في هذا المقال أواصل ما بدأتُه في مقالٍ سابقٍ من تأمّل لوحات بعض فنّاني عصر النهضة الذين استوحوا من العهد القديم ما كان من إقدام المرأة اليهوديّة «جوديث» على إغواء عدوّ قومها «هولوفيرن» وقطع رأسه، وقد اخترتُ تجربة «جورجوني»(1504) التي أمعن فيها في تضخيم البعد القوميّ/ الدينيّ إلى حدِّ الساديّة والتوحّش، فنرى جوديث تمسك سيفَ خصمها بإحدى يديْها، وتدوس بتشفٍّ شديدٍ بإحدى قدميْها رأسَه الملقى على الأرض بين الحشائش والتراب، ويلفت نظرَنا هنا غيابُ الوصيفة التي اعتدناها ظلّا ملازما لسيّدتها، ممّا يوحي ببعدٍ اختزاليّ، حرص من خلاله هذا الفنّانُ على تضييق التجربة، وحصر التحدّي في وضعٍ ثنائيٍّ، لا يجاوز: المرأة/ اليهوديّة المنتصِرة، وعدوّ قومِها، أو عدوِّها هي: الرجل الصريع، المنكَّل برأسِه.

بهــــاء بن نوار

كما يلفت نظرَنا أيضا، في المنظر الخارجيِّ المحيط بها، تلك المصطبة المنخفضة التي وراءها، وجذع الشجرة المتوسطة الطول – كما يبدو – خلفها، ويلوح من بعيدٍ منظرُ مدينةٍ صغيرةٍ، يسندها مرتفعٌ جَبليٌّ، هي حتما مدينتها الحميمة: «بيتوليا» أو «بيت فلوى» التي ستقصدها؛ فهي في مسافةٍ وسطٍ إذن، بين قومها المنتظرين أمامها، ومخيّم الأعداء المتربّصين وراءها، وهي غير وجلةٍ أبدا، ولا مشفقةٍ من أنْ يدركها هؤلاء؛ إنّها واثقةٌ كلَّ الثقة من نجاتها، أو هي غير مباليةٍ بها، ولذلك تجد الوقت الكافي لتتوقّف، وتمارس طقسَ التنكيل والتمثيل بالرأس، وهذا في نظري هو المعنى الجوهريُّ لهذه اللوحة: الاحتفاء الاستباقيّ المنفرد بالانتصار، وعدم المبالاة بما عداه، ولذا لا نرى تلك السلّة التي يُفترَض أن يكون الرأسُ قد أُخْفِي فيها، فهل بلغت بها الجرأة أو الاستهتار أن تخرج حاملةً ذلك الرأسَ دون سترٍ أو غطاء؟ ومرةً ثانية: أين الوصيفة؟ ألم تكن بحاجةٍ إلى مساعدتها؟ أم أنّها تقف قريبا منها تترقّب، أو تجلس لتستريح على أحد اطراف المصطبة، خارج مجال رؤية المصوّر ورؤياه، فلم تلتقطها ريشته، ولا اهتمّت بها؟
  وممّا يلفت النظرَ أيضا ذلك الازدواج الحادّ في مظهر جوديث، وهيئتها؛ فوجهُها المسدَل الجفنيْن، بملامحه الخفِرة الهادئة، وشعرُها المعقوص باحتشامٍ، كلاهما يوحي بقدسيّةٍ عالية، ويستحضر في وعينا وجهَ «مريم العذراء» كما تصوّره الأيقونات الدينيّة، وتكرّسه مرارا، ويتأكّد هذا المعنى أكثر، بتأمّلنا ذلك المشبكَ اللؤلؤيَّ الذي يتوسّط أعلى ثوبها، والذي يبدو على شكلِ صليبٍ صغيرٍ، تتوسّطه جوهرةٌ زرقاءُ كبيرة. غير أنّنا لا نكاد نجاوز هذا الوجهَ المقدَّسَ الطاهرَ حتّى نُجابَه بصورةٍ مناقضةٍ تماما له، ولا تخلو من بعض الخلاعة والغواية؛ هي صورة ثوبها المفتوح أسفله، والمبدي شقّا كبيرا من ساقها العارية، ممّا يرصد ازدواجيّةً حادّةً في تكوينها، ويكرّس التناقضَ أو بالأحرى التكامل الذي تنسجم معه هذه الأضدادُ، وتتصالح.   
