كلّما رأينا ممثلا يظهر في السينما لأول مرة وهو يمتلك أدواته الفنية الكاملة رغم صغر سنه نكون متأكدين أنه خرّيج خشبة المسرح التي هي مصنع حقيقي للممثل الجيد والمقتدر، ويرتبط المسرح في العموم بحضور ممثلين يُشترط فيهم في الغالب سرعة الحركة والبديهة والقدرة على حفظ الدور واللياقة اللازمة التي تتلاءم مع مختلف المواقف، وقد يكون هذا من أصعب ما يواجه الممثلين كلما تقدموا في السن، إذ تنقص الحركة ويصعب التنقل ويثقل على الفنان الالتزام بالعرض وإعادته كل يوم أمام الجمهور بالكفاءة ذاتها، غير أنّ هذا لا يعني أنّ التقدم في السن سبب لأن ينزل المسرح ستارته دون مشاركة الممثلين المتقدمين في السن.

* ياسين سليماني

لدينا أمثلة عديدة في العالم عن مشاركة الممثلين كبار السن في المسرح، وهم إن لم يكونوا القاطرة التي تحرك العرض فإنهم تروس مهمة لا يمكن التغاضي عن ضرورتها في بنيويته. وبداية فإنّ المسرح في العالم على غير ما يجري في شمال إفريقيا والمنطقة العربية يهتم بتيمة الشيخوخة وكبار السن وانشغالاتهم وهمومهم، ولدينا نماذج كثيرة يمكن الاستدلال بها. في مونودراما «78عام.كوم» التي كتبها فريديريك دوبوست تنتهي بالعجوز أوديت إلى القول «إذا كان لديكم خمس دقائق، تعالوا وانظروا إلينا في منازلنا! المسنّون ليسوا جميلين، ليس من السهل دائمًا إقناعهم بشيء، لكنهم لا يعضُّون!»
تسدّد العبارة الأخيرة «لا يعضّون» سهمها إلى سويداء القلب بشكل مباشر دون مواربة ولا محاولة للتخفي وراء لغة منمّقة، إنها تختصر أغلب مشكلات المسنّين في أواخر حياتهم حيث تضجّ الذاكرة بالغائبين ويخلو المكان من الحاضرين وتتحوّل الوحدة إلى خبز بارد يقتات منه العجوز، وهو ذات ما نجده في مسرحية «أغاتا وحقائقها» للكاتب نفسه عندما يجري حوار بين أغاتا السيدة البالغة سبعين سنة مع صحافي يزورها في بيتها:
أغاتـا: الشيخوخة تأخذ راحتها مع الوحدة.
غـول: لا أفهم ...
أغاثـا: الشعور بالوحدة مستمر مع كبار السن...أصدقاؤنا يغادرون واحدًا تلو الآخر ... حتى أولئك الذين نكرههم والذين نستمتع بقول الأشياء السيئة لهم من دواعي سروري قول الأشياء السيئة، ينسحبون على أطراف أصابعهم.
أمّا في مسرحية «آه، الأيام القديمة» لبرنارد دي ماركو نجد ثلاثة كبار السن، امرأة ورجلان، يجدون أنفسهم فترة ظهيرة في حديقة دار المسنين، إنهم لا يشبهون بعضهم، ليسوا مرتاحين لوجودهم في هذا المكان، ومع ذلك نعرف من خلال مناقشات لاذعة تجري بينهم أنّ لديهم ماضيا مشتركا وهو ماضٍ يحمل الكثير من العمق والجمال.
لكن ليست كلّ المسرحيات التي تناقش تيمة المسنّين تشجع على استدرار الدمع والتعاطف مع هذه الفئة باعتبارها فئة ابتُليت بصروف الدهر، فئة هشة تحتاج المساعدة، فمسرحية فرانسوا فيونتاس «حب.كوم» عمل كوميدي في غاية البهجة، فعلى الرغم من أنّ شخصية «هي» تبلغ أربعا وثمانين سنة إلاّ أنها تنشر إعلانا في موقع «Amours.com» تطلب فيه التعرف على رجل، وعندما يأتي «هو» الذي لا يبتعد كثيرا عن سنها يحدث الحب من أول نظرة، وتتحوّل المواعدة إلى لقاء في غاية الثراء الإنساني والعاطفي.
