الشاعر لا يغيّر العالم لكنّه يجعله أرحب
* ديانة الشِّعر الأولى والأخيرة هي الحرية
تتحدث الشاعرة والكاتبة والأكاديمية الدكتورة زينب الأعوج عن الشِّعر وبعض هواجسه وحالاته. وهي ترى بشكل كبير أنّ الشِّعر هو ملح الحياة وهو التاريخ الآخر الّذي أضافه الشاعر للإنسانية. كما تتحدث عن الشاعر وتقول  في حوار للنصر إنّه لا ينوي تغيير العالم وأنّه لا يدعي ذلك لكنّه بالتأكيد يطمح إلى إضافة شيء ما، جميل بالتأكيد يوفر من خلاله الوسائل الشفافة لتجاوز ما هو بئيس ومبتئس حولنا أو فينا وتعميق ما هو جميل ورائع. صاحبة "راقصة المعبد" تتحدث عن تجربتها في كتابة الشِّعر الشعبي، وتسرد هنا بداياتها في كتابة هذا النوع من الشّعر، وهي ترى أنّ الشّعر الشعبي مهم جدا وله مكانته، حتى أنّها تذهب إلى القول إنّ أهم النصوص الإنسانية كُتبت بلغة شعوبها المُتداولة.

* حاورتها/ نــوّارة لـــحـــرش


هل بإمكان الشِّعر أن يرصد الواقع والوقائع بشكل محايد، بعيدا عن العاطفة الذاتية، خاصة أنّه بالأساس حالة والحالة وليدة اللحظة؟
زينب الأعوج: أنا أومن أنّ الشِّعر هو بالأساس عاطفة وحالة ذاتية متقدمة وأحاسيس مرهفة وحساسية مفرطة تجاه الأشياء وإلاّ فهو عبارة عن كلام مصفوف ومرصوص ربّما بلغة جميلة ومقتناة بشكلٍ مُتميز ولكن مع ذلك يبقى بدون روح ولا اِهتزازات داخلية، يبقى بعيداً عن ارتعاشات تلك اللحظة الخاصة في العلاقة مع اللّغة كعمق روحي وكثقافة مُتعدّدة وكموروث إنساني بكل غناه.
الشِّعر هو عاطفة ولغة وصورة شِعرية وحالات إنسانية تأتي كالومضة، كالإغفاءة، كخيط النّور المتسرب إلى الرّوح والمتسرب من الرّوح نحو الآخر، المتلقي. السرّ كله، واللّغز في العملية الإبداعية يكمن في طريقة ملامسة ومقاربة ما نريد الإفصاح عنه وما يريد أن يتحرّر منا ليحيى على الورق. الشِّعر هو بالأساس تلك الحالة الذاتية الداخلية والحميمة التي نحاول من خلالها أن نقول الأنا ونقول الآخر المُتعدّد والآخر المختلف، هو الحالة المُتميزة التي تدفعنا إلى اِستشراف ما هو آت. الشِّعر هو لمس ما هو جميل وعميق في دواخلنا، الشِّعر هو تلك اللمسة السحرية التي هي وحدها القادرة على ترويض الوحش الّذي يسكن الإنسان، الشِّعر هو الاِقتراب من أفظع الأشياء وأقسى الحالات بشفافية وجمالية وإلا كان المقال الصحفي القادر والمتمكن هو البديل الأجدى والأنفع، الشِّعر هو قبل كلّ شيء حالة داخلية فيها من العمق ما يكفي لأن نغرق العالم كله بالحب والجمال حتّى ونحن نحكي المرارة، الشِّعر هو التساؤل الدائم عن قيمة الحياة وجدواها عن دور الإنسان فيها، هو المرآة التي تعرينا وتفضح عوراتنا بما له من قدرة على اِختراق المسلمات وتطويع اللّغة والتسلل إلى خفايا الأشياء، هو الوجه الآخر للحرية وهو اللّغة وهي تتعرى من قداستها واللّغة وهي تخلق ألوانها وخطوطها، اللّغة التي هي المبدع ذاته لأنّه هو الّذي يغازلها ويشاكسها، يفككها، ومن هنا نرى أنّ الشِّعر هو الجمالية التي تنبئ بالاِندهاش والإدهاش، هو عصى الساحر الّذي يهز يقينيّاتنا ويدفعنا إلى التساؤل الدائم ويتركنا نقف أمام المرآة عُراةً إلاّ من صدقنا وما نملك من أدوات لخوض غمار مغامرة الكتابة أو الحالة الإبداعية التي نعيشها.
