات بالمستشار والوزير سواء لإدارة الحُكم أو لتهيئة وريث الحُكم (لكن هذا لم يحدث في الجزائر)، ولعل هذه الصفات بالذات  التي يتميز بها المثقف هي التي أربكت السياسي وجعلته يتجاوز رأي المُثقف أو يُصادره كاملا، فقط من أجل إثبات مهاراته القيادية وأفكاره المنبثقة من التجريب الميداني، فالسياسي مصقول تطبيقيًا في ميدان التجربة والواقع.
الحقيقة هي أنّه عبر التاريخ كانت الثقافة تعني الحكمة والفلسفة والدين وكانت السياسية تعني التدبير والحيلة والمراوغة، وإنّ أي سياسة لا تتكئ على مرجعية فلسفية تؤمّن لها الإجابات المقنعة في حالات اللا استقرار للشعوب هي سياسة آيلة للفشل، فالمثقف هو ضمير الشعوب وصوتها، وهو الضامن لمستويات الوعي الاجتماعي وهو المؤشر الحقيقي على مدى تطور وتنور المجتمعات البشرية وقدرتها على ضبط خياراتها السياسية، وهذا كله يصب في مصلحة السياسي. والذي حدث ويحدث في الجزائر أنّ السياسي يحاول دائما أن يُخضع المثقف لصالح أجنداته، بمعنى أوضح يحاول استخدامه كأداة لتنفيذ طموحاته ورغباته وفوق هذا يحاول إجهاض كل أفكاره التنويرية وإسكات صوته الخاص من إلباسه الصوت الذي يرغب فيه السياسي وترغبه في السُلط المتعددة الطموحات والاستحواذ على كل الامتيازات.
طبعا عرفتْ الجزائر في السابق حالة متميزة في شخصية الأمير عبد القادر الجزائري وهو الّذي جمع في شخصه بين المثقف والسياسي في آن، وقد كان هذا سببًا واضحًا في قيام فكرة الجزائر الحديثة، لتضطرب بعدها العلاقة بين المثقف والسياسي في كثير من المحطات المفصلية في تاريخ الجزائر الحديث وتدخل في حروب باردة وتنساق إلى خطابات صدامية، إمّا نتيجة التغييب المُدبر لدور المُثقف استهانةً به، أو لأنّه فشل في استشراف التغيرات المُمكنة في عالم الوقائع، وأصبح دور المُثقف لا يتعدى التقارير الإعلامية عما حدث، حتى لكأنّه يظهر في بعض الحالات بأنّه قد تجاوزته الأحداث لاهثًا خلف الحقيقة المُتخفية في جبة السياسي.
تأخّرَ دور المُثقف في المشهد السياسي في الجزائر رسميًا واجتماعيًا، فعلى المستوى الرسمي تُعاني الفئة المُثقفة من تهميش صريح تجلى أبرزه في تصنيف وزارة الثقافة خارج الوزارات السيادية، فهي بلا تأثير في أي قرار ضامن للسيادة الوطنية.
وهمّشت دوائر السيادة في الجزائر المنجز الإبداعي نقدا وفلسفة وشعرا ورواية وهو الّذي يقدم قراءة واعية للراهن ويحمل تصورات إستشرافية للآتي، وأبقت فقط على اللغو كممثل وحيد للثقافة وهو ما أنتج احتقارا اجتماعيًا قوّض من كينونة المثقف وهدم آخر قلاعه الدفاعية عن الهُوية الوطنية، بعدما سُلبت منه أدوات الهجوم ثقافيًا على كلّ من يخدش مقدسات المجتمع الجزائري دينيًا وتاريخيًا واجتماعيًا.
لا أريد أن أحمّل الحَراك الشعبي فوق ما يطيق، ولكنّي متفائل بمستوى الوعي الاجتماعي الّذي أبان عليه الشارع الجزائري في استعادة دور المثقف في صناعة المشهد السياسي في الجزائر، هذا الدور الّذي استأثر به السياسي منفردا فانفلتت من يده آخر قطرات حفظ ماء الوجه، وإنّي أجد الوقت قد حان للسياسي لأن ينصت باهتمام كبير لصوت المثقف المناضل والمفكر والمتألم بما تعيشه الجزائر، من أجل رسم فسيفساء ناطقة باسم الشعب الجزائري. وبما أنّ الحراك استطاع أن يُحقق هذا الانتباه لصوته ولمسعاه وأحلامه وتطلعاته، إذ لفت انتباه السياسي والمثقف والإعلامي وكلّ الحساسيات وحتى كلّ الجغرافيات في العالم، التي شاهدته بدهشة وانبهار، فمن المأمول جدا أن يصالح الحراك بين السياسي والمثقف، وأن يساهم في جعل العلاقة بينهما في القريب الممكن، علاقة تكاملية، تشاركية بعيدة عن التحامل والصدامية، تنتفي فيها الأسئلة القديمة التي كانت تدور حول العلاقة الثنائية المُربكة والشائكة بين المثقف والسياسي. وعلينا أن نأمل في هذه العلاقة وأن نسعى كلٌّ من جهته لتكون علاقة تكامل لا علاقة تحامل. 

الرجوع إلى الأعلى