الممثلون المسنّون في العروض
وإذا كانت الكتابة عن التقدم في العمر تحظى ببعض الاهتمام ويمكن إيجاد الكثير من النصوص في هذا إلاّ أنّ حضور الممثلين ذوي الأعمار المتقدمة ليس بالحضور الكافي، إذ يستسهل الكثير من المخرجين في إسناد الأدوار التي تمثل شخصيات الإنسان المسنّ، وغالبا ما يقوم شباب أو كهول بها ، يكفي أن يستعين المخرج بماكيير يحوّل الشكل الخارجي للممثل إلى متطلبات شخصية مسنة، وحيث أنّ الممثل المقتدر لا يصعب عليه أداء مثل هذه الأدوار فإنّ إسناد دور له بهذه المواصفات لا يتطلب تفكيرا طويلا خاصة مع النمطية التي صارت إليها صورة المسن الجسمية، كما أنّ وجود ممثلين كبار السن على المسرح حالة شديدة الخصوصية، فعلى خلاف العروض السينمائية أو التلفزيونية التي تحتاج جهدا وحضورا ذهنيا مهما فإنّ العروض المسرحية تحتاج جهدا مضاعفا وحضورا ذهنيا ولياقة بدنية أكبر، خاصة مع تكرار العروض التي تكون يومية في بعضها وقد تصل إلى مرتين في اليوم ذاته في مكانين مختلفين. دون أن ننسى الجولات الفنية التي يلتزم بها صنّاع العرض والتي تجوب عددا من المدن في البلاد الواحدة.
في مونودراما «نحن جميعا مسنّون» تقدّم الخمسينية آن كانجيلوسي (الحاصلة على جوائز كبيرة في المسرح بفرنسا) دور جوزفين العجوز الثمانينية وهي سيدة عنصرية تفوز برحلة كانت تحلم بها إلى مصر، غير أن حلمها تحول إلى كابوس عندما تقع في مواجهة الآخرين ويظهر تحيزها ضد الغرباء والشباب، العرض رحلة هزلية عن الأحكام المسبقة والغباء والجهل تقول من خلاله كانجيلوسي أنه بقليل من الانفتاح يمكن أن يكون الآخر الذي كنا نجهله مصدر ثروة وصديق وأنّ التقدم في السنّ لا يعني دائما امتلاك الحكمة والنضج الكافيين. تم الاشتغال –كما هو متوقع في هذا النوع من الأدوار-على الشكل الخارجي للممثلة، الشعر الرمادي، لباس العجائز مع شال وعصا، وتلوين الصوت، هكذا يتم القفز على نحو خمس وثلاثين سنة بين سن الممثلة الحقيقي وسن الشخصية التي تجسد دورها. العرض أيضا واحد من أفضل أعمالها على الإطلاق ولكنه في الوقت ذاته يدلل بوضوح على الاتجاه السائد في إسناد أدوار المسنين لممثلين غير مسنين.  
قد يبدو السؤال عن حضور الممثلين المسنين في المسرح ترفاً فكريا في الكثير من البلدان التي تعاني من شح في العروض في مقابل عدد مطّرد من خريجي أقسام الفنون وورشات التمثيل، لكنّ في حالة الممثلين المسنين فإنّ المشاركات في العروض المسرحية تتناقص بشكل حاد لاستناد المخرجين في الغالب على ممثلين أقل سنا كما رأينا مع المثال السابق أو لانحياز الممثل ذاته إلى السينما والتلفزيون بعيدا عن المسرح للصعوبات المذكورة.
في عرض «سابقا كنتُ مسنّا» الذي سيعود في جولة عرض من اثني عشر عرضا بين 4 و27 أكتوبر القادم، بعد أكثر من أربعين عرضا قبل فترة كورونا، نجد أنفسنا أمام كوميديا كل أبطالها من كبار السن، ليست الشخصيات وحسب، ولكنّ الممثلين أيضا، فالعرض تم إنتاجه بدعم من صندوق التقاعد ضمن دعمه لعروض أخرى فالشيخوخة ليست عقوبة، هذا ما يقوله العرض الذي يظهر بيير الرجل الستيني، سريع الغضب غارقا في عاداته كمتقاعد جديد، قبل أن يلتقي امرأة شابة تدعى إيلين ستقلب حياته رأسًا على عقب، تمنح طعمًا لبقية حياته. هذا نوع من العروض التي يتم فيها إدماج فئة هشة تعودت العمل والنشاط طوال سنوات كثيرة لتجد نفسها في فراغ قاتل بعدها بسبب التقدم في السن. يحاول أن يقول أن هناك حياة كاملة تستحق أن تُعاش بكل قوة حتى ولو كنا مسنّين.