وماذا عن الشاعر؟ ما الذي يمكن أن يقدمه للنّاس والعالم؟
زينب الأعوج: يجب أن نبحث من جديد في فلسفة الآية القرآنية الكريمة: "والشعراء يتبعهم الغاوون...." في معناها الشفاف الأعمق والأقوى والأجمل والحكيم... طبعًا الشاعر لا ينوي تغيير العالم ولا أظن أنّه يدعي ذلك لكنّه بالتأكيد يطمح إلى إضافة شيء ما، جميل بالتأكيد يوفر لنا من خلاله الوسائل الشفافة لتجاوز ما هو بئيس ومبتئس حولنا أو فينا وتعميق ما هو جميل ورائع، إنّه يحرك فينا طاقة الحياة بما يسكنه فينا من تساؤل وحب وشفافية وفضول وشغف وحلم وخيال يجعل العالم أوسع في أعيننا وقلوبنا وأكثر رحابة. الشِّعر هو حالة التوازن التي يمنحها الشاعر لنفسه وللقارئ كأي قطعة موسيقية، كأي لوحة تشكيلية، وكأي مظهر مبهر في الطبيعة. الشِّعر هو ملح الحياة وهو التاريخ الآخر الّذي أضافه الشاعر للإنسانية، هذا ما أحاول الوصول إليه من خلال تجاربي في الكتابة. وطبعا لكلّ قصيدة طقوسها الخاصة بها وتجليها كلحظة الإيمان الحميمية جدا.
وهل بإمكان الشِّعر أن يكون صوت الإنسان وأن يعبر عن مآزق الحياة والإنسان؟
زينب الأعوج:  طبعًا هذا وذاك في الوقت نفسه لأنّ الأمر مرتبط بالأساس بالشاعر، هو قبل كلّ شيء إنسان، ويعيش وسط النّاس، إنّه فيهم ومنهم، لا يعيش في قارة منعزلة حتى ولو أراد. طبعًا قابلية تلمس الأشياء ولمس عُمقها تتفاوت بين مبدع وآخر. كلّ ما وصلنا من الشِّعر العربي قديمه وحديثه إلى حد الآن لوح بالأقراح والجراح والنكبات والهزائم كما أنّه اِحتفى بالاِنتصارات والأفراح وبالحب وبالعشق وبالوجد وبالتجلي وبقيمة الإنسان وبالحريات الفردية والجماعية.
مثلاً في تاريخنا الحديث ومنذ الحركات الوطنية والاستقلالات وبناء الدولة الوطنية في مجتمعاتنا ومع النضالات المتواصلة من أجل تحقيق مشاريع اِجتماعية وثقافية وسياسية نيرة ومنفتحة على العالم برز شعراء كُثر لا زالت قصائدهم إلى حد الآن بمحتواها وجماليّتها ورهافتها وشفافيّتها تعتبر مشروعًا إنسانيًا في حد ذاتها. يجب أن نُعيد قراءة الشِّعر العربي والإنساني بشكلٍ عام لأنّ هناك تقاطعات وتشابهات مرتبطة بالحالات الإنسانية المشتركة، ويجب أن يسترجع الشِّعر مكانته التي يستحقها في المدارس والثانويات والجامعات والشارع والأماكن العمومية، يجب أن يُحتفى بالشِّعر كما يُحتفى بالمولود الجديد بعد يأس من مجيئه، بمثل ما يحتفى بكلّ شيء يجمل الحياة ويرغبنا في حبها وعيشها بشغف.
صدقيني أنّني أغار لما أرى في الميترو وفي الحافلات في كلّ الدول الأوروبية التي سافرت إليها مقاطع شعرية تواجهك أينما اِتجهت وأسماء شعراء وملصقات لعناوين مجموعات شِعرية، سوق الشِّعر في باريس أو ربيع الشِّعر في العالم. أو مهرجانات الشِّعر العالمية في كلّ القارات، لا يمكنني هنا أن أحصي كلّ المنابر والمساحات العالمية التي تحتفي بالشِّعر كما يستحق أن يُحتفى به، فقط يجب أن أقول وأن ألح وأن أطالب أنّه يجب أن نعمل على اِسترجاع العلاقة الحميمة بين الشِّعر وما يحيط به من مساحات إبداعية ممكنة كالمسرح مثلا توأمه الأجمل.