    وبرؤيته المميّزة، يدلي»ميكال أنجلو» بدلوه كذلك، فيلتقط أيضا لحظة الانتهاء من المهمّة، وحمل الرأس، ولكنّه يقدّمها بجرعةٍ طقوسيّةٍ عالية، فنرى في عمله – الذي أعدّه لتزيين سقف كنيسة سيستينا كما سبق ذكرُه – كلا من جوديث ووصيفتها، حافيتيْ القدميْن، في حركةٍ تنقّليّةٍ، تبدوان من خلالها على وشك المضيّ قدما، لتقديم الرأس قربانا تعبّديّا؛ فنرى الوصيفة مسبلة العينين، منحنية الجذع بخشوعٍ، لتثبيت الطبق الذي يضمّ الرأسَ المقطوعَ على رأسها، فيما تهمّ جوديث بتغطيته بوشاحٍ فاتح اللون تحمله، وأمامهما جدارٌ أصمّ، يوحي بأنّهما في مكانٍ مغلقٍ؛ في بيت الربّ بمدينتهما، لا في البريّة، ولا في خيمة العدوِّ، كما في أغلب اللوحات.
وممّا يثير انتباهَنا في هذا العمل أمران: أوّلهما تلك الضخامة اللافتة في رأس هولوفيرن، الذي يفوق حجمُه الحجمَ الطبيعيَّ لرأسِ أيِّ رجلٍ مهما كان جسدُه ضخما، وهائلا، ممّا يشير بوضوحٍ إلى صعوبة المهمّة التي اضطلعت بها جوديث، ويحيل إلى مدى العنت الذي تحمّلته الوصيفة، وهي تحمل ذلك العبءَ الثقيل، وتعبر به المعسكرَ، وتدور به في الوهدة، وتصعد الجبلَ، حتّى تصل إلى المدينة.    
ويلفت انتباهَنا أيضا وضعيّة وقوف جوديث، التي تولينا ظهرها، فلا نرى وجهَها، ولا نستطيع الجزم؛ أبريءٌ هو كوجه العذراء البتول؟ أم خليعٌ كوجه أيّة مغويةٍ فاتكة؟ ولا نلمح شعرَها أيضا، فهي تحجبه بغطاءٍ يغلّف رأسَها كلّه، ممّا يؤجّج الفضولَ، ويضيف إلى غموض هذه الشخصيّة الرمزيّ غموضا آخر مظهريّا، لا نملك إزاءه سوى مزيدٍ من الحيرة، ومزيدٍ من الأسئلة والتخمينات.
    وبعيدا عن هذا المجال الطقوسيّ، الغامض، ينقلنا «بيرناردو كافالّينو»(Bernardo Cavallino) في لوحته التي لم يُحدّد تاريخُها، إلى الجانب العاطفيّ الحميم لدى جوديث، فتبدو معه صبيّةً يافعةً، بسيطةَ المظهر جدّا، تحدّق بذهولٍ شديدٍ أمامها، وتميل بجسدها قليلا جهة اليمين، حيث يغفو قريبا منها، وكطفلٍ صغيرٍ هولوفيرن، الذي تربّت بيمناها على رأسه المتلفِّع بوشاحٍ أبيض، فيما تضع يسراها على سيفه، لا على مقبضه كما هي العادة، بل على حدِّه، ممّا يثير في أذهاننا أسئلةً كثيرةً: لماذا هذا الذهولُ الطاغي الذي يغلّف وجهَها؟ أيّة أفكار تشغلها؟ وأيّة هواجس تعتريها؟ لماذا تربِّت بكلِّ ذاك الحنان على رأس عدوِّها؟ هل هو حقّا عدوُّها؟ لعلّها تحبّه؟ لماذا تحبّه؟ أيّة كلمات عشقٍ وشوشها بها قبل أن يغفو؟ ألم يُسمِعها مثلها واحدٌ من بني جلدتها؟ لماذا لا تمسك السيفَ كبقيّة البشر من مقبضه الآمن؟ هل في نيّتها إيذاء نفسها؟ هل ستقوى مع كلِّ ما يبدو عليها رقّةٍ ورهافةٍ على أن تضرب ذلك العنقَ، وتحمل ذاك الرأس؟ قد تفعل هذا حين تحلّ في روحها وجسدها قوّة الربّ وغضبه؟ وقد تظلّ أسيرة دهشتها وذهولها حتّى يطلع النهار؟ أو قد تكون من ذاك النوع المضحِّي من النساء(Femme martyre) فتغمد السيفَ في صدرها مفضّلةً إزهاقَ روحها على إلحاق الأذى بذلك الرجل الذي تحبّه؟ لعلّها لم تحبّه أبدا، وما تلك اللمسة الرقيقة على شعره سوى إحدى أحابيلها الأنثويّة، فما أن يغفو حتّى تخلع قناعَ المحبّة ذاك، وتسفر عن وجهها الحقيقيّ؛ وجه البغض والعداء، ممّا يذكّرنا بنظيرتها الفلسطينيّة «دليلة» في إيقاعها بغريمها «شمشون» العبرانيّ، وتبدو اللوحة هنا لحظة تحوّلٍّ مفصليّ بين إحكام القناع وسقوطه.
أفكارٌ كثيرةٌ كهذه تثيرها مثل هذه اللوحة، التي اِلتقط فيها الفنّانُ الحدثَ في قمّة غموضه، واِلتباسه؛ في لحظة البدء دون سواها، ولا نملك حولها سوى مزيدٍ من الأسئلة، والافتراضات.

الرجوع إلى الأعلى