لدينا أكثر من مثال جيد عالميا لممثلين استمروا في الوقوف على الخشبة رغم التقدم الكبير في العمر، الممثل الفرنسي كلود براسور الذي توفي قبل عام (ديسمبر 2020) استمرّت حياته الفنية إلى جانب مشاركته في أكثر من 110 أفلام قدم أكثر من 35 عملا مسرحيا ابتداء من عام 1955 في سن التاسعة عشر مع عرض «يهوذا» لمارسيل بانيول إلى آخر مشاركاته عام 2017 في سن الواحدة والثمانين مع عرض «الفيلسوف المعوز» لماريفو، شخصية الفيلسوف الذي يكتب مذكراته ويشارك الناسَ أفكاره عن المجتمع في عصره مع التأكيد على فلسفته في الحياة ويوجه انتقادا لاذعا لمعاصريه، رجل كان ثريا أضاع ثروته خلف ملذاته لكنه لا يندم على أي شيء بل يؤكد على سعيه الدائم للفرح في مادام حيا.
النص ومن بعده العرض يناسب حتما ممثلا مسنّا في الثمانين، الحركات المحدودة التي يقوم بها على الخشبة، الصوت الهادئ الذي يرتفع في أوقات محددة مؤطرة، العرض ذاته يقدم فيلسوفا يكتب مذكراته، فهو يحمل أوراقا ويقرأ منها، عرض شديد التوافق مع رجل في مثل هذه السن. ماريفو الذي يقدمه الممثل المسن، هو ذاته ماريفو الذي قدم له قبل خمسين سنة كاملة نصه الشهير «لعبة الحب والحظ» عام 1967. وبين كلود براسور الشاب الذي ينحدر من عائلة عريقة في المسرح بامتياز وكلود براسور المسنّ بقي الوهج وازداد واهتم معه الإعلام وبقيت ذاكرته متوهجة إلى آخر مراحل حياته.
وكما ناضل براسور إلى سنواته الأخيرة بقيت التسعينية لورانس بادي تقف على خشبة المسرح وتحظى العروض التي تشارك فيها بنجاحات كبيرة. وفي الواقع علينا أن نقف بالكثير من الاحترام ونوسّع من التقدير لهذه الممثلة التي بدأت التمثيل في منتصف الأربعينات مع عروض لمسرحيات شكسبير وتشيكوف وموليير وبومارشي وظلّت تمثل حتى بلوغها التسعين (من مواليد 1928). واستقراء سريع لحياتها الفنية في المسرح لوحده (إلى جانب مئات الأدوار في السينما والتلفزيون والدبلجة) يظهر أنها شاركت في الفترة التي بلغت فيها السبعين بعشر أعمال كاملة بعضها استمر عرضه لأكثر من عام، وحاز عرض «L›Amour sur un plateau» نجاحا جماهيريا كبيرا كما شاهده أكثر من مليون شخص عند عرضه على المباشر في إحدى القنوات الفرنسية، في هذه السن المتقدمة لا تتوقف بادي عن الكوميديا، ويمتدح النقاد سلاسة التمثيل عندها وجاذبيته، لورانس في العرض تمهد للموقف الهزلي لزميلتها إيزابيل مارغو (التي كتبت النص أيضا) وتتلقفه إيزابيل ليحدث الضحك. ومع بيير بالماد كذلك يمكن للوقوف على الدَرج دون ملفوظات لكن بالاشتغال على تعابير الوجه فحسب يثير الكثير من البهجة عند المتلقي، السرعة والسلاسة، الصعود على الدرج والنزول، تأثير الزمن واضح للمشاهد على الممثلة لكن من الصعب أن يقال أنها ثمانينية تقف على الخشبة، اللعب على تموجات الصوت، إيقاع المشاهد حتى في لحظات غياب الحوار، تعبيرات الوجه تعطي مفعولها. لورانس بادي بحكم خبرة السبعين سنة على المسرح تعرف جيدا كيف توزع طاقتها الجسدية حركة وصوتا على كامل العرض، تعرف جيدا إمكانياتها الفنية لكنها أيضا تعرف ظلال الزمن عليها وهذا الوعي هو الذي جعلها تشارك في عرض من ساعتين دون أن يبدو أن وهجها تناقص أو  أن طاقتها تراجعت.
إنّ حضور الممثلين ذوي الأعمار المتقدمة لا يجب أن يكون فقط في أدوار مكمّلة ولكن من الجيد أن تتوسع الكتابة المسرحية لتقديم أعمال خاصة بهم يكونون أبطالها مع توظيف الأساليب الفنية التي تمكّن من الاستفادة من خبرتهم مع استيعاب وضعيتهم الصحية المتعلقة بالسن. الفنان المسرحي لا ينطبق عليه سن التقاعد، وسن التقاعد حتى خارج الفن ليس معناه الكف عن الفرح والبهجة والعطاء، حضور الفنان المسرحي المتقدم في السن في العروض هو في ذاته كتاب تاريخ فني كبير ماثل على الخشبة أمام الناس.

الرجوع إلى الأعلى