أغار وأنا أعيش لحظة اِحتفاء بشاعر ما أو بنص شعري ما في بلد من البلدان العربية (في ذهني وذاكرتي تجربة سوريا التي عشت فيها ما يُقارب العشر سنوات)، الكثير من التقاليد يجب تكريسها وإعادة إحيائها فهي لن تكلفنا إلاّ ثمن اِختياراتنا ومزيدا لعشق الحياة بكلّ بهائها بالرغم مِمَا يتخللها من مآس وفجائع.
تكتبين أيضا بالعامية. ما دوافع ذلك؟
زينب الأعوج:  لتلك التجربة مع العامية في الشِّعر قصة طويلة، جميلة ومؤلمة وموجعة وحارقة كانت بداياتها العفوية مرتبطة بطفولتي ومرحلة شبابي وأنا أستمع إلى ما كانت تدندنه جدتي وعمتي عن الشهداء والمجاهدين والأولياء الصالحين، ومع الحضرة والفقارات حيث كنت أرافق جدتي (الزهراء بنت أحمد) التي كانت تفتخر بأجدادها القادمين من الساقية الحمراء، هذه الجدة التي كانت تنتمي إلى (زاوية سيدي أحمد بن موسى) والتي توفيت في السبعينيات وعمرها يقارب 115 سنة. كانت طبيبة شعبية وقابلة، جدتي لم ير سبحتها أحد طوال حياتها لأنّه في فلسفة طريقتها فإنّ السبحة يجب أن تستر ولذلك كانت تسبح والسبحة مخبأة في كيس صغير من أجمل القماش وكثيرا ما كانت تشبع فضولي فتدخل يدي في الكيس لأتلمس السبحة وهي تمطرني بأجمل الدعوات التي كانت تفرحني وتبهج قلب الطفلة التي كنتها، ماتت وهي مؤمنة بأنّ سبحتها كانت تتحرك كما تريد في العتمة وتعود إلى الكيس وكأنّها كائن حي يعرف مسكنه.
كان المذياع يصدح يوميًا بحيزية وراشدة ويا ولفي مريم وغيرها من الأغاني التي أثثت طفولتنا وشبابنا. وتلك الأناشيد والأغاني الوطنية الشعبية سواء في البيت أو المدرسة أو في (فرّان عمّي بلقاسم بحي الباطوار بمدينتي، مغنية) كبرنا مع حيّوا الشمال الإفريقي، ويا الغابة نوري ودرڤي داك الشباب، والغابة حنينة ربات المجاهدين.
مع أواسط الثمانينيات مباشرة بعد رجوعنا من سوريا وكنت قد لاحظت نوعا من العنف قد بدأ يطفو على السطح في المجتمع وكثرة المظاهر غير المقبولة المسكوت عنها والمخبأة والتي بدأت تظهر خاصة على مستوى الصحافة وبشكل كثيرا ما يشوبه التناقض والغموض، بدأت ألمس العنف اللفظي ضد المرأة واِتهامها بمختلف التهم على صفحات الجرائد وفي خطب الجمعة وعلى مستوى التلفزة والإذاعة الشيء الذي أثارني، إذ لاحظت كثرة الأسماء المستعارة على صفحات الجرائد، حينها كنت أشرف على صفحة المرأة في جريدة المساء أوّل ما أُسست. هذه العوالم تركت القصائد الشعبية تأتي بعفوية لأنها جزء من ثقافتي وتكويني وأيضا أردت أن أعبر بلغة أقرب إلى كلّ الناس وليس فئة معينة فقط.
أهم النصوص الإنسانية كُتبت بلغة شعوبها المُتداولة
أيضا قلتِ: "الشِّعر الشعبي يستطيع أن يعبر عن العديد من الحالات بشكل عفوي. هل هذا يعني أن الشِّعر الفصيح لا يستطيع أن يعبر بشكلٍ عفوي؟
زينب الأعوج: لا نوع من أنواع الإبداع يلغي الآخر، لكلّ نوع أدواته ووسائله الإغرائية والإمتاعية والجمالية تلك الأنامل الخفية والشفافة المحركة للمشاعر ولدواخل الإنسان، المسألة ليست مسألة منافسة أو إزاحة من موقع معين ومن مكان محدد بقدر ما هي قضية الاِرتباط بالموروث الإنساني المُتمثل في الموروث الشعبي الّذي هو الركيزة الأساسية لكلّ ما وصلنا من إبداع، حتّى اللّغة العربية الفصحى هي في الأصل نتيجة غربلة اللهجات التي كان يتعامل معها العرب منذ سوق عكاظ على الأقل إلى الآن. للقصيدة الشعبية جماليتها وشفافيتها وتأثريها ربّما على كلّ النّاس لما لها من علاقة حميمة مع اللّغة اليومية والمعيش اليومي والعلاقات الإنسانية بكلّ قوتها وزخمها (قصيدة حيزية وراشدة والقصائد التي رصدت الخطوات الأولى للاِستعمار الفرنسي) على الأقل الذين يفهمون ويستسيغون لغتها وموسيقاها وغنائيتها، وللقصيدة بالفصحى عُشاقها وأنا واحدة منهم يكفي أن تحرك فيّ شيئا وتدهشني.
للاِستمتاع بالقصيدة الفصحى يجب أن يكون للمتلقي أو القارئ مستوى (تعليمي ومعرفي) معين للتجاوب مع اللّغة ومع عُمق القصيدة ومع الصورة الشِّعرية، أنا أومن أنّ في القصيدة الشعبية الكثير من العفوية والعفوية لا تعني السهولة والسطحية، القصيدة الشعبية هي أيضا اِشتغالٌ مستمر على النص وعلى اللّغة وعلى الصورة الشِّعرية، ولأنّه تصعب قراءتها فإلقاؤها هو أيضا جزء من جماليتها، القصيدة الشعبية هي لكلّ النّاس وليست لفئة معينة أو للنّخبة فقط، في حين القصيدة الفصيحة أردنا أم أبينا هي للنخبة أو للفئة المتعلمة، أهم النصوص الإنسانية كُتبت بلغة شعوبها المُتداولة وأكبر دليل على ذلك رواية دون كيشوت التي كُتبت باللّغة الإسبانية المتداولة بين النّاس آنذاك، والنص الأصلي وليس المحرف لألف ليلة وليلة، سيرة الظاهر بيبرس، السيرة الهلالية، الكوميديا الإلهية، على سبيل المثال، هناك أمثلة لا تُحصى في هذا المجال بطبيعة الحال.
لديك أنطولوجيا شعرية بعنوان "مرايا الهامش". لماذا هذا العنوان تحديداً؟ وهل يحتاج الهامش إلى مرايا المركز كي يُرى ويُسمع أكثـر؟
زينب الأعوج:  يجب أن أذكر هنا أنّ واسيني بحكم علاقاته الكثيرة وسفراته التي لا تتوقف قد ساعدني كثيرا في جمع مادتها. طبعًا هي نقد لفكرة المركز والمحيط، والمُهمش والهامشي ليس معناه أنّه ليست له قيمة، بالعكس مرايا الهامش هنا هي الشاهد على منجز شعري متميز لم يجد مكانته التي يستحقها في مجال النشر والمنابر المتاحة، هي طريقتي كشاعرة للاِحتفاء ببعض الأصوات حتّى تلك المكرسة منها ومنحها مساحة للقول وفسحة للتعبير، طبعًا كلّ أنطولوجيا تخضع لاِعتبارات معينة وأنا لم أتعامل لا مع فكرة الإقصاء ولا مع عملية الجمع والحشو ولا على عملية الكم، حاولتُ فقط أن أمثل كلّ مرحلة قدر المستطاع والمساحة المتاحة للنشر بعدد من الأسماء وأن أعطي للشِّعر حقه في التعدّد والاِختلاف، هي عبارة عن خفقة ذاتية أردت أن أعطيها حيزا للبوح. أستهل الأنطولوجيا بالأمير عبد القادر حتّى لا ننساه كشاعر وكرجل محبة وسلام وعمق صوفي متميز ونتذكره فقط كمحارب. فيها أصوات كلّ المراحل إلى حد الفترة التي أنجزت فيها.
الأنطولوجيا صغيرة الحجم بشكل ربّما لم يسبق لأي أنطولوجيا أن ظهرت به؟
زينب الأعوج:  كلّ أنطولوجيا هي بالأساس اِختيار شخصي يخضع إلى حساسية من ينجزها وميوله الخاصة خاصة تلك التي ليست مرتبطة بعمل أكاديمي معين، تأتي برغبة التعريف بمنجز معين لمرحلة أو مراحل معينة. هي نوع من التكرم أيضًا.
ن/ل

الرجوع إلى الأعلى